الرئسيةرأي/ كرونيك

نصف الكأس الفارغ…مساحة الناس التي تكرهها السلطة

بقلم الصحافية هدى سحلي

السلطة تعشق الأرقام الملوّنة والجداول المليئة بالمنجزات، لكنها ترتجف أمام الفراغات البيضاء. الامتلاء يصلح للدعاية، أما الفراغ فيكشف ما لم يتحقق: مدرسة بلا جودة، مستشفى بلا دواء، أجر بلا قيمة.

لذلك يطلبون منا أن نحتفل بالنصف الممتلئ، بينما يعرفون جيدًا أن السياسة الحقيقية تبدأ من النصف الفارغ، من الأسئلة المقلقة التي لا يملكون لها جوابًا.

يُقال لنا دائما لما تتجاهلون نصف الكأس الممتلئ؟

في كل مناسبة ولحظة احتجاج عابر أو ممتد في الزمن، يُقال لنا دائما لما تتجاهلون نصف الكأس الممتلئ؟ وترفع في وجهنا بطاقة العدميين الذين لا ينظرون إلا لنصف الكأس الفارغ
وكأن نجاح مدرسة هنا أو مستشفى هناك، أو طريق معبّد في قرية نائية، يكفي ليمحو صورة التعليم المتهالك والصحة المريضة والغلاء الخانق.

النصف الممتلئ قد أنجز بالفعل، وإن كان السؤال مشروعا: بما امتلأ؟ فهو قليل في كل الأحوال.

أما النصف الفارغ فهو ما يهمّ الناس: الأقسام المكتظة، المستشفيات التي تفتقر إلى أبسط التجهيزات، والأجور التي لا تصمد أمام الأسواق…

النصف الممتلئ هو مساحة السلطة، لأنها تملك أن تسلط الضوء عليه، أن تضخمه وتعيد تكراره في نشرات الأخبار وتقارير الإنجاز.

أما النصف الفارغ فهو مساحة الناس، لأنه يتجسد في يومياتهم: في الدواء الغائب، في المدرسة التي تتحول إلى حضانة كبيرة بلا جودة، في الأجر الذي يتبخر قبل منتصف الشهر.
النصف الفارغ هو مساحة الناس ولغتها، هو الفجوة بين الخطاب والواقع، بين الصور المصقولة وحياة الشقاء اليومية، هو الذي يفضح كذب الدعاية، ويفضح الامتلاء، هو ما يعيشه الناس يوميا في طوابير المستشفيات، وفي رحلة البحث عن عمل وسكن، هو الذي يعيد النقاش إلى مكانه الطبيعي:

ماذا ينقصنا، وما الذي لم يتحقق؟ هنا تكمن السياسة الحقيقية، هنا يبدأ الوعي ويشتعل الغضب.

النصف الفارغ ليس عدميًا، كما يريدون أن يرسخوا، بل هو رفض أنصاف الأشياء والحلول، هو الرغبة في الاكتمال، والدعوة إلى التطور، هو النضال، والنضال متطلّب لا يقنع.

أما النصف الممتلئ فهو رديف القبول الضمني بما هو قائم، القناعة بما حضر، بل تواطؤ مع سياسة الإنجاز الناقص، بينما التركيز على النصف الفارغ هو فعل مقاومة: مقاومة لسياسة التجميل بالأرقام، ومقاومة لخطاب “الأمور بخير” الذي يفتقد إلى برهان في الواقع.

النصف الفارغ هو ما يصنع الاحتجاجات

إن النصف الفارغ هو ما يصنع الاحتجاجات، وهو ما يدفع الناس إلى النزول للشارع، كما حدث في أكادير بسبب تدهور قطاع الصحة، وفي الحوز، والريف …وكما يحدث كل يوم في صمت داخل مناطق الهامش والعزلة، حيث يشتد الشعور باللاعدالة.

السلطة تخشى هذه العيون التي تفتش في الفراغ أكثر مما تحب تلك التي تكتفي بما امتلأ.
ولهذا نحن نصرّ على النظر إلى النصف الفارغ، لا لأننا جاحدون، ولا لأننا عدميون، بل لأننا نرفض أنصاف الحلول، لأننا غير قنوعين حين يكون الأمر متعلقا بكرامة الإنسان وحريته، ولأننا نعرف أن الاكتفاء بالقليل ليس قدرا، بل اختيارا سياسيا يمكن تغييره.

النصف الفارغ من الكأس ليس مشكلة يا سادة، بل هو وعد بما يمكن أن يكون، كل ما يتطلب تغيير زاوية النظر.

اقرأ أيضا…

رضيعة ضحية الإهمال تشعل احتجاجا من أكادير لمراكش ضد منظومة صحية مهترئة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى