مجتمع

آيت ملول: فضيحة تفويت أراضٍ عمومية حيوية وتحويلها لعمارات تجارية

يبدو أن جماعة آيت ملول قررت كتابة فصل جديد في كتاب العمران المغربي، فقد حلت الفرقة الوطنية للدرك الملكي للجماعة لإجراء أبحاث موسعة بأمر من النيابة العامة المكلفة بجرائم الأموال بمراكش بعد تراكم معطيات تفيد بوجود خروقات عمرانية وإدارية تجاوزت حدود الخطأ العرضي إلى شبهات منظمة لتفويت أراضٍ عمومية يفترض أنها ملكٌ للجماعة وسكانها، لا لجيوب مضاربين ينتمون غالباً إلى دوائر النفوذ نفسها التي تحدد القواعد ثم تلتف عليها.

شكاية ثقيلة بوثائق تفضح المستور

تفجرت القضية بعد وضع أعضاء بالمجلس الجماعي شكاية مفصلة لدى رئيس النيابة العامة بالرباط، مرفوقة بوثائق تكشف كيف تم تفويت عقار مخصص لبناء مسجد ومستوصف ومقاطعة إدارية ومقر للبريد، ليُحوَّل بقدرة قادر إلى عمارات سكنية لفائدة شركة يملكها المنعش العقاري نفسه الذي استفاد من العقار الأصلي، قبل أن يبيعه لشركة أخرى في ملكية زوجته بشراكة مع زوجة عامل الإقليم السابق المعفى من مهامه.. وبحسب الوثائق، لم يكن التفويت مجرد خطأ إداري بل عمليات متتالية تم فيها اللعب على كل الثغرات الممكنة، من تغيير هوية الشركات إلى استعمال رخص استثنائية فقدت صلاحيتها منذ سنوات.

تحويل مسجد ومستوصف إلى طوابق إسمنتية

تظهر الوثائق أن المشروع السكني الذي كان يفترض أن يكون نموذجياً للسكن الاقتصادي والاجتماعي، انطلق في الأصل على أساس بناء 600 فيلا ومرافق حيوية وفق تصميم تهيئة واضح.. لكن النوايا تغيرت بمجرد دخول بعض الوجوه النافذة على الخط، فتبدلت الفيلات إلى عمارات شاهقة، وتبخر المسجد والمستوصف والمساحات الخضراء، في مخالفة صريحة لقوانين التعمير وفي طعن مباشر لحق السكان في خدمات أساسية لا تقل أهمية عن السكن نفسه،و الأسوأ أن الرخص الاستثنائية التي استُعملت لتبرير هذا الانحراف صدرت قبل حوالي عقد من الزمن، وكانت مشروطة ببدء الأشغال خلال أجل محدد، ومع ذلك تم استعمالها سنة 2022، أي بعد ثماني سنوات كاملة من انتهاء مفعولها.

ثمن بخس… وضرر كبير

يُدكر ان العقار المفوت مسجل باسم شركة العمران سوس ماسة تحت الرسم العقاري 09/82354، ومساحته تتجاوز 28 ألف متر مربع، ورغم قيمته العالية كمرفق عمومي في موقع استراتيجي، تمت عملية التفويت مقابل 8.2 مليون درهم فقط، في ثمن لا يعكس بأي شكل القيمة السوقية الحقيقية لأرض بهذه المواصفات، كما ان التفويت تم أيضا دون استخراج الرسوم العقارية الخاصة لكل مرفق، ودون احترام المساطر القانونية التي تحمي ممتلكات الجماعة، ما تسبب في ضرر مالي مباشر للمال العمومي وفي ضرب ثقة المواطنين في إدارة تُفترض فيها حماية مصالحهم لا وضعها في المزاد لصالح شركات بناء تبحث عن الربح السريع.

رخصة استثنائية فقدت شرعيتها وتحولت إلى أداة للريع

صدرت الرخصة الاستثنائية التي يُستند إليها لتبرير تحويل المشروع إلى عمارات R4 سنة 2014 في مرحلة سُمح فيها للمستثمرين بالاستفادة من تسهيلات ظرفية لتحفيز الاستثمار، لكن الاستثناء الذي كان مجرد إجراء مؤقت تحول مع مرور الوقت إلى باب خلفي للتحايل على القانون.. ولأن الشركات التي أتقنت هندسة الثغرات أكثر من هندسة المعمار كانت تبحث عن أقصى المكاسب بأقل التكاليف، فقد تم تجاهل الشروط الملزمة لإنجاز المرافق العمومية قبل أي تفويت، كما تم تجاهل شرط إنجاز طريق تربط المشروع بالشارع الرئيسي، وهي شروط وُضعت لحماية التوازن العمراني وضمان جودة عيش السكان.

هندسة قانونية مشبوهة

و في ذات السياق تبرز واحدة من أكثر النقاط إثارة في الملف هو أن العقد الأصلي وُقع مع شركة محددة، لكن العقار سُجِّل باسم شركة أخرى حديثة التأسيس لم تكن طرفاً في الاتفاقيةل الأصلية، ما يفتح الباب أمام شبهة تزوير واحتيال واستغلال رخص لا يحق قانوناً استعمالها، حيث استغلت الشركة الجديدة هذا الوضع للاستفادة من إعفاءات ضريبية مخصصة للسكن الاجتماعي رغم أنها لم تكن مؤهلة أساساً.. علاوة على كون المشروع بني على أساس رخصة انتهت صلاحيتها منذ سنوات، هذا التأخير وحده كافٍ لإسقاط أي رخصة بناء قانونياً، لكنه في هذا الملف تحول إلى مجرد تفصيل عابر في ميزان امتيازات توزع بعيداً عن أعين القانون.

خلاصة مشهد عمراني وسياسي يكرر نفسه

قصة آيت ملول ليست حادثة معزولة بقدر ما هي نموذج مصغر لكيف تتحول المدن إلى مناطق نفوذ، وكيف تتحول الأراضي العمومية إلى فرصة استثمارية مغرية، وكيف يصبح القانون تفصيلاً قابلاً للطي مقابل علاقات ومصالح معقدة تتقاطع فيها السياسة بالإدارة وبالمال.. ما يحدث ليس مجرد خرق مسطري، بل هو ضرب لحق المواطنين في مرافق عمومية هي جزء من كرامتهم اليومية، ومسّ مباشر بالمال العام، وإشارة لما يعتمل داخل منظومة تخسر فيها الجماعات ما تملكه، وتربح الشركات ما لا تستحقه، فيما يبقى المواطن المتضرر الوحيد من مشاريع تُقام فوق أرضٍ فقدت قدسية القانون واكتسبت رائحة الريع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى