
في تقرير حديث صادر عن البنك الدولي تحت عنوان “مؤشر الشمول المالي العالمي 2025″، يُرسم مشهد عالمي يفيض بالتفاؤل، حيث أعلن أن عدد البالغين في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط الذين يملكون حسابات مالية أو مصرفية بلغ مستويات غير مسبوقة.
ويبدو أن التكنولوجيا، لا سيما الهواتف المحمولة، كانت الحصان الأسود في هذا السباق نحو “الشمول المالي”.
لكن، حين نغوص في تفاصيل التقرير وننظر في مرآة الواقع المغربي، لا يسعنا إلا أن نتساءل: هل الشمول المالي في المغرب حقيقة رقمية أم سراب إحصائي؟
أرقام تنطق… لكنها لا تُقنع!
كشف تقرير الشمول المالي العالمي أن فقط 44% من البالغين في المغرب يمتلكون حسابات بنكية أو محفظة إلكترونية، وهي نسبة أدنى مقارنة بدول أخرى في المنطقة مثل الأردن (66%)، مصر (64%)، والجزائر (51%)، رغم مرور أكثر من عقدين على إطلاق البرامج والسياسات الحكومية التي رفعت شعار “الإدماج المالي الشامل”.
أما عن الاستخدام الفعلي لهذه الخدمات، فقد اشار التقرير إلى أن 32% فقط من المغاربة أجروا أو تلقوا دفعة مالية رقمية واحدة على الأقل خلال العام الماضي، مقابل 50% في مصر و57% في الأردن، ما يبرز الفجوة بين امتلاك الأدوات الرقمية واستخدامها في المعاملات المالية، فيما لا يتجاوز معدل الادخار 6% .. هذه الأرقام تسائل فعالية الاستراتيجيات الرسمية، وتكشف عن فجوة عميقة بين الخطاب التنموي والواقع المالي المعيش.
فهل يعقل أن نحتفي بالشمول المالي بينما 94% من المواطنين لا يدّخرون شيئاً؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه شمولاً على الورق ومؤشراً مريحاً للممولين والمانحين؟
الهواتف الذكية… ذكاءٌ شكلي أم واقع متعثر؟
في هذا السياق، يشير تقرير البنك الدولي إلى أن 90% من البالغين في المغرب يمتلكون هواتف محمولة، وأن 65% منهم متصلون بالإنترنت، ما قد يوحي بانتشار واسع للثورة الرقمية، لكن الأرقام تخفي واقعًا أقل إشراقًا، إذ إن 40% من مستخدمي الهواتف يحملون شرائح SIM غير مسجلة بأسمائهم، ما يعكس هشاشة كبيرة في منظومة الهوية الرقمية والثقة بالنظام المالي الرسمي، ما يطرح تساؤلات حقيقية عن مدى قدرة الدولة على تنظيم القطاع الرقمي بفعالية، ويكشف عن تناقض واضح بين الطموح الرقمي والتطبيق العملي على الأرض.
فهل يُعقل أن يتحدث المسؤولون عن التحول الرقمي بينما لا يعرف النظام المالي من هم مستخدمو نصف الشبكة؟ وهل يعكس هذا “شمولاً” أم تملصاً من الرقابة والإجراءات القانونية؟
رسوم غير متوقعة… أم “فخ” محكم؟
هذا و أفاد 10% من المواطنين الذين يتلقون رواتبهم في حساباتهم البنكية بأنهم دفعوا رسوماً غير متوقعة عند سحب أموالهم.. أي أن الشمول المالي تحوّل إلى “فخ مالي”، حيث يجد المواطن نفسه مضطراً لدفع رسوم لم يكن على علم بها، وهو ما يعتبر اكبر جانب المثير للقلق حسب التقرير.
تكشف هذه الممارسات عن هشاشة في العلاقة بين المواطن والنظام البنكي، حيث تغيب الشفافية وتُفترس الثقة، وهو ما أكده التقرير نفسه، داعياً إلى توضيح الرسوم الإلزامية وتلك التي يمكن تجنبها، عبر تحسين اللوائح وتوعية الزبناء.
لكن، من المسؤول عن هذه الهوة المعرفية؟ هل المواطن الذي لم يتلقَّ تعليماً مالياً كافياً؟ أم الأبناك التي اختارت أن تتعامل بمنطق الكم وليس الكيف، تلهث خلف أرقام الزبناء دون أن تُكلف نفسها عناء شرح بنود العقود؟
من جهته أكّد د. سامي عاشور، أستاذ الاقتصاد الرقمي في جامعة محمد الخامس بالرباط، خلال ورشة عمل حول الخدمات المالية الرقمية اننا؛ “نحتاج إلى رقمنة شاملة تراعي بيئاتنا القانونية والاجتماعية، لا أن نعتمد تقنية ناقصة تسهل الانخراط في الشمول المالي ثم تترك الباب مفتوحاً للتلاعب والاحتيال” ،
النساء والهاتف… ولكن دون ولوج مالي حقيقي
أحد المعطيات المثيرة التي تطرق لها التقرير هو أن 87% من النساء في المغرب يمتلكن هاتفا محمولا، مقابل 93% من الرجال. ومع ذلك، هذا التقارب لا ينعكس في نسب الولوج المالي، إذ تظل النساء المغربيات أقل استفادة من الخدمات المصرفية والمالية.. أليس هذا دليلاً آخر على غياب التمكين المالي الحقيقي للنساء، رغم مظاهر التقدم التكنولوجي؟
بين التجميل الإحصائي والتنمية الحقيقية
يمكن القول إن التقرير يقدم صورة وردية عن واقع لا يخلو من ثقوب، صحيح أن هناك تقدماً نسبياً في بعض المؤشرات، لكن حين يُطرح الشمول المالي على أنه إنجاز في حين أن نسبة الادخار بالكاد تلامس 6%، فالأمر أقرب إلى تسويق سياسي منه إلى تحول اقتصادي واجتماعي حقيقي.
إن المغرب لا يحتاج إلى مجرد هواتف ذكية، بل إلى مواطنين مُدمجين فعلياً في الدورة المالية، يفهمون آليات التعامل مع الأبناك، ويثقون في مؤسساتهم المالية، ويملكون أدوات الادخار والاستثمار، لا أن يُثقل كاهلهم برسوم “غير متوقعة” أو يُدفعوا إلى استعمال بطاقات غير مسجلة خوفاً من رقابة أو فقدان للثقة.