
رحيل فيلسوف السينما داود عبد السيد
في مساءٍ مثقلٍ بالفقد، أُسدل الستار على حياة المخرج المصري الكبير داود عبد السيد، الذي رحل عن عالمنا عن عمر ناهز 79 عاما، تاركا خلفه سينما تشبهه: عميقة، قلقة، وممتلئة بأسئلة لا تهدأ. خبر الرحيل جاء هادء كعادته، لكنه أصاب محبيه بفراغٍ يصعب ملؤه، فراغ مبدعٍ لم يكن يصنع أفلاما بقدر ما كان يكتب سيرة الإنسان على الشاشة.
خسارة سينما بأكملها
كتبت زوجته، كريمة كمال، بكلمات موجوعة على صفحتها في فيسبوك: «رحل اليوم أغلى ما عندي، زوجي وحبيبي»، وكأن هذه الجملة وحدها تكفي لتلخيص خسارة خاصة وعامة في آنٍ واحد؛ خسارة امرأة، وخسارة سينما بأكملها.
لم يكن داود عبد السيد مجرد مخرج، بل كان في نظر كثيرين فيلسوف السينما المصرية، الرجل الذي آمن بأن الصورة قادرة على التفكير، وبأن الفيلم يمكن أن يكون سؤالا مفتوحا لا إجابة جاهزة له. في أعماله، من «الكيت كات» إلى «أرض الخوف»، لم نرَ أبطالا خارقين، بل بشرا عاديين يثقلهم العجز، ويطاردهم الحلم، ويتعثرون وهم يبحثون عن معنى لحياتهم في عالمٍ قاسٍ ومرتبك.
مخرج الهموم الشخصية بامتياز
كان عبد السيد مخرج الهموم الشخصية بامتياز؛ اقترب من الفرد المهمش، من الإنسان الذي يسير على هامش المجتمع، ويخوض معركته الصامتة ضد القهر والرتابة والخوف.
في «رسائل البحر» واجه وحدة الروح، وفي «مواطن ومخبر وحرامي» كشف ارتباك الواقع وتشظيه، وفي «البحث عن سيد مرزوق» أعاد الاعتبار لحياة منسية لا يلتفت إليها أحد.
أما «الكيت كات»، فبقي شاهدا خالدا على انتصار الروح على العجز، في ذلك المشهد الأيقوني الذي يقود فيه الكفيف دراجته النارية متحديًا الظلام.
ينتمي داود عبد السيد إلى قلة نادرة في العالم العربي اختارت طريق سينما المؤلف؛ سينما لها بصمة فكرية وجمالية واضحة، يمكن اختصارها بكلمة واحدة: الحرية.
حرية الإنسان في مواجهة ضعفه، وحرية الروح في كسر القيود، وحرية الفن في أن يقول ما لا يقال، بلا مواربة ولا تزييف.
وُلد عبد السيد في القاهرة عام 1946، وتخرج في المعهد العالي للسينما، وبدأ مسيرته مساعدا ليوسف شاهين، قبل أن يشق طريقه الخاص بثبات وصبر.
نالت أفلامه جوائز وتكريمات، ووصل اسمه إلى مهرجانات عربية ودولية، بل ولامس حلم الأوسكار عبر «رسائل البحر».
ومع ذلك، ظل مخلصًا لسينما لا تركض خلف السوق ولا ترضخ لذائقة عابرة.
في عام 2022، أعلن اعتزاله بهدوء يشبه انسحابه الأخير من الكادر، قائلًا: «لا أستطيع التعامل مع الجمهور الموجود حاليًا… لأنه يبحث عن التسلية»، كانت جملة موجعة، لكنها صادقة، صادرة عن فنان ظل يبحث عما هو أعمق وأبقى في النفس البشرية.
وبرحيل داود عبد السيد، تخسر السينما المصرية بل والعالمية، أحد أنبل أصواتها، وتفقد الشاشة عينا كانت ترى ما وراء الظاهر، غير أن أفلامه ستظل حية، تنبض بأسئلتها، وتهمس لكل من يشاهدها بأن الحرية ممكنة، حتى في أكثر اللحظات عتمة.
لقد رحل الجسد وبقيت الرؤية

يمكن الاقتراب من عالم داود عبد السيد الحزين والإنساني عبر التوقف عند فيلمين مفصليين في مسيرته: «الصعاليك» و«الكيت كات».
فهذان العملان، على اختلاف نبرتهما الظاهرية، يختصران جوهر مشروعه السينمائي القائم على مساءلة الواقع والبحث عن الحرية وسط الهشاشة والعجز.
«الصعاليك»… سقوط الحلم في مدينة لا ترحم

في «الصعاليك» (1985)، يفتح داود عبد السيد بوابة مبكرة على عالم المهمشين، لكن ليس بوصفهم ضحايا فحسب، بل بوصفهم أفرادا يحلمون، ثم يُهزمون ببطء. يتتبع الفيلم مصير صديقين قادمين من الهامش الاجتماعي، يحملان طموح الصعود والنجاة، غير أن المدينة تبتلعهما بلا شفقة.
هنا، لا يظهر الفقر كحالة مادية فقط، بل كقدر نفسي وأخلاقي؛ إذ يتحول الحلم بالترقي إلى تنازل تدريجي عن القيم، ويصبح النجاح مرادفا لفقدان البراءة.
كان عبد السيد، منذ بدايته، شديد القسوة في نظرته إلى المجتمع، لكنه لم يكن قاسيا على شخوصه؛ منحهم تفهما إنسانيا عميقا، وتركهم يخطئون وينكسرون أمام أعيننا، من دون إدانة مباشرة.
«الكيت كات»… الانتصار المؤقت للروح
أما «الكيت كات» (1991)، فهو الوجه الآخر للحكاية نفسها، لكن بنبرة أكثر شاعرية وسخرية مرة. في هذا الفيلم، تبلغ رؤية داود عبد السيد نضجها الكامل عبر شخصية الشيخ حسني، الكفيف الذي يرفض الاعتراف بعجزه، ويتعامل مع الحياة كما لو أنه يراها.

الحي الشعبي في «الكيت كات» ليس مجرد خلفية مكانية، بل كائن حيّ يعج بالأحلام الصغيرة والخيبات اليومية. الجميع محاصر: بالفقر، بالجهل، بالروتين، وبالأحلام المؤجلة. ومع ذلك، يصر الشيخ حسني على اقتناص لحظة حرية، ولو كانت وهمية، في مشهد قيادة الدراجة النارية، الذي تحوّل إلى أيقونة سينمائية للتمرّد على القدر.
بين الفيلمين… خيط داود عبد السيد الخفي
ما يجمع «الصعاليك» و«الكيت كات» ليس فقط الاهتمام بالمهمشين، بل ذلك السؤال الدائم الذي يطرحه داود عبد السيد:
هل الخلاص ممكن داخل هذا الواقع؟
في «الصعاليك»، يبدو الجواب قاتمًا، إذ يسحق المجتمع الفرد ويحوله إلى نسخة مشوهة من حلمه الأول. وفي «الكيت كات»، يمنحنا المخرج بصيص أمل، ليس في تغيير الواقع، بل في القدرة على مقاومته نفسيًا، ولو عبر وهم جميل.
بهذين الفيلمين، رسم داود عبد السيد ملامح سينما ترى الإنسان في ضعفه وقوته معا، سينما حزينة، لكنها غير مستسلمة، تؤمن بأن الحرية قد لا تكون خلاصا نهائيا، لكنها تظل ضرورة وجودية لا غنى عنها.





