الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

فيلم..جوكر: حفريات في الذات المعذّبة، من سوسيولوجيا التوحّش إلى أنثروبولوجيا القناع

بقلم الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس

أثار فيلم “جوكر” لتود فيليبس عند صدوره عام 2019، عاصفة شديدة بين النقاد. لقد استاء العديدون من قدرة الفيلم المفترضة على إلهام أعمال عنف في الحياة الواقعية، وقوبل بانتقاد حاد للعدمية الوحشية التي تخللته..

لكن ما أن اصطفت طوابير الجمهور على شبابيك التذاكر، حتى بدأ النقاد يعيدون ترتيب أوراقهم في رؤية الفيلم الذي اعتبر بداية ميلاد الدراما التحليل النفسية في السينما، من خلال سؤال مركزي يعالجه الفيلم: كيف تحول “جوكر” الشاب آرثر الرقيق الذي يخدم أمه المريضة ويأمل بأن يُصبح فنانا كوميديا مشهورا إلى جوكر فوضوي ودموي يسعى للانتقام؟ ليخلص في النهاية إلى الحديث عن الأنا البديلة للمهرج Joker، رجل وحيد، يحيى حياة بائسة مقابل أجر زهيد ويعيش في شقة رديئة مع والدته (فرانسيس كونروي)..

يأتي فيلم جوكر”Joker” في لحظة تاريخية مشبعة بالتوترات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ليشكّل تحوّلًا نوعيًا في الاشتغال السينمائي على شخصية “الشرير” الأيقوني.

المرض والعنف الرمزي في المجتمع النيوليبرالي

فبعيدًا عن أفلام الكوميكس التقليدية، يقدم المخرج تود فيليبس في هذا العمل قراءة درامية سيكولوجية عميقة لميلاد الشر، من خلال شخصية آرثر فليك، الذي يتحول تدريجيًا إلى “الجوكر” في مدينة غوثام المتفسخة.. إنه تفكيك سينمائي شديد القسوة لظواهر التهميش، المرض والعنف الرمزي في المجتمع النيوليبرالي. عمل متقاطع بين الخطاب النفسي، الفلسفي والسوسيولوجي، يعيد مساءلة مفاهيم مثل الهوية، التمرد والجنون في زمن ينخره التفكك الأخلاقي والجفاء الجماعي.

تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك البنية العميقة للفيلم انطلاقاً من إشكالية مركزية: هل يشكّل فيلم “الجوكر” مجرد حكاية فردية عن الانهيار النفسي أم أنه يعيد التفكير في مفهوم “التمرد الجذري” في سياق عالم اجتماعي خانق؟

وهل يمكن اعتبار الجنون هنا شكلًا من أشكال المقاومة الأخيرة في وجه واقع قاسٍ ومعادٍ للضعفاء؟ وهل يمكننا، في ضوء التحليل الفلسفي أن نقرأ “الجنون” هنا بوصفه فعلاً تمردياً ضد النظام الرمزي للسلطة والهوية؟

هنا سنحلل الفيلم من منظور مزدوج :البعد النفسي للفرد المنهار والبعد الاجتماعي للمدينة التي تصنع الوحوش وتأطير ذلك ضمن مقاربة جمالية – فلسفية لأبعاد العنف، الهوية والعبث.

في بناء الذات المضطربة: التفكك بوصفه بنية لا عرضاً

آرثر فليك: من الذات الهشة إلى الأنا القاتل

شخصية آرثر فليك كما تجسدها عبقرية خواكين فينيكس، هي بنية مشروخة منذ البداية: طفل مُتبنّى ضحية تحرّش، يعاني من اضطراب ضحك قهري ويعيش مع أم غارقة في أوهامها النرجسية.. رجل مريض، نحيف، هشّ، مسالم، ضائع في مجتمع لا يعترف به.

متقلب المزاج وفي بعض الأحيان يبدو رشيقا بشكل مذهل، لا يتحدث الفيلم فقط عن “تاريخ شخصي” ولكن عن “محو تاريخي للذات”، حيث يجسد التحول من الضحية إلى الرمز من خلال سردية الانهيار. ومعه تنشأ ضحكة آرثر التي لا يمكن السيطرة عليها.. ينبع اغترابه العميق من عدم المساواة الاجتماعية، وتدهور القيم في عالم عنيف ومن الفساد السياسي، وسطوة التلفزيون وثقل البيروقراطية الحكومية والبطالة والانحراف الذي يرفع من قوة الميول العنيفة.

يقول في أحد المقاطع: “الأغنياء فظيعون.. الفقراء فظيعون”. لذلك يصبح اعتناق جوكر للشر المتطرف نوعًا من النزاهة وإثبات الذات.

يظهر آرثر في بداية الفيلم مهرجًا مأجورًا يعتني بأمه المريضة ويحلم بأن يصبح كوميديا مشهورا، لكن المدينة تلفظه والناس يسخرون منه والنظام الصحي يقطع عنه العلاج.. هذا التحوّل من الهشاشة إلى العنف ليس اعتباطيًا، بل هو نتيجة تراكمية لانهيارات رمزية:

سقوطه الجسدي (ضربه في الشارع)، سقوطه الاجتماعي (طرده من العمل)، ثم سقوطه النفسي (انكشاف أسرار والدته وقطع الدواء). كل ذلك يقوده إلى تجاوز العتبة :التحول إلى الجوكر، حيث يتحول من رجل يطلب الرحمة إلى شخص يفرض الخوف. السرد هنا لا يبرر العنف، لكنه يفكك أسبابه، ويعيد بناء شخصية “الشر” من منطلق العدمية الشعورية لا الشر الأخلاقي.

 

وهنا نستحضر أطروحة ميشيل فوكو في “تاريخ الجنون”، حيث لا يُعرّف الجنون في ذاته، بل فيما يُقصى عنه، وتُعزل الذات لا لأنها خطرة بل لأنها غير مفهومة ضمن منطق السلطة. لا يُشفى آرثر لأنه مريض بل لأنه فقير، غريب وغير نافع برأي المجتمع الرأسمالي.

الأمومة السامة والنظام الأبوي الغائب

تتلاعب والدة آرثر بالماضي، تقنعه البطل أنه ابن توماس واين رمز المال والسلطة، لكنها تمثل نموذج الأم السادية الناعمة، كما حللها جاك لاكان في حديثه عن “الوظيفة الرمزية للأب الغائب”. غياب الحقيقة الأبوية يُفقد الشخصية بوصلة الهوية، فيتحوّل آرثر إلى كائن متشظٍ يبحث عن مرآة.

يقدم الفيلم جسد الجوكر بوصفه نصاً تعبيرياً حياً، لا يخضع لهيمنة المعنى اللغوي. الرقص، الانكماش، الضحك، النحافة المرضية،

ليست كلها استعراضاً بل تجلٍ بصري للألم المكبوت. نستحضر هنا نظرية جوليا كريستيفا في “الاجتماعي في الجسد” حيث يصبح الجسد المعذّب فضاءً يعبر عن المرفوض والمقذوف من النسق الاجتماعي.. جوكر لا “يتزيّن” حقيقة بل يرتدي الألم ويضعه على وجهه قناعًا ملونًا.

المدينة كبنية قاتلة: غوثام “الآخر المستحيل”، الجغرافيا النفسية للفوضى

يعيدنا المخرج تود فيليبس الذي كتب السيناريو مع سكوت سيلفر، إلى الأيام الخوالي السيئة لمدينة غوثام، عندما كانت فرص العمل نادرة، والجرذان تنتشر في كل مكان، وأدى إضراب عمال النظافة إلى إفساد الشوارع بالقمامة.. منذ البدء يؤثث المشهد لفعل الصدمة، ليفسر أن أي انحراف له جذوره في الواقع الاجتماعي والنفسي،

يتعرض فليك للترهيب من خلال سرقة الأطفال الفقراء والأثرياء السكارى.. يبدو البطل الكئيب كما لو أنه يخفي حزنا عميقا وراء تلك الضحكة الواسعة لفم الجوكر، معجب بجاره (زازي بيتس)، يحتفظ بدفتر ملاحظات مليء بتدويناته عن يومياته ومشاريعه الصغيرة الحالمة، ويعمل على شد أعصابه ليصعد إلى خشبة المسرح في ملهى ليلي مفتوح مع ميكروفون. يعطيه صديقه الوحيد في العمل راندال مسدسًا لحماية نفسه. وبفضول سيدعو آرثر جارتهُ التي ستنشأ بينهما علاقة غريبة.

مدينة “غوثام” ليست مجرد خلفية للأحداث، إنها الفاعل السردي الأهم، جسد مريض يحتضر أخلاقيًا: القمامة تملأ الشوارع، الأغنياء يتباهون بازدرائهم للفقراء، ووسائل الإعلام تتغذى على التشهير والسخرية. فيلم الجوكر يصوّرها ليس كمدينة، بل كـ”ماكينة للاغتراب”: قمامة متراكمة، عنف مجاني، مؤسسات عاجزة وسخرية مريرة من الآخر.

نجد هنا امتدادًا واضحًا لنقد غي ديبور في “مجتمع الفرجة”، حيث تتحوّل العلاقات الإنسانية إلى صور، ويُختزل الآخر إلى مسافة بصرية. آرثر المهرج هو صورة فاشلة في مجتمع لا يقبل إلا الواجهة الناجحة. يرسم الفيلم بذلك صورة حضارية لما يمكن أن نسميه “الفشل الجماعي في التعاطف”، حيث يغدو آرثر مجرد مرآة لواقع فقد البوصلة. فحين يقتل، يصبح قاتلًا لكنه أيضًا رمز لغضب مكبوتٍ ينفجر في المدينة على شكل تمرد شعبي. جوكر إذن هو فرد، رمز وعدوى.

من الفردي إلى الجمعي: العنف كعدوى

يتحول جوكر فجأة، وبدون تخطيط، من قاتل فردي إلى رمز جماهيري. ُرفعا لأقنعة ت، ويثور الهامش. هذا الانتقال من فعل فردي إلى رمز جمعي يستدعي تفكيكًا عميقًا: هل تمرد الجوكر وُلد من ذاته أم أن الواقع هو من يحتاج رمزه ليُسقط على فشله صورة المهرّج؟ هل العنف الجماعي هنا تمرد أخلاقي أم تجلٍ لـ”العدمية المعاصرة” كما وصفها نيتشه وكامو؟ لا يتبنى جوكر نفسه الثورة فهو ليس منظّرًا ولا مخلّصًا. بل محفّز فوضوي أخرج مكنونات الغضب من الداخل الجمعي.


يرتبط مفهوم العنف في فيلم “الجوكر” بالاعتراف والاعتبار، فآرثر لا يُرى، لا يُسمع ولا يُحترم. لكنه حين يبدأ في القتل، يصبح موضوعًا للنقاش، يظهر في الأخبار وتُعلّق الجماهير على أفعاله. بهذا المعنى، يصبح العنف لغة جديدة، بديلة عن الحضور المستحيل داخل النسق الاجتماعي. وكأن “الجوكر” يقول: “إذا لم تعترفوا بوجودي كإنسان، فسأجبركم على الاعتراف بي كوحش”. يستدعي هذا المنطق تحليلات ميشيل فوكو وجورج باتاي حول العنف بوصفه كسرًا لنظام المعنى السائد، وخلقًا لشكل جديد من “الحق في الظهور”.

يماثل العنف في فيلم “المهرج” الصدمة، يفتح آرثر إحدى الرسائل ويقرأها فيعثر على رسالة كتبتها أمه الفقيرة بيني إلى رب عملها السابق توماس واين، تدعي فيها أن ابنها هو ابن غير شرعي لتوماس، وهو ما أدى إلى كرهه لوالدته التي أخفت الحقيقة عنه، ينزعج كثيرا من ذلك فيبدأ انحرافه المخيف.

البعد السياسي: هل الجوكر نموذج للتمرّد أم للعدمية؟

يطرح الفيلم سؤالًا شائكًا: هل يمكن أن نرى في الجوكر رمزًا للثورة؟ أم أنه مجرد تجسيد للعدمية والانهيار الأخلاقي؟

يمكن القول، من زاوية نقدية، إن الفيلم يتوقف عمدًا قبل الإجابة. هو يُظهر التمرد الشعبي، لكنه لا يمنحه صوتًا. لا يبدو الجوكر نفسه معنيًا بالثورة بل بتحرير ذاته من الذل. وبالتالي، يمكن اعتبار الفيلم بمثابة تحذير مرآوي من ميلاد الفوضى حين يُقصى الهامش ويُشيطن.

” ليس الجوكر” فيلمًا عن الشر، بل عن كيف يُصنع الشر حين ينهار كل معنى للانتماء والكرامة. هو عمل يحوّل شخصية كوميكس إلى تجربة وجودية وفكرية، فيها تتقاطع خطوط الفقر، المرض، السخرية، والعزلة لتنتج كائنًا لا يسعى إلى الانتقام فقط، بل إلى الظهور بأي ثمن. قد لا يُرضي الفيلم كل الأذواق، لكنه حتمًا يُربك كل التصنيفات، ويتركنا أمام سؤال مؤلم: كم من “جوكر” يُصنع الآن في ظلال المدن؟

التجريب الجمالي: الصوت، اللون، الإيقاع

اختيار المخرج لموسيقى هيلدور غونادوتير التي تعتمد التشيلو المنخفض والرنين الجوفي، يحوّل الصوت إلى نوع من التحنيط السمعي، كأن الجوكر يتحرك داخل نعش صوتي، تتماهى فيه مشاعره مع محيطه القاتم.
يتحدى فيلم “الجوكر” منطق الإثارة المتسارع ويمنح السرد بطئًا متمردًا، حيث اللقطات الطويلة والفراغات المكانية، كما في مشهد الدرج حيث يرقص المهرج بجنون وروعة لا توصفان، تمثل استعادة لزمن داخلي لا يخضع للحبكة التقليدية. إنه زمن الضحية لا البطل.

يستخدم الفيلم تدرجات الأصفر والأخضر والبني الصدئ لتجسيد فساد المدينة وتآكل الأمل. كلما اقتربنا من ولادة “الجوكر” ازداد التباين بين الألوان الساخنة والباردة، كأن آرثر نفسه يتحوّل إلى قنبلة لونية مجازية.

الجوكر بوصفه خطابًا فلسفيًا.. ما بعد الإنسان، ما بعد المعنى

يقدم خواكين فينيكس أداءً استثنائيًا، جسديًا قبل أن يكون لفظيًا. جسده المنهك، الضامر، حركات الرقص الغريبة، الضحك المَرَضي، كلها تشكل لغة غير ناطقة تعبّر عن انهيار نفسي داخلي. يمكن قراءة هذا الجسد وفقًا لتحليل جوليا كريستيفا، كجسد “مقذوف من النظام الرمزي” يعيش في الهوامش ويعبّر عن ذاته عبر الغثيان، الرقص والضحك الخارج عن السيطرة.

يحضر ألبير كامو بقوة في خلفية الفيلم: الجوكر ليس مؤمنًا بأي قيمة لكنه أيضًا لا يستسلم.

هو “العبثي” الذي يواجه الفراغ بالسخرية والظلم بالضحك. لكن الضحك هنا ليس مرحًا، بل هو كرب وجودي. في أحد الحوارات، يقول آرثر: “لطالما اعتقدت أن حياتي مأساة، لكنها في الحقيقة كوميديا.”

 

الجوكر ليس نهاية بل كائن ينتمي لعصر ما بعد الحقيقة. لا يؤمن بشيء، لا يثق بأحد، ويضحك على المأساة. إنه التجسيد الحي لمفهوم “العدمي المبتسم” (Smiling Nihilist) الذي لا يبحث عن المعنى، بل يسخر منه. وهنا يقف الفيلم بين ألبير كامو وجورج باتاي: كامو يرى أن العبث يجب أن يُجابَه بالرفض الواعي، أما جوكر فيجسّد تجاوزًا للعبث نحو الفوضى المُنتشية، حيث يصبح القتل شكلاً من أشكال “التحرير”.

ما بعد الجوكر، السينما كمرآة للذات المهشّمة

ليس “الجوكر” فيلمًا عن شخصية، إنه يعبّر عن هشاشة الإنسان المعاصر، عن مدن لا تراك إن لم تثر، ومجتمعات لا تمنحك صوتًا إن لم تصرخ. الفيلم لا يبرّر العنف لكنه يُعرّيه. في النهاية، لا يقول “جوكر” إن آرثر فليك كان محقًا، بل يسألنا: من الذي جعله هكذا؟ نحن أم هو؟ وهذا ما يجعل من الفيلم تجربة فلسفية سينمائية تتجاوز منطق الشر والخير، نحو أرض قاحلة للمعنى، حيث يصبح القناع هو الوجه، والضحك هو الصرخة الأخيرة في مدينة صماء.

هذه الجملة تختزل أطروحة الفيلم: نحن نعيش في عالم مأساوي لا يعترف بمآسينا، فيجعلنا نبدو مهرّجين فيه.

من الصعب تحديد ما إذا كان التشويش الذي يصنعه “الجوكر” عن نفسه ناتجا عن الارتباك أو الجبن أو عن وضعه الاجتماعي الهش أو سرقته من طرف الأطفال وتعنيفه من طرف السكارى، كما لو أن الكراهية المتعمدة كانت شكلاً من أشكال الشجاعة الفنية.. يرقص فينيكس ويضحك بشكل جنوني ويضع الأشياء في صورة الفم الكبير المرسوم على وجهه، ويرتكب جرائم قبيحة ومثيرة للاشمئزاز حقًا بتذوق شرس.

فيلم “Joker” خارق، تجسيد للفوضى النقية، مخيف وممتع في آن. تصوير لأرخبيل شخصية هزلية شريرة، إن السمة المميزة لهذا “الجوكر” هي خبثه المهيب. قد نتساءل كيف يمكن أن يكون هذا من عمل المخرج تود فيليبس الذي أخرج فيلمي “The Hangover” و”Road Trip” التي اشتهرت على الأقل بكونها كوميدية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى