اقتصادالرئسية

الاقتصاد المغربي: (ANRF) تفجر قنبلة مدوية

“إمبراطورية الأشباح” في قلب الاقتصاد المغربي: غسيل أموال وتزوير منظم بواجهات تجارية مزيفة

في الوقت الذي يسعى فيه المغرب إلى تعزيز مناعته المالية ومواجهة  الجريمة الاقتصادية العابرة للحدود، فجّرت الهيئة الوطنية للمعلومات المالية (ANRF) قنبلة مدوية بكشفها عن شبكة شركات وهمية تمارس عمليات غسيل أموال “إضفاء شرعية قانونية على أموال محرمة” ممنهجة على نطاق واسع، باستخدام أساليب متطورة واستغلال فجّ لثغرات في النظام الضريبي والمصرفي، هذا التحقيق، الذي توصلت به السلطات القضائية، يسلّط الضوء على عمق الفساد البنيوي في بعض قطاعات الأعمال ويطرح أسئلة مقلقة حول فاعلية المنظومة الرقابية المغربية.

خيوط الجريمة تنكشف من قلب الإقرارات الضريبية

بدأت القصة من تحليل روتيني لإقرارات ضريبية مشبوهة قامت به مصالح الهيئة الوطنية للمعلومات المالية، فبحسب مصادر مطلعة، أثار الانتباه وجود نمط متكرر: شركات حديثة النشأة، بعضها لا يتجاوز عمره خمس سنوات، تنشط في قطاعات متفرقة مثل النسيج، الإكسسوارات، الطباعة، الهدايا الإشهارية، المخابز، صناعة الشوكولاتة، وخدمات الأمن والتنظيف.

غير أن اللافت هو أن معظم هذه الكيانات لا تملك مقرات حقيقية أو نشاطاً فعلياً، بل تدار عن بُعد عبر مكاتب محاسبة في الدار البيضاء وطنجة، ومع ذلك، كانت هذه الشركات تُصرّح بدخلها في الآجال القانونية، وتبدو على الورق ملتزمة ضريبياً، ما وصفه أحد مسؤولي الهيئة، في تصريح غير رسمي، بأنه “تمويه احترافي يهدف إلى خلق واجهة قانونية تغسل أموالاً مشبوهة”.

وفي لقاء مع المفتش المالي السابق، الحسين الزكري، أوضح قائلاً: “ما يحدث ليس فقط تلاعباً بالأرقام، بل هو هندسة مالية إجرامية. الشركات تُستخدم كقنوات تمرير تُخرج المال القذر من الظل إلى النور، مع حماية ظاهرية بقوانين محاسبية تبدو سليمة.”

هندسة مالية معقدة لإضفاء الشرعية على الأموال القذرة

فيما كشفت التحقيقات عن عمليات تضخيم وهمي للمعاملات التجارية بين هذه الشركات، فواتير شكلية ووسائل دفع قانونية – من قبيل الشيكات والتحويلات البنكية – كانت تُستخدم لتبرير تدفقات مالية ضخمة، لكن الغرض الحقيقي من هذه العمليات، وفقاً للتقرير، هو تدوير عشرات الملايين من الدراهم داخل النظام البنكي الشرعي لتبييض أموال متأتية من أنشطة إجرامية مثل الاتجار بالمخدرات والفساد والرشوة.

و يُعزز هذا المسار تصريح خبير مكافحة غسيل الأموال الأستاذ محمد الهبطي، والذي أكد أن: “الاعتماد على مكاتب محاسبة مستقلة في الدار البيضاء وطنجة، وغياب مقرات ميدانية حقيقية، مؤشر خطير على مستوى احترافية هذه الشبكات، التي تعلم جيداً كيف تستغل الثغرات القانونية.”

ما يزيد من خطورة هذه الظاهرة أن تضخيم الأرباح، بدلاً من إظهار خسائر أو ضعف الأداء، لا يثير الشبهات بسهولة، بل يعطي انطباعاً بوجود نشاط اقتصادي مزدهر، وهو ما يُمكّن هذه “الإمبراطوريات الورقية” من الاستمرار في التمويه لسنوات طويلة.

من المكاتب المحاسبية إلى الحسابات الجارية: الحلقة المفقودة

تبيّن أن مكاتب محاسبة كانت تلعب دوراً محورياً في هذه العمليات، فهي تدير الحسابات عن بُعد، وتنسق العمليات المالية، وتؤمّن المظهر القانوني للمعاملات، ولأنها تعمل من مدن كبرى وتتعامل مع عشرات الشركات، فإن كشف التلاعب يصبح أكثر تعقيداً.

المال المتدفق من هذه العمليات لا يُستخدم في الاستثمار أو الإنتاج، بل يُضخ في حسابات جارية لأشخاص طبيعيين وشركاء مفترضين، بهدف إضفاء “شرعية مالية” على ثروات مجهولة المصدر.

أرقام تكشف حجم الظاهرة: صعود مقلق في سنة واحدة

ارتفع عدد الملفات المرتبطة بجرائم تبييض الأموال والاحتيال المالي بنسبة 31.48% في سنة 2023 وحدها، وهذا حسب إحصائيات الهيئة الوطنية للمعلومات المالية، وأشارت الهيئة إلى أن 38% من هذه الملفات تتعلق باستخدام وثائق مزورة، والتزوير البنكي، والاحتيال.

رقم مقلق آخر هو عدد الملفات المحالة على القضاء: ما لا يقل عن “71 وكيلاً للملك” في محاكم ابتدائية بمختلف المدن المغربية، بينها الرباط، الدار البيضاء، فاس، ومراكش، تسلموا تقارير مفصلة تتعلق بهذه الشبكة، كما أُحيلت ملفات على الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، في إشارة إلى أن القضايا لا تقتصر على مخالفات ضريبية، بل قد تشمل جرائم مالية منظمة تندرج في نطاق القانون الجنائي.

أسباب تفشي الظاهرة: بيئة محفزة للفساد المالي.. ما وراء الواجهة القانونية

وفق تحليل أعده الباحث في الحوكمة المالية عبد الحق بوزيان، فإن غياب الرقابة الميدانية على الشركات، واستغلال الثغرات الجبائية، ومرونة النظام البنكي المغربي، كلها عوامل شكلت تربة خصبة لنمو هذا النوع من الشبكات، ويضيف:

“ما دام التصريح بالإيرادات لا يُقابل بزيارة ميدانية، وما دامت الحسابات تُدقق سطحياً، فإن الشركات الأشباح ستجد دائماً متسعاً لممارسة أنشطتها في الظل.”

كما أن ثقافة الإفلات من العقاب، والتأخر في البت في القضايا المالية، تجعل من هذه الأنشطة مغرية لمقاولين حقيقيين وفاسدين على حد سواء.

المقارنة الدولية: المغرب ليس استثناءً

فظاهرة الشركات الوهمية ليست حصرية على المغرب. ففي دراسة صادرة عن منظمة الشفافية الدولية (Transparency International) لسنة 2022، تَبين أن الشركات الوهمية تُستخدم في 80% من قضايا الفساد الكبرى حول العالم. كما أشارت دراسة لمجموعة العمل المالي الدولية (FATF) إلى أن “غياب تنسيق فعال بين المصارف وهيئات الرقابة المالية” يمثل الثغرة الأوسع التي تستغلها شبكات التبييض.

تُعلق المحللة في مركز بروكسل للدراسات الاستراتيجية، لويزا كورتيز، على هذه الأرقام بقولها: “الجرائم المالية تنمو كلما نما الاقتصاد غير المهيكل، وكلما عجزت الدولة عن خلق تنسيق رقمي شامل بين الضرائب، القضاء، والبنوك.”

هل نحن أمام اقتصاد ظل داخل الاقتصاد الرسمي؟

هذا النموذج من الشركات الوهمية يطرح سؤالاً جوهرياً حول وجود اقتصاد غير مهيكل متخفي داخل قتصاد الرسمي، يستفيد من المظهر القانوني ليحمي مصالح غير قانونية، فما كشفته هذه التحقيقات لا يشير فقط إلى وجود شبكة احتيالية معزولة، بل إلى بنية موازية تشتغل تحت أنظار الدولة، تتغذى على هشاشة الرقابة وتواطؤ بعض الفاعلين.

معركة المؤسسات ضد الذكاء الإجرامي

فالملف الذي بين يدي القضاء المغربي اليوم ليس مجرد سلسلة من المخالفات، بل هو جرس إنذار حول تطور أساليب الجريمة المالية، وتحولها من سلوك فردي معزول إلى هندسة إجرامية منظمة, فالمعركة ضد هذه “الإمبراطوريات الورقية” تتطلب تحديثاً عميقاً لأدوات الرقابة، وتنسيقاً صارماً بين الأجهزة الأمنية والمالية، مع تسريع وتيرة العدالة وتغليظ العقوبات.

لكن الأهم من ذلك هو إشراك الرأي العام، والمجتمع المدني، والفاعلين الاقتصاديين في مراقبة الحياة التجارية، وإعادة الثقة في مناخ الأعمال، قبل أن تتحول الشركات الوهمية إلى النموذج الاقتصادي البديل، فالأمر لا يتعلق فقط بجريمة اقتصادية، بل بتحدٍّ لمصداقية الدولة، وثقة المستثمرين، وعدالة السوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى