الرئسيةرأي/ كرونيك

صراع الوكلاء عن الدولة بين التبرير الشعبوي والتقنوقراطي

صراع الوكلاء عن الدولة بين التبرير الشعبوي والتقنوقراطي ....(قراءة ميتولوجية في مشهدية الدولة المغربية )

بقلم مصطفى المنوزي

سنحاول من خلال هذا المقال أن نسلط الضوء على بنية العلاقات والصراعات في المتون الميتولوجية التي غالبًا ما تتمحور حول صراع الأب والابن (مثل كرونوس وزيوس في الميثولوجيا الإغريقية أو الأخ والأخ (مثل قابيل وهابيل في الميثولوجيا الإبراهيمية، أو سِت وأوزير في المصرية القديمة).

الميثولوجيا الكبرى

لكن صراع الإبن والأخ أو الأخ مع ابن أخيه – أي علاقات أكثر تعقيدًا بين الأجيال المتقاطعة – أقل حضورًا في الميثولوجيا الكبرى، غير أنه ليس غائبًا تمامًا، وهناك بعض الأمثلة وإن كانت نادرة أو مغفلة:

1. في الميثولوجيا الكنعانية:  الهلنستية هناك بعض الروايات المتفرعة التي يظهر فيها تعارض بين العم (الأخ الأكبر) وابن أخيه في صراعات وراثية حول السيادة أو السماء، مثل ما يُروى عن إيل وبعل.

2. في التوراة (العهد القديم)  “الكتاب المقدس العبري“: هناك تعقيدات في نسب الأسرة الإبراهيمية، حيث نجد توترات بين يعقوب وعيسو (أخوين)، ولكن أيضًا بين أبناء العم أو الأخوة غير الأشقاء، مثل إسحاق وإسماعيل من زاوية توتر السلالة.

3. في الملاحم الإغريقية: يمكن رصد توتر بين أبناء الإخوة أو أحفاد، كما في ملحمة “الأوديسة”، حينما يتصارع تيليماخوس (ابن أوديسيوس) مع أبناء المتنافسين على عرش أبيه، الذين ينتمون أحيانًا إلى فروع عائلية قريبة.

4. في بعض الحكايات الأسطورية أو الشعبية الهندية والجرمانية: تظهر نزاعات بين أبناء الأخوة، كجزء من نزاع قبلي على الإرث أو الدم.

لكن سبب ندرة هذا النوع من الصراع راجع إلى أن الميتولوجيا تميل إلى تجسيد الصراعات الكبرى في شكل ثنائيات واضحة:
الأب/الابن: صراع السلطة والوراثة.

الأب/الابن: صراع السلطة والوراثة.

الأخ/الأخ: صراع المساواة والغيرة.

بينما صراع “الإبن/الأخ” قد يُعتبر “هجينًا” في منطق السلطة الرمزية، لأنه يجمع بين التراتبية والقرابة الجانبية، مما يُضعف رمزيته كنموذج سردي واضح.

إن الغاية من هذا التمهيد التاريخي الإسترجاعي فتح أفق تأويلي مهم يروم إبراز أسباب الصراع بين “الإبن والأخ” بالنيابة أو بالوكالة، وهو شكل ميتولوجي غير مباشر، غالبًا ما يُخفي علاقات السلطة والرغبة والانتقام تحت ستار من التراتبية الرمزية. في هذا السياق، يمكن أن نجد عدة أمثلة في المتون الميثولوجية والأدبية، خاصة إذا قرأناها بمنهج تفكيكي أو سيميولوجي.

وهذه بعض الملاحظات والأمثلة الدالة:

1. صراع بالوكالة بين الإبن وعمّه (أخ الأب)

* قصة هاملت (المسرح الإليزابيثي): هاملت يصارع عمّه . *كلوديوس(الذي قتل والده وتزوج أمه)، لكن الصراع هنا ليس فقط انتقاميًا مباشرًا، بل يمثل حربًا بالوكالة عن الأب المقتول. هنا يتجلى صراع الإبن مع “الأخ” (عمّه) في سياق عائلي وسلطوي مزدوج.

2. صراع مركزي في الملحمة الحسينية:

* حسين بن علي ويزيد بن معاوية: يزيد هو ابن معاوية، الخصم التاريخي لعلي بن أبي طالب، وهكذا فإن معركة كربلاء يمكن قراءتها أيضًا كامتداد لصراع “الإبن (الحسين) مع الأخ (معاوية) بالنيابة”، حيث يزيد يمثل امتدادًا لمشروع الأب، بينما الحسين يحمل عبء مشروع الأب (علي). إنها إذن مواجهة بين ورثة الصراع المؤجل.

3. في الميثولوجيا الإغريقية – نموذج أوريستيس


أوريستيس ينتقم من أمه كليتمنسترا وعشيقها إيجيسثوس، الذي قتل أباه أجاممنون. إيجيسثوس كان من العائلة (ابن عم أو أخ غير شقيق حسب الروايات). وهنا نرى أن أوريستيس يصارع “بديلاً عن أبيه”، وبالوكالة عن شرف العائلة.

4. في بعض الروايات الأمازيغية والأساطير الإفريقية

تُروى قصص فيها “ابن أحد الأخوة” يتولى الثأر أو الدفاع عن جدّه أو عمّه، أو يدخل في صراع مع أبناء العمّ – في شكل صراع جيلين لكن بالنيابة عن جيل سابق. في هذه الحكايات، البُعد الاجتماعي والرمزي للصراع يكون حاسمًا، ويظهر كيف يُستخدم الجيل الجديد لتصفية حسابات الجيل السابق.

5. في الرواية الإسلامية العامة: قصة يوسف

الإخوة يرمون يوسف في البئر، وهو ليس صراعًا تقليديًا بين إخوة متساوين، بل هناك تواطؤ بالنيابة: يعقوب يمثل رمزًا للنبوءة والاصطفاء، والإخوة يَغارون من تمثيل يوسف لهذه المكانة. الصراع هنا ليس بين يوسف وإخوته كأفراد، بل بينهم كممثلي تيارين داخل الأسرة: تيار الاصطفاء الإلهي (يوسف) وتيار التهميش.

في سرديات الميثولوجيا، نادراً ما نعثر على صراع مباشر بين “الأخ” و”الابن” في حضرة الأب المؤسس أو السيد المطلق. غير أن هذه المفارقة المفقودة في الخيال الأسطوري، تطفو على سطح الواقع السياسي المغربي في صيغتها الرمزية، حيث يتمثل الصراع بين وكيلين للسلطة، خرجا من رحم الوظيفة العمومية، وبلغا ذروة الدولة، ليخوضا باسمها صراعاً بالوكالة: صراع تبرير لا صراع مشروع.

يمثل “الابن”، من حيث الخطاب، النمط الشعبوي المحافظ، الذي يستمد شرعيته من القرب من وجدان الجماهير، ومن تطويع خطاب الدين لتبرير اختلالات الحكم بدعوى وجود “التحكم”هنري فايول ، دون أن يُحدث قطائع بنيوية. أما “الأخ “، فهو التجلي المعكوس لذلك: تكنوقراطي نيوليبرالي، يوظف الأرقام والوعود التقنية، لتبرير الاختلالات ذاتها، متوسلاً صمت النخبة، بدل ضجيج الجماهير.

كلاهما، في الجوهر، ليس إلا مُجَمِّلًا لوجه  الدولة ، من خلال أسلوبه الخاص: أحدهما يتحدث بلسان الغضب المُروّض، والآخر بلسان الهدوء المُصطنع. وبذلك يتحولان إلى ما يشبه “أبولّو وديونيسوس” في الميثولوجيا اليونانية: آلهة لا تتصارع على السلطة، بل على كيفية تمثيلها وإعادة إنتاج سحرها الرمزي.

ولأنهما لا يُشَكِّلان تهديداً حقيقياً لعرش السلطة، بل يضمنان استقرارها من خلال تباين صوري، فإن الدولة تجد في هذا الصراع الوهمي، ما يكفي لإعادة ترميم شرعيتها دون الحاجة إلى إصلاح حقيقي. إنها المفارقة: حين يتنازع الوكلاء، تستريح السلطة الأصلية.

هكذا يصبح الصراع بين الأخ والابن صراعًا على من يُقنِع أكثر، لا على من يُصلِح فعليًا. فكل منهما يُبيض الأعطاب المخزنية بطريقته: أحدهما بماء البلاغة، والآخر بمساحيق التنمية.

إن قراءة هذا الصراع بمنظور ميتولوجي يسمح لنا بفهم أن المغرب ليس أمام تعددية سياسية حقيقية، بل أمام تعدد في التماثيل الرمزية لوظيفة واحدة: وظيفة “تسويق الدولة” لا “تفكيكها أو مساءلتها”.

وبينما ينتظر الناس صراعًا يفضي إلى تغيير، يجدون أنفسهم أمام مسرحية مقدسة، أبطالها من أبناء السلطة، لا من خصومها. فلم يكن الأخ سوى عزيز بنحماد أما الإبن فليس إلا عبده مصارع الثيران ، واللذين قدرا عليهما أن يتصراعا في إنتظار الترخيص لهما بعقد القران محاكاة بسردية النداء والنهضة .

والخلاصة / الرسالة أنه علينا ألا ننخدع بفخ التناوب أو التشخيص الأخلاقي للأشخاص، بل أن نطرح السؤال الحقيقي:
هل ما نراه صراعًا سياسيًا هو في الحقيقة مجرد تقاطع سردي لوظيفتي التجميل السياسي؟

وإذا كان الصراع لا يتجاوز حدود تمثيل السلطة، فهل يمكن أن يُنتج بدائل، أم أنه يُعيد إنتاج نفس النظام بلغات مختلفة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى