يصعب إيجاد تفسير لما يقع، وسيكون من السهل أن تنتصر سرديات “نظرية المؤامرة”، فتجمع قطع “البولز”، ليصبح كل من هجوم السابع من اكتوبر واغتيال نصر الله ورئيسي وهنية والعاروري والسنوار وهاشم صفي الدين وقبلهم قاسم سليماني وعماد مغنية، وتحييد المقاومة اللبنانية، ووصول الجولاني في عملية خاطفة لحكم سوريا، مقدمة تمت هندستها للوصول لوقائع الأمس، ووقائع صادمة قادمة ربما قد تكون درجتها أخطر.
وهذا النوع من التحليل سيسهل انتشاره، لأنه يعطي تفسيرا يبدو منسجما، رغم افتقاده للمعقولية حين النظر في التفاصيل، ومرد اقتناع جمهور كبير به، هو الافتقاد للمعلومة الصحيحة.
لا أعتقد ان العالم مر بمثل ما نعيشه في السنوات الأخيرة: اي كم هائل من الأحداث الكبرى المتعاقبة وغير المتوقعة، مع كم قليل من المعلومات الموثقة.
نرى النتيجة، ولا نعلم كيف تم الأمر.
العرض المسرحي متاح للعموم، لكن الكواليس محكمة الإغلاق.
ويتحول التحليل في غياب المعلومات إلى تمنيات، كل فريق يحلل بما يتمنى.
إنه بداية نهاية الكيان، يقول البعض، ويقول آخرون إنه نهاية المشروع الصفوي الشيعي، واستلام الجبهة السنية مشعل المواجهة، ويذهب آخرون إلى انه انطلاقة زمن التمدد الإسرائيلي، حيث ستتغير خرائط المنطقة، بما فيها الخرائط الفعلية وليس المجازية فقط.
نحلل بالمشاعر والتمنيات، مع الإصرار على البقاء في الخط الإيديولوجي أو المذهبي أو المحور نفسه، ليس ثباتا على الموقف والمبدأ، وهو أمر مشروع، ولكن فقط لبيان ان “صفي” على صواب، ويبحث كل فريق في ما تسرب من معلومات مؤكدة (وهي قليلة) أو مضللة (وهي الغالبة) عما يعضد موقفا مسبقا لديه.
شخصيا، اتابع الأخبار المتوالية من خلال قنوات مختلفة، فيزداد الغموض والالتباس والشك حتى فيما كنت اعتقد انه محسوم عندي.
اسأل سؤالا قد يبدو ساذجا: هل الأمر متعلق بعملية اختراق أمني كبير فقط، ام ان الأمر مرتبط بتطور كبير وفارق في تقنيات التسلح والتجسس والاستخبار غير مسبوق كونيا، ومازالت “تكنولوجياته” غير معروفة إلا لمالكيها (أمريكا و”إسرائيل”؟
اي أننا سنشهد جيلا جديدا من الحروب ستتميز بالقدرة على الحسم السريع والمفاجأة وشل القدرات الدفاعية والوصول بسهولة للقيادات.
سيقول قائل: ولماذا فشلت “إسرائيل” في الوصول لقيادات حماس؟
وفي اعتقادي انه فضلا على أنها وصلت لقيادات من حما س، فإن الهدف في غزة الرئيس ليس هو تصفية حماس بالدرجة الأولى (وهذا لا ينفي انه هدف مهم)، بل هو التهجير والإبادة، وهو ما تقوم به.
ولذلك فهي قد تستثمر حتى في بقاء خلايا متفرقة تابعة لفصائل المقاومة بعد إضعاف النواة الصلبة والمركزية، أما في مواجهة إيران وحزب الله فكان الوصول للقيادات هدفا مركزيا.
في غزة نحن أمام جريمة تجريف الأرض والديموغرافيا. وليس إسقاط نظام فقط أو إضعافه حتى لا يشكل تهديدا مستقبلا.
إيران استثمرت جيدا في التسلح، واستفادت حتى من حربها الطويلة مع العراق، ونجحت في الالتفاف حتى على سنوات الحصار الطويلة لبناء القوة العسكرية، بحيث إذا كان من شبه بين إيران و”إسرائيل” فهو الإيديولوجية الصلبة والجيش القوي.
كل إيديولوجيا حين تحكم طويلا تتراجع، وأحيانا تصبح عبئا على الدولة والمجتمع، خصوصا في فترات الانتقال من “الثورة” إلى “الدولة”.
ولذلك لم تعد الصهيونية الهرتيزلية هي المهيمنة في الدولة والمجتمع الإسرائيليين، بل تراجعت لصالح صهيونية أشد تطرفا منها متساوقة مع موجة عودة الفاشيات وصعود اليمينيات المتطرفة.
وفي إيران لم تعد التعبئة بنظرية ولاية الفقيه قادرة على تحقيق ما كانت تحققه في الماضي.
واليوم يتم ضرب ” الجناح” المسلح بطريقة يبدو معها وكأنه ينهار، فيما يشبه أسطورة “حصان طروادة”، اي انهيار سريع بعد مقاومة “أسطورية” لحصار متعدد الجهات.
طبعا، لا مجال للحديث هنا عن الكيانات الوظيفية التي تتشكل من الأنظمة الحاكمة في المنطقة، لأن ما يحدث أمامنا اكبر منها، ولا يعبأ بها، ولا تستشار، بما فيها حتى الإمارات والمشيخات النفطية التي دفعت الجزية لترامب مؤخرا، ولذا سيكون مضحكا ان يتحدث البعض عن حكمة وبعد نظر دولته أو ملكه أو رئيسه، كل هؤلاء “آوت”.
ما يخيفني، وقد أبدو مبالغا، هو إمكانية نشوب الحرب بين المغرب والجزائر أكثر من أي وقت مضى.
فبالنظر لهذا التطور في تقنيات التسلح، فإن هناك فائضا كبيرا في الأسلحة “التقليدية”، ومنها المتطورة، والتي قد تحال في السنوات المقبلة لل”تقاعد”، مما ستكون معه الحاجة إلى تصريفها سريعا في صفقات مربحة.
وقد يكون إشعال الحروب في بؤر التوتر الخامدة، هو الإمكانية لهذا التصريف.
وبالنظر إلى التسابق نحو التسلح بين المغرب والجزائر بوتيرة غير مسبوقة، فلا يجب ان نستبعد ان تكون منطقتنا من بين مختبرات تصريف فائض الأسلحة، قبل تقادمها.
لا يجب في رأيي ان نستسلم للاطمئنان الذي يقول إنه ليس من مصلحة أوروبا اندلاع حرب في المتوسط، قريبا من الضفة الجنوبية لأوروبا. فاوروبا نفسها تبدو متجاوزة، ولم تستطع منع الحرب على حدودها الشمالية ( في الحقيقة داخل حدودها).
بس: قد يبدو ان ما كتبته غير منسجم منهجيا، ولكنه محاولة لمشاركتكم “فوضى” تفكيري في هذه الفوضى غير الخلاقة التي نتابعها كما يتابع طفل فيلما من سينما “التجريب”، وهو المتعود على بساطة “توم وجيري”.
الدرس الأخير: بناء سردية إيديولوجية او وطنية او قومية، حتى لو كانت صلبة، لن تفيد في ظل التباين على مستوى التقدم التكنولوجي والبحث العلمي.
ما لم نستثمر في التعليم والعلم والتكنولوجيا، فلن يفيدنا التضخيم من خطاب “التاريخ المجيد” و”الاستثناء” و”عبقرية الحاكم” وقوة القفطان الناعمة” والحمد لله على نعمة الاستقرار”.