تقرير رسمي: ارتفاع الاستهلاك وانخفاض الادخار خلال الفصل الأول من 2025
01/07/2025
0
تحرير: جيهان مشكور
أعلنت المندوبية السامية للتخطيط في تقريرها الأخير عن تراجع معدل الادخار الوطني إلى 26.8% من الناتج الداخلي الإجمالي خلال الفصل الأول من سنة 2025، مقارنة بـ27.6% قبل عام.
قد يبدو هذا الفرق ضئيلاً على الورق، لكنه في الواقع مؤشر صارخ على تآكل قدرة المواطن والمؤسسات على التراكم المالي، ما يطرح تساؤلات عميقة حول الاستدامة المالية للاقتصاد الوطني.
ارتفاع الاستهلاك يثير تساؤلات حول نمط الإنفاق
أشارت المندوبية إلى أن هذا التراجع في الادخار مرتبط بارتفاع الاستهلاك النهائي الوطني بالأسعار الجارية بنسبة 6.7% مقابل 6% في نفس الفترة من العام الماضي، ما يعكس أن المواطن أصبح أكثر انفاقًا… لكن هل هو إنفاق بناء على دخل حقيقي أم مجرد استدانة؟ وهل يرافق هذا الاستهلاك زيادة في الإنتاجية أو تحسين في مستوى المعيشة؟ للأسف، الأرقام لا تشير إلى تحسن نوعي، بل إلى نمط استهلاكي مفرط قد يهدد الاستقرار المالي.
.الناتج الداخلي: ارتفاع بأرقام «مضروبة» بين أيدي التضخم
شهد الناتج الداخلي الإجمالي ارتفاعًا بنسبة 6.9% بالأسعار الجارية مقارنة بـ6.8% في السنة الماضية، رقم جميل للوهلة الأولى، لكن يجب أن نضعه في سياقه، اذ يمكن لإرتفاع الأسعار أن يعطي انطباعًا زائفًا عن النمو الاقتصادي، خصوصًا مع وجود تضخم يضغط على القدرة الشرائية.
،وفي السياق ذاته، سجّل صافي الدخل المتأتي من الخارج تراجعًا حادًا بنسبة 7.5%، مقابل انخفاض بنسبة 6.3% في الفترة المماثلة من العام الماضي، وهو ما يشير إلى تقلص ملحوظ في تدفقات التحويلات المالية والموارد الخارجية، مما يُضعف قدرة الاقتصاد الوطني على تعبئة الموارد لتمويل الاستثمار وتعزيز النمو المستدام.
نمو الدخل الوطني المتاح: هل هو انتعاش أم مجرد رقم؟
بالرغم من ارتفع إجمالي الدخل الوطني المتاح بنسبة 6%، وهو ما يمكن اعتباره تحسن طفيف عن 5.9% المسجلة سابقًا، إلا ان هذا الارتفاع غير كافٍ لمواجهة تزايد تكاليف المعيشة والاحتياجات المتنامية، خاصة وأن نسب الادخار تتراجع.. اذ يبدو أننا أمام معادلة مربكة: دخل متاح يرتفع بشكل طفيف، استهلاك يزيد، وادخار ينخفض، ما يشير إلى فقدان متوازن في التوازن المالي للأسرة والاقتصاد على حد سواء.
الاستثمار يرتفع… ولكن على أكتاف المديونية؟
شهد إجمالي الاستثمار ارتفاعًا ملحوظًا، ليصل إلى 28.8% من الناتج الداخلي الإجمالي خلال الفصل الأول من عام 2025، مقارنة بـ26.6% في نفس الفترة من العام الماضي، وعلى الرغم من أن هذا الرقم يبدو مؤشرًا إيجابيًا يعكس نشاطًا متزايدًا في الاقتصاد، إلا أن القراءة المتأنية تكشف أبعادًا أكثر تعقيدًا.. فمفهوم الاستثمار هنا يشمل تكوين الرأسمال الثابت، والتغير في المخزون، بالإضافة إلى صافي اقتناء النفائس، مما يجعل من الصعب الفصل بين الاستثمار الحقيقي والاستثمارات المؤقتة أو التمويلات غير المستدامة.. بشكل أبسط ارتفاعه قد يكون نتيجة لزيادة الدين العام أو تمويل أجنبي مؤقت لا يستند إلى اقتصاد حقيقي منتج،
والأخطر من ذلك، أن حاجة الاقتصاد الوطني للتمويل بلغت 2% من الناتج الداخلي، وهو ما يعكس اتساع فجوة التمويل الداخلي، واعتمادًا متزايدًا على الاقتراض لتغطية النفقات الاستثمارية، في ظل تراجع الادخار المحلي.. وهو مسار، إن استمر، قد يُحوّل الاستثمار من محرّك للنمو إلى عبء مالي ثقيل على المدى المتوسط.
خبير اقتصادي يُحذّر: الادخار مرآة المناعة الاقتصادية
في قراءة تحليلية لهذا الوضع، صرّح الخبير الاقتصادي المغربي الدكتور هشام بوشعيب قائلاً: “الادخار الوطني هو المرآة التي تعكس مدى قدرة الاقتصاد على الصمود أمام الصدمات الخارجية، والتراجع الحالي يعكس هشاشة النمو وغياب سياسة فعالة لدعم مدخرات الأسر والشركات، كما يجب أن يصاحب الاستثمار نمو حقيقي في الإنتاجية وليس مجرد ضخ أموال قد تزيد من ديون الاقتصاد وتفاقم عجز الميزانية.”
تصريح الدكتور بوشعيب يختزل المشكلة: لا تنمية بلا ادخار، ولا استثمار دون مردودية، ولا استقرار مالي مع سياسة اقتصادية قصيرة النظر.
أما وزارة الاقتصاد والمالية، فكانت واضحة في آخر تصريح رسمي لها:”نحن نولي اهتمامًا كبيرًا لتعزيز الاستقرار المالي عبر سياسات ادخارية وتحفيز الاستثمار المنتج، وذلك عبر تحديث منظومة التمويل وتعزيز الشمول المالي، مع دعم القطاعات المنتجة ذات القيمة المضافة العالية، بهدف ضمان نمو مستدام ومتوازن يقلل الاعتماد على القروض.”
لكن، في الواقع، وبينما تتحدث الأرقام الرسمية عن نمو اقتصادي نسبته تقارب 7%، لا تزال الأسر المغربية تئن تحت وطأة التضخم المرتفع وارتفاع تكلفة المعيشة، حيث يرى أكثر من 80% منها أن فرص الشغل في المستقبل ستتضاءل، وهو مؤشر خطير على أن النمو الحالي قد لا يترجم إلى فرص اقتصادية حقيقية تُحسن من الواقع الاجتماعي.
الادخار الوطني – حلم بعيد؟
ما نراه هو اقتصاد يتحرك في حلقة مفرغة من زيادة الاستهلاك على حساب الادخار، واستثمارات مدعومة بالديون بدلاً من العوائد، ونمو اقتصادي شكلي يفتقر إلى العمق النوعي.
وفي ظل هذه الظروف، يصبح السؤال الأهم: كيف يمكن إعادة بناء اقتصاد أكثر قدرة على التوازن، يحرص على زيادة الادخار الوطني كمصدر تمويل داخلي، وينتج فرص عمل مستدامة تدعم مستوى المعيشة؟
الأمر يتطلب سياسات واضحة وجريئة تُعيد الثقة في الاقتصاد الوطني، وترسم خارطة طريق حقيقية لبناء تنمية اقتصادية حقيقية، لا تكتفي برسم أرقام الزيادة، بل تضمن أن تعكس هذه الأرقام واقعًا يعيش فيه المواطنون بأمان اقتصادي واستقرار اجتماعي.