الرئسيةحول العالم

70 عامًا مرت على انعقاده، ما الذي تبقى من روح باندونغ؟ 3/1

بقلم رشيد  علي ونقلا عن موقع حبر

«لأجيال عديدة، كانت شعوبنا بلا صوت في العالم. كنا الشعوب التي لا يحسب لها حساب، التي يتخذ الآخرون قراراتها عنها، مقدمين مصالحهم، كنا الشعوب القابعة في الفقر والإذلال. ثم طالبت أممنا بالاستقلال، بل قاتلت من أجله، وحققته. ومع الاستقلال أتت المسؤولية (..) كنا نعرف كيف نعارض ونهدم، ثم واجهتنا فجأة ضرورة منح استقلالنا مضمونًا ومعنى (..) اليوم في هذه القاعة، يجتمع قادة تلك الشعوب التي لم تعد ضحية الاستعمار. لم تعد أدوات للغير ودمى لقوى لا تستطيع أن تؤثر فيها. اليوم، أنتم تمثلون شعوبًا حرة، شعوبًا باتت لها مكانة مختلفة وموقع في العالم».

من كلمة الرئيس الإندونيسي السابق أحمد سوكارنو في افتتاح المؤتمر الآسيوي الإفريقي، باندونغ،24 أبريل 1955.

قبل سبعين عامًا، بين 18 و24 أبريل 1955، انعقد المؤتمر الآسيوي الإفريقي الذي ارتبط اسمه بمدينة باندونغ الإندونيسية التي نُظم بها، والذي حضره ممثلون عن نصف سكان العالم في ذلك الوقت. يعد المؤتمر المذكور لحظة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية نظريًا وتطبيقيًا، فهو أول اجتماع دولي لممثلي المجتمعات غير الأوروبية في التاريخ الحديث؛ هذه المجتمعات التي رزحت لعقود -وفي بعض الحالات لقرون- تحت استغلال وإذلال المستعمر الغربي.

مثلت اللغة المستخدمة في المؤتمر كذلك عنصرًا مهمًا، كونها انتقلت من هموم الطبقات الشعبية الآسيوية والإفريقية التي ضحت وناضلت ضد الاستعمار لتتخذ شكل خطاب سياسي دبلوماسي رسمي ينادي بالمساواة بين جميع الدول مهما كان حجمها وقوتها,

وتوازى مع إدانة مبدئية للاستعمار باعتباره شرًا يجب التخلص منه، بعدما كان يعتبر ويُقَدم من قبل قطاعات واسعة من النخب الغربية، والنخب غير الغربية المتواطئة معها، على أنه وسيلة لنقل التحضر للشعوب الأخرى.

لكن الأهم ربما هو أن المؤتمر مثّل انطلاقًا لمشروع فعلي حاول ليس فقط تقريب الدول الآسيوية والإفريقية، بل خلق مؤسسات وأطر تعاون تسهم في تنميتها ذاتيًا، بعيدًا عن التبعية والاعتماد على المستعمرين السابقين، إضافة لرفع صوت شعوبها وتشكيل كتلة تحمل مطالبهم في المحافل الدولية. هذا الاتجاه بات يعرف باسم «روح باندونغ»، التي تبددت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. لكن السعي لإحيائها ما يزال حاضرًا.

ولادة حتمية

جاء مؤتمر باندونغ في فترة مليئة بالأحداث السياسية المتسارعة والمفصلية. ففي غشت 1953 دبرت الاستخبارات الأمريكية والبريطانية انقلابًا على حكومة محمد مصدق،  الوطنية في إيران، كان ذلك بعد ثلاث سنوات من الحرب الكورية التي أزهقت أرواح مئات آلاف الكوريين والصينيين وكان من نتائجها تقسيم شبه الجزيرة الكورية وتوقيع معاهدة دفاع مشترك أميركية – كورية جنوبية.

تبع ذلك إنشاء أحلاف عسكرية لاحتواء النفوذ الشيوعي السوفييتي والصيني، فتأسست منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا في أيلول 1954، وبعدها بأربعة أشهر حلف بغداد الحرب الباردة، . كل تلك المتغيرات وغيرها أفهمت قادة الاستقلال والتحرر الوطني في آسيا وإفريقيا أن النظام الاستعماري الكلاسيكي الذي بدأ بالتهاوي إبان الحرب العالمية الثانية سُيعاد إنتاجه أميركيًا بأشكال أخرى تضمن التبعية أحادية الجانب تجاه المركز.

لذا كان لا بد من التحرك، بالأخص في ظل أن القوة العسكرية الأميركية لن تتوانى عن إظهار أقصى ما تمتلكه من تطور تقني لقمع الشعوب النامية. هذا ما أظهرته أهوال استخدام السلاح النووي ضد اليابان، ولاحقًا الإكراه العسكري في كوريا وفيتنام وفي الحروب العربية-الإسرائيلية وغيرها.

تقاطع الاتحاد السوفيتي مع فكرة التحرر الوطني

بالتأكيد، لا يجوز إغفال أن إمكانية ائتلاف مجموعة من الدول المتحررة من وطأة الاستعمار وسعيها للانتقال من مفعول به إلى فاعل تاريخي، كانت ستكون أصعب لولا انتصار الاتحاد السوفييتي على الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وفرض نفسه كقطب جديد في النظام الدولي الذي أخذ بالتشكل حينها.

فقد تقاطع الاتحاد السوفييتي أيدولوجيًا واستراتيجيًا مع فكرة التحرر الوطني ومناهضة الإمبريالية، كما قدم نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا للتنمية بديلًا عن النموذج الرأسمالي، الذي لا يناسب واقع البلدان المتحررة، بل ويؤبد دورها في السوق العالمية كمصدّر للمواد الخام والسلع التصنيعية الفتية.

قدم الاتحاد السوفيتي مساعدة عسكرية لحركات التحرر الوطني

بالإضافة إلى كل ذلك، قدم التحالف السوفييتي الصيني (قبل انفراطه مطلع الستينيات) مساعدة عسكرية كبيرة لحركات التحرر الوطني، وذلك ما ظهر في انتصار الفيتناميين في معركة ديان بيان فو 1954 history  على قوات الاتحاد الفرنسي الاستعماري، والذي انتهى على إثرها وجوده في الهند الصينية، وقبل ذلك في دعم صمود القوات الكورية الشمالية ضد نظيرتها الجنوبية المدعومة من الغرب خلال الحرب الكورية.

حضر المؤتمر ممثلون من 29 دولة بما في ذلك الدول المنظمة، وكان من أبرز الحضور رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي تاريخ جمهورية الصين الشعبية، والرئيس المصري جمال عبد الناصر، اللذين كان المؤتمر بالنسبة لبلديهما من الخطوات المبكرة في ميدان العلاقات الدولية، بعد وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة في الصين في تشرين الأول 1949، وإسقاط الملكية في مصر في تموز 1952. هذا إلى جانب الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، وغيرهم من ممثلي الدول التي لم يمض على استقلالها أكثر من عقد من الزمن.

تناقضات بين أمريكا ومطلب فرنسا

كان من اللافت حضور العديد من الدول التي تتحالف أنظمتها مع الغرب الإمبريالي، بالأخص تلك القادمة من غرب آسيا، وهناك عاملان لتفسير ذلك؛ الأول هو عدم ممانعة الولايات المتحدة، ففي رده على مطلب السفير الفرنسي في واشنطن للضغط على دولتي ليبيريا وأثيوبيا بهدف الامتناع عن إرسال ممثلين للمؤتمر، أكد وزير الخارجية الأمريكي حينذاك جون فوستر دالاس على ضرورة حضور الدول الموالية للغرب بكثافة لتسجيل موقف مناهض للشيوعية.

أما العامل الثاني فهو رغبة المنظمين (الهند، باكستان، إندونيسيا، سيرلانكا، مينمار) في دعوة أكبر عدد ممكن من الدول النامية على اختلاف تحالفاتها السياسية والأيديولوجية الخارجية وخلفياتها الثقافية والعرقية، وذلك لصلابة الاعتقاد الذي ساد في تلك الفترة بأن هناك العديد من القواسم المشتركة التي توحد الدول حديثة الاستقلال، مثل الحاجة الملحة للتنمية الاقتصادية والمصلحة في كبح وتيرة العسكرة وما تستدعيه من أحلاف إقليمية وتقنيات حربية ذات آثار تدميرية واسعة، ودمقرطة العلاقات الدولية من خلال نبذ محاولات الهيمنة المباشرة وغير المباشرة الصادرة عن الغرب.

بعد باندونغ استمرت المؤتمرات بالانعقاد، ومنها مؤتمر التضامن الآسيوي الإفريقي في القاهرة أواخر عام 1957 في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، وتلاه مؤتمر الشعوب الإفريقية المستقلة في نيسان 1958 في العاصمة الغينية أكرا، وصولًا إلى أبرز تجليات المؤتمر في شتنبر 1961 والذي جرى الإعلان فيه عن تأسيس حركة عدم الانحياز في العاصمة اليوغسلافية بلغراد. تنامى تأثير هذه الدول ليصل الأمم المتحدة نفسها، وذلك بالضغط لتأسيس مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) عام 1964، الذي كانت مهمته تحسين موقع البلدان النامية في السوق العالمية من خلال الدفع بالتنمية الاقتصادية على الصعيد المحلي في كل دولة.

وفي العام ذاته تأسست مجموعة 77 (تضم حاليًا 134 دولة) للتنسيق حول المصالح الاقتصادية للبلدان النامية داخل وخارج إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة. هنا، دخلت مجموعة كبيرة من دول أميركا اللاتينية كمشاركة في التنسيق الآسيوي الإفريقي لدعم التنمية الاقتصادية التي أصبحت العنوان الرئيس للحراك الدبلوماسي للعالم النامي (أو العالم الثالث). لقد كان الاندفاع نحو الأمم المتحدة والاستفادة من مؤسساتها وقنواتها التنظيمية رد فعل على تسييسها من قبل الولايات المتحدة في الفترة السابقة، بالأخص عندما تدخلت المنظمة كطرف في الحرب الكورية.

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى