الرئسيةسياسة

مستشفى «الموت الصامت» بأكادير: وقفة غضب تُسائل الدولة

تحرير: جيهان مشكور

بين جدران متشققة وأسرة متآكلة وأجهزة عاجزة عن أداء دورها بل وعفن و دود و… ، يتجلى في مستشفى الحسن الثاني بأكادير مشهد يختصر مأساة قطاع الصحة العمومي في المغرب.

وقفات احتجاجية متكررة أمام بواباته و لافتات رفعت شعارات غاضبة، و وجوه حملت قصصاً موجعة عن معاناة يومية مع الإهمال وسوء التنظيم.. لم تكن الوقفات في محيطه نزوة عابرة، بل تكررت خلال أيام قليلة، في إشارة إلى تراكم غضب لم يعد قابلاً للاحتواء..، أما في الداخل فهناك واقع أكثر قتامة: أرواح تُزهق في ظروف مثيرة للشبهات، طواقم منهكة تعمل وسط ضغط لا يطاق، وأسر ترى فلذات أكبادها يموتون ببطء في صمت إداري قاتل.

أرقام ترسم الكارثة

كشف النصف الأول من سنة 2025 حجم الكارثة: أكثر من 33 ألف حالة استقبلها قسم المستعجلات، أي بمعدل 250 حالة يومياً، إضافة إلى أكثر من 1760 عملية مستعجلة، وأكثر من 3000 ولادة منها 668 قيصرية..

هذه الأرقام تكشف حجم الضغط الذي يتجاوز بكثير إمكانيات المستشفى وتجهيزاته.. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جامدة، بل هي قصص مكتظة بالانتظارت، صرخات ألم في أروقة ضيقة، وأطباء يتناوبون على التعامل مع أعداد تفوق طاقتهم بتجهيزات مهترئة..

خلف هذه الأرقام وجوه حية، بعضها خرج سليماً، وبعضها الآخر خرج محمولاً في صناديق خشبية.. في عملية فرز قاسية بين من ينجو صدفة ومن يُترك لمصيره.

وفيات تُسائل الضمير

اهتزت المدينة مؤخراً على وقع وفيات نساء داخل المستشفى، قيل إنها وقعت في ظروف تنضح بالإهمال وسوء التدبير.. عائلات الضحايا لم تتحدث بلغة الأرقام، بل بلغة الدموع والمرارة، وهي تصرخ بأن ما حدث ليس قدراً بل نتيجة مباشرة لسياسة تهاون وتقصير، فالموت هنا لم يعد حادثاً عرضياً بل صار جزءاً من يوميات المستشفى، كأنه ضيف دائم لا يغادر..هذه الأخبار، تحولت إلى وقود للاحتجاجات ودعوات صريحة لتحقيق شفاف ومحاسبة المسؤولين.

اقرأ أيضا…

استنكار وتنديد بتعنيف السلطات لاحتجاجات مواطنيين بأكادير ضد سوء الخدمات الصحية

ترقيع بقرارات شكلية

في هذا السياق، جاء إعفاء مدير المستشفى كجواب رسمي سريع، في محاولة لتقديم كبش فداء يهدئ الشارع، لكنه لم ينجح في تهدئة الغضب الشعبي.. فالمحتجون عادوا بعد أيام إلى الساحات، رافعين شعارات أكثر حدة، مؤكدين أن المشكل أعمق من شخص المدير وأن الأزمة بنيوية مرتبطة بنقص التجهيزات و الموارد البشرية والمالية، وسوء الحكامة، وغياب رؤية إصلاحية شاملة..
إعفاء مسؤول واحد لم يكن سوى محاولة لتغطية شمس بغربال مثقوب.

شهادات من قلب المعاناة

تختزل القصص التي نقلها المحتجون” المأساة اليومية” : أسر تنتظر ساعات طويلة أمام قاعات الطوارئ، مرضى يُنقلون في ظروف مهينة إلى مستشفيات أخرى بحثاً عن سرير شاغر، وطاقم صحي يئن تحت ضغط عمل غير محتمل.. أحد الشعارات التي رُفعت في الوقفة كان بالغ الدلالة: «سبيطار خاصو سبيطار»، عبارة ساخرة لكنها تلخص الوضع أكثر من أي تقرير رسمي، فالمستشفى نفسه يحتاج إلى علاج عاجل قبل أن يعالج مرضاه.

أسئلة قاسية بلا أجوبة

تطفو وسط هذا المشهد القاتم أسئلة حارقة على السطح: هل يكفي استبدال مدير لإصلاح مؤسسة تُعاني منذ سنوات؟ من يتحمل المسؤولية عن الأرواح التي أُزهقت؟ وإلى متى سيظل المواطن المغربي يواجه قدره الصحي بين ردهات مكتظة ومصاعد معطلة وأجهزة متهالكة؟ هذه الأسئلة ليست ترفاً بل ضرورة، لأنها تحدد معنى الحق في الصحة ومكانته في سياسات الدولة.

الاحتجاجات بين الأمن والمجتمع

كان الاستنفار الأمني حول المستشفى واضحاً حيث أظهرت صور ومقاطع فيديو تواجداً مكثفاً لعناصر حفظ النظام، ومحاولات لمنع تغطية الإعلام في بعض اللحظات، فيما رفع المحتجون شعارات طالبوا فيها بتحسين الخدمات وضمان مجانية وكرامة العلاج.. حضور الأمن بهذه الكثافة أمام مستشفى بُحّت أصوات المرضى داخله يوحي بأن السلطة تفضّل قمع الإحراج الإعلامي على الاستجابة لمطالب العلاج والشفافية.. ليتحول الاحتجاج السلمي إلى اختبار لحرية التعبير عن حق أساسي مُهدّور.

سخرية الواقع

في مفارقة غريبة.. كيف لدولة تُصرف مئات المليارات من الدراهم على بناء ملاعب ضخمة استعداداً لاستقبال أقل من أربعين مباراة في كأس العالم، وتُنفق الملايين على المهرجانات والإشهارات لتلميع صورة “موروكو” في الخارج، أن تعجز عن توفير سرير لامرأة حامل أو جهاز تنفس لطفل يحتضر؟ أي مفارقة هذه حين يصبح الترفيه أولوية على حساب الحق في الحياة؟

أكادير نموذج لوطن بأكمله

المستشفى الجهوي الحسن الثاني ليس حالة معزولة، بل انعكاس صارخ لمعظم المستشفيات العمومية عبر التراب الوطني، فإذا كانت أكادير، باعتبارها إحدى كبريات المدن المغربية، تعيش هذا الجحيم، فكيف هو الحال في المدن الصغرى والقرى والدواوير التي تُركت للنسيان؟ وإذا كان هذا المشهد البائس يحدث في مدينة يترأس مجلسها البلدي رئيس الحكومة نفسه، فما الذي يمكن أن نتوقعه في مناطق لا تملك حتى صوتاً سياسياً يُسمع؟

فما يعيشه مستشفى الحسن الثاني اليوم ليس استثناءً بل قاعدة، وهو مرآة لما يشهده قطاع الصحة ككل: خصاص مهول في الأطر الطبية والتمريضية، نقص حاد في التجهيزات، اختلال في الحكامة، وسياسات تفضل الاستعراض على حساب الضروريات.. فالقطاع الصحي في المغرب أشبه بجسد مريض تُرك دون علاج، يترنح بين مسكنات شكلية ومبادرات ظرفية لا تعالج أصل الداء.

واقع بلا تجميل

الأمر لم يعد يحتمل الخطابات الرسمية التي تتحدث عن إصلاحات كبرى واستراتيجيات وطنية، الواقع يفضح كل ذلك: مواطنون ينامون على الأرض في انتظار سرير، عمليات جراحية تُؤجَّل بسبب غياب المعدات، أسر تُضطر لبيع ما تملك لتغطية تكاليف العلاج في القطاع الخاص، وأطباء شباب يهاجرون جماعياً بحثاً عن ظروف إنسانية للعمل.

وطن يختنق

فالوقفة أمام المستشفى لم تكن مجرد احتجاج، بل كانت إعلاناً عن موت الثقة بين المواطن والدولة… موت بطيء يوازيه موت سريع داخل قاعات الاستعجال.

إنها مأساة وطن يرفع شعارات التنمية وهو يدفن مواطنيه في صمت، ويستعرض صور الملاعب اللامعة بينما أجنحة مستشفياته غارقة في العتمة والبرد والانتظار القاتل.

اقرأ أيضا…

استنكار وتنديد بتعنيف السلطات لاحتجاجات مواطنيين بأكادير ضد سوء الخدمات الصحية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى