رأي/ كرونيك

المفهوم التنموي الجديد: أي مفهوم، لأي تنمية؟

كثر الحديث بين المختصين غير المختصين؛ في أروقة المؤسسات الرسمية وداخل الكيانات السياسية؛ في الصالونات المخملية، وحتى على كراسي المقاهي الشعبية عن النموذج التنموي المرتقب إعداده ثم تبنيه؛ وذلك منذ الإعلان رسميا عن فشل النموذج المتبع منذ مطلع الألفية الثانية، ومنذ توالي الدعوات إلى التفكير في نموذج جديد من شأنه الاستجابة لتطلعات أكبر عدد من المغاربة، الذين أرهقهم التوزيع غير العادل للثروة اجتماعيا ومجاليا أيضا.

ورغم صدق الدعوة إلى تبني مفهوم تنموي جديد، ووجاهة العديد من الأفكار التي تناقش ويجري تداولها بعيدا عن المزايدات السياسية والتناحر الطبقي الذي بدأ ينحو تدريجيا نحو صيغ تعبير عنيفة في المجتمع؛ فمن المنتظر، حسب الإرهاصات البادية للعيان لحد الآن، أن يقتصر هذا النموذج المرتقب على التعامل فقط مع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للتنمية، ولن يلامس أسسها السياسية رغم الحديث مؤخرا عن ضرورة وضع عقد اجتماعي جديد، لا شك في أهميته وضرورته لنجاح المفهوم التنموي الجديد.

وبما أن الاقتصاد المغربي يفتقد كلية لأي من المقومات التي تسمح للسلطة القائمة عليه باتخاذ قرارات مصيرية مستقلة ولو في قطاعات جزئية، فإن المفهوم التنموي الجديد مهما قيل عن أصالته وعن انبثاقه من معطيات الواقع المغربي لن يخرج أبدا عن نطاق:

*الأفكار اللبرالية السائدة في العالم بعد أن توارت الأفكار الاشتراكية والشيوعية إلى الخلف وإلى الرفوف في المتاحف النظرية حتى في معاقلها الأصلية.
*وصفات وتوصيات المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية المانحة للمعونات أو المقرضة للمال للمشاريع التنموية المغربية.

ولا يختلف اثنان على أن هذين المعطيين سيحضران بقوة عند انتقاء أعضاء اللجنة التي سيجري تشكيلها لهذا الغرض. فمهما سيذاع عن كفاءة هؤلاء، وعن شهاداتهم العليا من الجامعات والمعاهد الأجنبية، وعن خبرات بعضهم في الأسواق المالية أو في البورصات الدولية، فالأساس هو أن تكون لديهم قناعة بالفكر الاقتصادي اللبرالي، وإيمان راسخ بأن العولمة واقع لا مفر من الانصهار في بوتقته، والتعامل معه ومع تداعياته.

ومن الوارد جدا أن مكاتب استشارية أوروبية وربما أمريكية ستدلي بدلوها وتساهم في بلورة المفهوم التنموي المرتجى، وتحديد ملامحه الكبرى وما سيتضمنه من مشاريع عاجلة وآجلة انطلاقا من السعي إلى تفادي سلبيات مشاريع الأوراش الكبرى السابقة التي استنزفت اعتمادات مالية كبيرة، ولم يكن لها المردود الاقتصادي والاجتماعي الذي كان مأمولا. ولكن لن يكون في قدرة لا أعضاء اللجنة، ولا المكاتب الاستشارية ولا حتى الحكومة بعد ترشيقها وترقيعها المنتظر أن تعطي ضمانات ولو بنسبة ضئيلة عن نجاح المفهوم التنموي الجديد، لأن الجميع يدرك بأن نجاح مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية مرهون بعاملين رئيسيين:

/ العامل الأول هو نجاعة وكفاءة المؤسسات المنوط بها تنفيذ هذه المخططات.
/ العامل الثاني هو توفر السيولة المالية الكافية لتمويل المشاريع المبرمجة.

ولهذا أيا كانت بلاغة اللغة التي سيصاغ بها المفهوم الجديد للتنمية، وأيا كانت الأهداف التي سيروم تحقيقها، والآمال التي سينعشها، فإنه سيظل مجرد آماني وطموحات على الورق، وقد يتحول إلى انتكاسة جديدة مولدة لإحباطات أخرى، إذا لم يول هذين العاملين الأهمية القصوى، ويعطي لتحقيقهما الأولوية في مقارباته.

*نجاعة وكفاءة المؤسسات المنفذة:

إن المتتبع لتاريخ إحداث المؤسسات السياسية في المغرب تشريعية كانت أم تنفيذية أو جماعات ترابية محلية وجهوية سيلاحظ أنها ضخمة العدد كمؤسسات وكممثلين داخلها، وأنها مترهلة ومكبلة بقيود بيروقراطية خانقة؛ الأمر الذي يجعلها مجرد أداة استنزاف للمال العام أكثر مما هي منتجة له أو مساعدة في مضاعفة قيمته. فقد لوحظ بأنه رغم ضخ استثمارات ضخمة في بعض القطاعات فإن العائد كان هزيلا، إذ لم تتحقق نسبة النمو المرجوة، ولم تحدث مناصب الشغل الموعودة. ويعود السبب في ذلك إلى أن معظم المؤسسات لم تحدث لتلبية حاجة مجتمعية أو مصلحة وطنية عليا، وإنما جرى إحداثها لاعتبارات ذات طبيعة أمنية صرفة، وأحيانا ظرفية في إطار سياسة الريع والترضية لهذا أو ذاك من الأحزاب ومن الشخصيات.

إن إعادة النظر في المؤسسات بكافة أنواعها من حيث عددها، وهيكلتها وعدد أعضائها وكفاءة المشرفين عليها وتوضيح اختصاصاتها، وإن اقتضت المصلحة الوطنية العليا إلغاء بعضها أو الدمج فيما بينها أمر لا مناص منه لنجاح أي مجهود تنموي، إذ من شأن ذلك أن:

/ يساعد في جذب المزيد من الاستثمارات وخاصة الأجنبية التي أوضحت مرارا أنها لم تتلق أية ضمانات مؤسسية، والتي اشتكت كثيرا من الجمود البيروقراطي، ومن غياب الشفافية الحكامة الجيدة، ومن بطء الإصلاحات المؤسسية بما فيها القضائية.

/ يؤدي إلى الإسراع في تنفيذ المشاريع نتيجة تقليص عدد المتدخلين فيها، وتوفير الكثير من المال الذي يذهب في ميزانية التسيير لإنفاقه في التجهيز والاستثمار، وإعطاء الانطباع لدى الرأي العام بأن الدولة جادة في ترشيد النفقات وضبط آليات صرفها.

*تمويل المشاريع المبرمجة:

إن حديث السياسيين عن المشاريع والبرامج والغايات المرجوة منها دون الإشارة إلى مصادر تمويل إنجازها هو مجرد تهريج وبيع للأوهام ليس إلا. فالتمويل هو حجر الزاوية في أي عملية تنموية وعنصر جوهري في بلوغ أهدافها. لقد سجل تقرير المجلس الأعلى للحسابات المرفوع إلى صاحب الجلالة بشأن الإخفاق في تنفيذ برنامج “منارة المتوسط” أن أحد أسباب تباطئ تنفيذ بعض البرامج يكمن في التأخر المسجل في توفير الاعتمادات المالية اللازمة لها.
وفي العادة، فإن تمويل الدول لمشاريعها يتم إما من خلال تعبئة مواردها الذاتية والفائض في ميزانيتها أو من خلال اللجوء إلى الاقتراض الداخلي والخارجي، إضافة إلى بعض المنح والهبات المخصصة في الغالب لمشاريع ذات طابع خيري وإنساني والقادمة من دول شقيقة وصديقة.

وحسب التجربة المغربية في تمويل مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأوراش الكبرى منذ ستينات القرن الماضي، فإن الاعتماد على التمويل نتيجة تعبئة الموارد الحكومية الخاصة كان ضئيلا. فالعديد من التمويلات تمت بواسطة قروض داخلية؛ ولكن أغلبها كانت عبر قروض خارجية من المؤسسات المالية الدولية أو من دول في الإطار الثنائي. وهذا ما يفسر ارتفاع مديونية البلاد التي تكاد أن تصل إلى الخطوط الحمراء (أزيد من 93 مليار دولار) حوالي 48.8% للمؤسسات المالية الدولية، 28.4% في إطار العلاقات الثنائية، وفقط 22.8% من السوق المحلية.

إن ضخامة المديونية الخارجية 77.2% من إجمالي الدين العام تتطلب إدماج السياسة الخارجية للبلاد في أي مفهوم تنموي قادم، فهذه السياسة لا ينبغي أن تظل أسيرة قضية الوحدة الترابية للمملكة، وتتحرك على هدي تطوراتها، وإنما عليها أن تقارب وبقوة قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية بحثا عن جذب الكثير من الاستثمارات الخارجية، وفتح المزيد من الأسواق الجديدة للمنتجات الوطنية، وسعيا إلى تخفيض قيمة المديونية عبر العمل على إلغاء بعضها وتحويل البعض منها إلى استثمارات داخلية.

إنه تحدي صعب، ولكنه غير مستحيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى