
ماذا كشفت المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران؟
تعرض عدد من المواقع الاستراتيجية داخل إيران لهجمات متتالية من جانب إسرائيل، يوم الجمعة 13 يونيو 2025، في أحدث حلقة من حلقات الصراع بين الدولتين؛ الأمر الذي أسفر عن وقوع خسائر على مستوى القيادات العسكرية والنووية، إلى جانب تدمير بعض المواقع العسكرية وأنظمة الدفاع الجوي، وخسائر مدنية.
انطلقت تحت مسمى عملية “الأسد الصاعد”
وجاءت تلك الضربات، والتي أطلقت عليها إسرائيل اسم عملية “الأسد الصاعد”، في ضوء استغلال إسرائيل لما يُوصف بـ”الفرصة الاستراتيجية” لتنفيذ الهجمات ضد إيران، والتي تعتقد تل أبيب أنها تمر بأضعف حالتها بعد تحجيم القدرات العسكرية لأذرعها في المنطقة عقب عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة حماس الفلسطينية ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، إلى جانب ما ترى إسرائيل أنه تقويض للدفاعات الجوية الإيرانية بعد العملية العسكرية التي شنتها ضدها في 26 أكتوبر 2024، بالإضافة إلى افتراض تل أبيب أن طهران على بعد “خطوات يسيرة” من امتلاك السلاح النووي، والذي ترى الأولى أنه يُمثل تهديداً وجودياً لها.
المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي يتوعد
وقد توعّد المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، في كلمة متلفزة له، تعقيباً على هجمات 13 يونيو الجاري، بما وصفه بـ”الرد الساحق” على إسرائيل. وهي ذات التصريحات التي كررها الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، الذي قال: “إن الرد المشروع والقوي لإيران سيجعل إسرائيل تندم”، وغيرهم من المسؤولين الإيرانيين الذين هددوا إسرائيل.
تصعيد غير مسبوق:
يمكن الوقوف على أبرز الأبعاد المرتبطة بالهجمات الإسرائيلية على إيران، ورد الأخيرة عليها، في الآتي:
1- ارتفاع الخسائر البشرية والعسكرية:
تُشير المعطيات الراهنة، حتى صباح السبت 14 يونيو الجاري، إلى ارتفاع حجم الخسائر النوعية لدى إيران نتيجة للهجمات الإسرائيلية، والتي بلغت نحو 300 هجمة، سواء على مستوى القيادات أم على مستوى المواقع العسكرية والنووية؛ إذ تُشير التقارير إلى مقتل نحو 20 قائداً عسكرياً وعالماً نووياً، وأبرزهم: اللواء حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، واللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، واللواء غلام علي رشيد، قائد مقر “خاتم الأنبياء” العسكري، والعميد أمير علي حاجي زاده، قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري، واللواء داوود شيخيان، قائد الدفاع الجوي في القوة الجوفضائية، واللواء غلام رضا محرابي، نائب رئيس هيئة الأركان العامة لشؤون الاستخبارات، واللواء مهدي رباني، نائب رئيس الهيئة لشؤون العمليات، فضلاً عن شكوك حول مقتل اللواء علي شمخاني، مستشار المرشد الأعلى والأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي الإيراني، بالإضافة إلى مقتل عدد من العلماء والأساتذة النوويين ومنهم فريدون عباسي، وأحمد رضا ذو الفقاري، ومهدي طهرانجي.
شملت الهجمات الإسرائيلية استهداف مواقع استراتيجية
كما شملت الهجمات الإسرائيلية استهداف مواقع استراتيجية، وأبرزها مقر القيادة العامة للقوات المسلحة “خاتم الأنبياء المركزي”، بالإضافة إلى قاعدة همدان الجوية، ومطار تبريز، ومفاعل آراك المخصص لإنتاج الماء الثقيل الذي يُستخدم في الصناعات النووية، ومفاعل بوشهر النووي للاستخدامات النووية المدنية، وموقع بارتشين العسكري، ومواقع أخرى عسكرية واستراتيجية في طهران وأصفهان وكرمنشاه وعيلام وغيرها، بل وشملت حتى مباني سكنية لضباط من الحرس الثوري في محافظة خوزستان (الأحواز) غرب إيران.
واستهدفت إسرائيل كذلك منشأة نطنز النووية، وهي واحدة من أهم منشأتين نوويتين في إيران مع مفاعل فوردو، وأشارت بعض التقارير إلى حدوث تلوث إشعاعي في المنشأة؛ وهو ما يعني أن القصف، وإن لم يكن قد طال مواقع التخصيب داخل المنشأة أو غرف أجهزة الطرد المركزي، والتي تقول إيران إنها تقع على أعماق بعيدة تحت الأرض وتحتاج لقنابل خارقة للتحصينات من النوع الثقيل الذي تمتلكه الولايات المتحدة؛ فإنه كان كثيفاً على المنشأة، وربما دمَّر بعض المواقع التي تخدم عملية تخصيب اليورانيوم؛ وهو ما يُوحي أيضاً برغبة إسرائيل في تدمير أحد الأجزاء الرئيسة من البرنامج النووي الإيراني، باعتبار ذلك ضمن أبرز أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية ضد إيران.
2- خلل هيكلي في الأمن الوقائي:
تؤشر الهجمات الإسرائيلية على وجود خلل هيكلي في إجراءات الأمن الوقائي داخل إيران؛ إذ كشفت المصادر الأمنية الإسرائيلية عن أن جهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد) أقام منظومات سرية، من ضمنها قاعدة للطائرات المُسيَّرة المفخخة، داخل إيران منذ فترة ليست بالقصيرة، وقد أسهمت تلك القاعدة المفترضة في تعطيل أنظمة الدفاع الجوي، واستهداف الرادارات وقواعد الصواريخ، عبر تفجيرها، بالإضافة إلى استهداف هذا العدد من القيادات العسكرية والعلماء النوويين داخل غرف اجتماعاتهم أو حتى منازلهم في بعض الأحيان.
ويرتبط هذا بما تعاني منه المنظومة الأمنية الإيرانية من انكشاف كبير، تجلت مؤشراته في العديد من الحوادث التي شهدها الداخل الإيراني، والتي اتهمت فيها إسرائيل، ومنها على سبيل المثال، مقتل العالم النووي الإيراني البارز محسن فخري زاده في 27 نوفمبر 2020، وكذلك تفجير محطة نطنز النووية مرتين في يوليوز 2020 وإبريل 2021، وصولاً إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في 31 يوليو 2024، وهي حوادث تكشف عن وجود اختراقات ربما تصل إلى مواقع عليا داخل المؤسسات العليا في إيران.
3- سد الفراغات القيادية:
بعد ساعات من الكشف عن مقتل عدد من قيادات الصف الأول والثاني في الجيش والحرس الثوري الإيرانيين، تم تعيين مسؤولين آخرين في المناصب الشاغرة، حيث أُعلن عن تعيين قائد الجيش عبدالرحيم موسوي رئيساً لهيئة الأركان بديلاً للواء محمد باقري، واللواء أمير حاتمي قائداً عاماً للجيش بديلاً لموسوي، واللواء محمد باكبور قائداً عاماً للحرس الثوري بديلاً للواء حسين سلامي، واللواء علي شادماني قائداً لمقر “خاتم الأنبياء” التابع لهيئة الأركان بديلاً للواء غلام علي رشيد.
وقد جاءت هذه التعيينات “الدائمة” بعد ساعات قليلة من تعيين حبيب الله سياري رئيساً مؤقتاً للأركان، وأحمد وحيدي قائداً مؤقتاً للحرس الثوري، بعد اغتيال سلفيْهما. وتشير تلك التعيينات إلى رغبة النظام الإيراني في سد الفراغات على مستوى القيادة العسكرية، تفادياً للاضطرابات داخل هذه المؤسسات المهمة، واستعداداً للرد الإيراني على الهجمات الإسرائيلية. كما تعكس تلك التعيينات الجديدة، بحسب بعض التقديرات، توجه النظام إلى التركيز على تولي قيادات أكثر حسماً من نظيرتها السابقة، والتي كان يُنظر إليها باعتبارها من “الجيل المؤسس”، الذي شارك في الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، وكان يتحفظ على الدخول في مواجهات مباشرة مع أطراف خارجية، في ضوء خبرة تلك الحرب؛ وهو ما قد يوحي باحتمالية استمرار الصدام العسكري بين إيران وإسرائيل خلال الفترة المقبلة.
4- رد إيراني سريع على الهجمات:
بخلاف عمليتي “الوعد الصادق 1″، و”الوعد الصادق 2″، جاء الرد الإيراني على الهجمات الإسرائيلية سريعاً وفي ذات اليوم؛ إذ أطلقت طهران ما سمّته بعملية “الوعد الصادق 3″، عبر إطلاق 100 طائرة مُسيَّرة نحو إسرائيل في منتصف يوم الجمعة 13 يونيو، والتي تم اعتراضها، ثم أطلقت موجة من الصواريخ البالستية بلغت 200 صاروخ، في مساء يوم الجمعة، كان من بينها صواريخ فرط صوتية؛ مستهدفة بها نحو 150 منشأة، توزعت بين مقار عسكرية وقواعد جوية ومراكز للصناعة العسكرية في إسرائيل، منها قاعدتي نوفاتيم وعودا ووزارة الدفاع ومواقع أخرى، بحسب ما أعلنه بيان للحرس الثوري الإيراني. وأسفرت هذه الهجمات عن مقتل ثلاثة إسرائيليين وإصابة أكثر من 172 آخرين، بحسب تقارير إعلامية حتى صباح يوم 14 يونيو.
الجدير بالذكر أن المواقع التي انطلقت منها الصواريخ الإيرانية التي استهدفت إسرائيل، هي نفسها المواقع التي قالت الأخيرة إنها هاجمتها في الضربات الأخيرة في أصفهان وشيراز وغيرهما، وكأنها رسالة إيرانية مضمونها أن المواقع الصاروخية التي استهدفتها إسرائيل لم تتأثر وتعمل بكفاءتها القتالية.
وهكذا حاولت إيران امتصاص الضربة التي وجهتها لها إسرائيل، كما سعت لمعالجة الخلل الذي أحدثته على مستوى القيادة والسيطرة، عبر التعيينات الجديدة؛ ومن ثم قامت بتفعيل أنظمة الدفاع الجوي المتوافرة، بالرغم من تعرض أغلبها للتدمير، وفق الرواية الإسرائيلية.
دلالات وتداعيات:
تتمثل أبرز الدلالات والتداعيات المرتبطة بالهجمات الإسرائيلية على إيران في التالي:
1- اتهام طهران واشنطن والأوروبيين بالخداع:
تعليقاً على الهجمات الإسرائيلية، اتهم وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، بخداع طهران، على أساس أنه سبق تلك الهجمات بيوم واحد الإعلان عن جولة جديدة من المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة في العاصمة العُمانية مسقط، كان من المقرر عقدها يوم الأحد 15 يونيو؛ وهو ما كان يؤشر على أن الجانبين ماضيان في المسار الدبلوماسي، مع تحييد الخيار العسكري، والذي كانت تتحفز له إسرائيل، وترفض مسار التفاوض بين واشنطن وطهران.
يُضاف إلى ذلك، نجاح الترويكا الأوروبية مع الولايات المتحدة في تمرير قرار بإدانة إيران في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قبيل الهجمات الإسرائيلية بساعات؛ وهو الأمر الذي واجه انتقادات من جانب المسؤولين الإيرانيين. وقد كان لهذين العاملين تأثير في خداع إيران، بأن جعلاها تعتقد أن التهديدات الإسرائيلية بقصفها، والتي سبقت الهجمات الأخيرة، هي مجرد نوع من الضغط الإعلامي والنفسي على طهران، من أجل أن تُقدم تنازلات في المفاوضات النووية مع واشنطن، وأنها غير جدية، وهو ما أكّدته تقارير عديدة منشورة في صحف إيرانية، ومنها صحيفة “جوان” التابعة للحرس الثوري الإيراني، وصحيفة “همشهري”، وغيرهما؛ ما سمح لتل أبيب بأن تستغل عنصر “المفاجأة” وتُلحق خسائر كبيرة بالجانب الإيراني.
2- تأثر مسار المفاوضات النووية:
أفاد التلفزيون الإيراني، عقب الهجمات الإسرائيلية، يوم 13 يونيو، بأن طهران لن تشارك في جولة المفاوضات النووية التي كانت مقررة مع واشنطن في مسقط يوم 15 يونيو، وذلك على الرغم من تصريح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأنه ما زال أمام إيران “فرصة ثانية” في التوصل إلى اتفاق، بعد انقضاء ما وصفها بـ”الفرصة الأولى”، والتي استمرت 60 يوماً، بحسب تصريحات سابقة له في إبريل الماضي بأن أمام إيران شهرين للتوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، وإلا فيسكون البديل اللجوء إلى الخيار العسكري.
وكانت مهلة الـ60 يوماً قد انتهت فعلياً قبل الهجمات بيوم واحد؛ أي في 12 يونيو الجاري؛ ما بعث برسالة لإيران بأن الضربات الإسرائيلية كانت بضوء أخضر أمريكي، عقاباً لطهران على مماطلتها في المفاوضات النووية، والتي وصلت إلى جولتها السادسة، دون الاتفاق على أي من القضايا الخلافية بها؛ إذ ما زالت طهران تتمسك بحقها في تخصيب اليورانيوم، في مقابل إصرار واشنطن على أن توقف إيران التخصيب كلياً؛ ومن ثم قد تكون الهجمات الحالية بهدف الضغط على إيران لحلحلة موقفها في المفاوضات النووية، وفق الرؤية الأمريكية.
3- إدانة ورفض إقليمي للتصعيد:
كان جديراً بالملاحظة إدانة العديد من دول المنطقة بأشد العبارات ورفضها للهجمات الإسرائيلية على إيران، واعتبارها ما حدث انتهاكاً للسيادة الإيرانية، وتأجيجاً للصراع في المنطقة، مع تأكيد ضرورة وقف التصعيد وضبط النفس بين الطرفين. ويحمل ذلك الموقف من جانب دول المنطقة، دلالات إيجابية، منها ما يتعلق برغبتها في منع التصعيد وتجنب توسيع الصراع الذي قد يُنذر بعواقب وخيمة على الإقليم عموماً.
ختاماً، أدت الهجمات الإسرائيلية التي تعرضت لها إيران إلى حدوث خسائر غير مسبوقة في تاريخ الصراع بين الدولتين. ومن المُرجح في ضوء الرد الإيراني السريع على هذه الهجمات، أن يدخل الطرفان في حالة من الرد والرد المقابل، والذي قد يشمل أهدافاً اقتصادية وليس فقط عسكرية، وربما يُوقع مزيداً من الخسائر المدنية في كلا الجانبين، وهو أمر يُنذر بانفجار الأوضاع التي تهدد أمن المنطقة، ما لم يتم وضع حد لهذا التصعيد الخطر.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة