ثقافة وفنونحواراتدابا tvميديا و أونلاين

حوار مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي: المغرب..فلسطين..البربرية…القصيدة،.المخزن..التعليم وأشياء أخرى (فيديو)

ترجمه للعربية: الباحث والمترجم سعيد بوخليط

استلهام بعض مضامين نصوصكم يجعل مسألة محاورتكم أمرا ليس بالهين !فقد كشفتم بين طيات إحدى صفحات عملكم،المعنون ب :  الكتاب الطارئ. عن مشاعر اليأس والانزعاج التي تشعرون بها أمام جماعة الصحافيين الذين يجترون نفس الأسئلة،لأنهم غير مطلعين على متنكم،أو اكتفوا فقط بالرجوع إلى محتويات الأنترنيت.لكننا سنحاول في هذا المقام على أية حال!.

س- تتكلمون عن البلدان المغاربية ك”طوباوية جميلة لن تتوقف أبدا عن إضاءة سبيلكم كإنسان”.فماذا يعني تحديدا،حلم من هذا القبيل؟

ج-هو حلم واقعي صاحب كثيرا من المغاربيين المنتمين إلى أفراد جيلي غداة الاستقلالات.لقد آمنا بذلك على نحو صلب مثل الحديد.كان اعتقادنا ذاك بعيدا عن اتصافه باللاعقلانية.لأنه أخذ بعين الاعتبار،التاريخ المشترك(بما في ذلك الحقبة الاستعمارية)،التكامل الجغرافي،التحدث بلغات مشتركة(العربية،الأمازيغية، الفرنسية)،وكذا نفس التطلع نحو بناء مشروع سياسي يمكنه ضمان سيادة حقيقية،واستتباب الديمقراطية والعدالة المجتمعية.بحيث تبلورت فكرة المغرب الكبير تقريبا خلال الحقبة ذاتها لإرهاصات الحديث عن أوروبا الموحدة.إذن كان بوسع التصور المغاربي أن يتطور بدوره ويتحقق حسب مراحل تنتهي عند صيغة وحدة ملائمة.لكن شراسة التاريخ،وكذا اليد المسلحة لقوى رجعية وأنانية متحالفة،ستقرر مسلكا آخر.النتيجة،هانحن نؤدي اليوم ثمنا باهضا جدا نتيجة مفعول تلك الشراسة.رغم ذلك،فالقوة الجاذبة صوب طوباوية كتلك تظل قائمة.أختبرها شخصيا خلال كل مناسبة ألتقي إبانها مثقفين ومبدعين مغاربيين في منطقة ما من هذا العالم.مواعيد تسودها بالضرورة مشاعر التقاسم والأخوة.لذلك تبدو لنا الأسوار المرتفعة ومختلف الستائر الحديدية التي فصلت بين بلداننا،من طرف الأنظمة السياسية القائمة،مثيرة جدا للسخرية !

س-أصدرتم سنة 2013 ،كتاب :مغرب آخر.أكدتم عبر صفحاته رفضكم ل”عدالته المتخلفة” بحيث تأسفتم حيال الإقصاء الذي تعيشه بعض الأقليات(شيعة، مسيحيون، ملحدون، مثليون).بهذا الخصوص كتبتم أثناء فترة حكم الحسن الثاني،عن سحق”جسد وروح الرافضين”. فماذا عن تلك الأرواح والأجساد في ظل حكم ابنه؟

ج-مع الحكم الجديد، صار السحق أقل شراسة ومنهجية.التنكر لهذه الحقيقة،سيكون رعونة.لكنه يرتئي حاضرا أشكالا أخرى لا تقل تعقيما، تنصب على الحقل السياسي.فهذا الأخير يشتغل على غرار مسرح العرائس بحيث تحرك خيوطه ما ينعت تلميحا ب”السلطة العميقة”،المفهوم الذي أخذ يحل شيئا فشيئا حسب المعجم السياسي المغربي الجديد،محل مفهوم المخزن المتداول سابقا،والذي يشير إلى مختلف أجهزة المؤسسة الملكية.هكذا،باستثناء أقلية تعارض أسلوب الخداع لمنظومة تعمل بهذه الكيفية،فالجزء الكبير من الطبقة السياسية،ضمنهم الحركة الإسلامية الموجودة اليوم في الحكم، متصالحة مع الوضع دون شعور بالذنب.الأكثر تضليلا  وفق مسار كهذا،يكمن في عدم الحاجة قط إلى تزوير الانتخابات.بل بوسعنا القول أن الأخيرة،مقارنة مع استحقاقات سابقة،جرت نسبيا في ظروف حرة وشفافة.هكذا يعمل الوهم الديمقراطي كما ينبغي،بحيث لازلنا نراوح دائما نفس المكان بخصوص ترسيخ دولة القانون،وفصل حقيقي للسلط وكذا ممارسة دون تقييد للحريات.بالتالي،الموصوفين حسب كلامكم بتسمية الثائرين،مجبرين كي يصرخوا على امتداد صحراء.

س-خلال نفس السنة،أجرت قناة مغربية حوارا مع طارق رمضان –المغرب بلده”الذي تربى فيه” كما قال – بحيث أوضح أنه ”لامشكلة لديه” مع وضعية “أمير المؤمنين” للملك إذا تجلى انسجام أكثر بين المبادئ وتطبيقها الفعلي،أي :“مزيدا من الديمقراطية،والشفافية،وكذا الحرية”.فماهو تصوركم الشخصي حول الملكية كأسلوب للحكم؟. 

ج-لامشكلة لدي مع الملكية كنظام للحكم.نعلم بأن الملكيات الأوروبية أبانت عن رؤية مثالية بخصوص احترام القواعد الديمقراطية.إحداها على سبيل التمثيل،كالملكية الاسبانية،الوريثة المعينة لديكتاتورية فرانكو،لعبت دورا مفصليا بخصوص التحول الديمقراطي،إبان اللحظة المناسبة.أما عن المغرب،ومع بداية عهد الحكم الحالي،فقد تريثت الملكية خلال فترة،بل قدمت إشارات قوية عن رغبتها في التغيير،قبل عودتها السريعة إلى سالف عهدها وتستمر وفق نمط عدد معين من تقاليدها القديمة.هنا أيضا،أعتقد أننا أخلفنا موعدا مع التاريخ.مع ذلك،لا يمكن فقط في هذا الإطار الحديث عن المؤسسة الملكية وحدها،بل تتحمل بهذا الخصوص مكونات سياسية أخرى نصيبا وافرا.أفكر خاصة في عبد الرحمن اليوسفي الوزير الاشتراكي أواخر سنوات التسعينات،الذي كان في وسعه،لو امتلك مقومات رجل دولة مثلما كان الحال مع أدولفو سواريز في إسبانيا،التفاوض بخصوص انتقال ضمن مسار إعادة تحديد امتيازات الملكية،ثم تحقيق التوازن بين السلط،مما سيؤدي إلى تثبيت شروط الإقلاع الديمقراطي.

س-في عملكم : الكتاب الطارئ.لم تتحلوا بالليونة نحو المتدينين :“إنهم شياطين بشرية، ملتحين غاية الخصيتين، وفتيات شابات في سن الزهور ذابلات جدا وهن مكتسيات حجاب القسوة”. لقد أوضحتم نقديا دور الحسن الثاني في صعود تيار”الأصولية”.فلماذا مشروعكم الداعي إلى التحرر الاجتماعي والثوري،لم يتمكن قط أو تقريبا من العثور على منفذ داخل العالم العربي؟نتذكر ما أدلى به يقينا جورج حبش قبل موته،بأنه عاين والإحباط يسيطر عليه تقريبا،تحول بعض مناضلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،إلى الإسلام السياسي.

ج-أعتقد بأني قدمت في الكتاب الذي أشرتم إليه، على الأقل بداية جواب عن سؤالكم.مشروع التحرير الذي شكل لنا أفقا سنوات الستينات، وبداية السبعينات، تعرض لحرب ضروس، داخليا وكذلك خارجيا.فيما يتعلق بالبعد الأخير، يكفي التذكير بحرب يونيو 1967 ،أو على مستوى ثان قضية اختطاف المهدي بن بركة بمدينة باريس ثم قتله.كان العالم العربي خلال تلك الحقبة إحدى الميادين الأكثر سخونة للحرب الباردة، وهدفا مغريا للإمبريالية الأمريكية وكذا شركائها. أما على المستوى الداخلي، فمن بين “الأسلحة”التي وظفت قصد القضاء على حركة المعارضة،تمثلت بالنسبة للمغرب مثلا،في الدس بذئب التطرف إلى ساحة التعليم العمومي.خمسون سنة بعد ذلك،تجلى الثقل الفظيع لمفعول هذا النهج السياسي على مجريات ماسمي ب”الربيع العربي”.خلال كل العقود السابقة، سُحقت الحركة الثورية،لذلك فجموع الشباب وكذا الفتيان الذين خرجوا إلى الشوارع تنديدا بالأنظمة الديكتاتورية،والمطالبة بالكرامة والحرية،عجزوا عن ترتيب أمورهم كي يصبحوا قادرين على تهيئ أرضية قابلة لاستمالة انخراط الشعب.في المقابل،كان الإسلاميون بمختلف مكونات نوعهم القوة الوحيدة المهيكلة (ومنذ عقود)،مما يسر لهم الإمساك بالسلطة في حالة إجراء انتخابات نزيهة. رغم ذلك،غير مجدٍ في أي شيء النحيب،أمام هذه الحقيقة.لاينبغي لهذا المعطى الجديد إجبارنا على وضع السلاح قبل خوض المعركة.إنها معركة الأفكار ماثلة أمامنا ثانية.أيضا،هل يجدر خوضها بعد إعادة النظر بكيفية نقدية في تلك الأفكار التي ارتقت بنا وجهة النافذة قبل خمسين سنة !

س-تحظى لديكم،فلسطين تحديدا بموقع مركزي.هكذا،أكدتم في مقدمتكم لأنطولوجيا القصيدة الفلسطينية المعاصرة،بأن مهمة الشعراء :“متشعبة،وغير مسبوقة تقريبا”.فما هي إذن ميزة الشاعر الفلسطيني؟

ج-هل تصدقونني،إن قلتم لكم بأنهم شعراء وكتَّاب مثل محمود درويش،سميح القاسم، غسان كنفاني،إميل حبيبي،توفيق زياد، فدوى طوقان،إلخ.من خلقوا الشعب الفلسطيني؟ولا أشعر بأني أبالغ إذا أقررت بهذه الحقيقة.فالشعب،إلى جانب كونه،أرضا، لغة، هوية، يظل ذاكرة.أليس صحيحا أن هؤلاء الكتَّاب من أرسوا دعائم جل ذلك؟هذا ماينبغي الاهتداء بنا نحو إعادة تبيُّنِ ممكنات الأدب ! .

س-كتب سميح القاسم في ديوانه الشعري : أحبك كما يشتهي الموت،الذي ترجمتموه : “لايوجد حلّ ضمن حلّ الحرب والسلم”.كيف تؤولون هذه العبارة؟

ج-يلزم طرح السؤال على سميح القاسم إبان حياته !لكن،بما أني أعرف الشاعر جيدا،ثم الشخص إلى حد ما،فيظهر لي أن ما قيل هنا يعيدنا إلى أطروحة اليسار الماركسي الفلسطيني  وبعض المثقفين الإسرائليين منذ وقت مبكر جدا،المتعلقة بفكرة الدولة الديمقراطية العلمانية التي تحتضن الشعبين معا.أدلي بهذا التفسير،وقد لايكون بالضرورة صحيحا.

س-لقد افتتحتم كتابكم :مفرط الحساسية.بالجملة التالية :“ألا يقترف شاعر عندما يتكلم خارج مضمار قصيدته أكثر خياناته جسامة؟”.هل شرح، وكذا التعليق،وعرض مرتكزات فنِّكم وكذا مساركم،مثلما نحاول هنا،نسبيا،وكما تفعلون دائما في مواقع أخرى،يمثل رافدا لنتاجكم،وطريقة أخرى من أجل توضيحه،تشكيله،توجيهه،أو فعلا مجرد خيانة؟

ج-خيانة؟ بالتأكيد،لا.بل حتما،واجب المشاطرة.أحيانا مضطرا،أعترف بذلك عن طيب خاطر،لأني أحب كثيرا الرهان على مجهود المخاطب،أود قول القارئ.أحب جدا أن أكون مفهوما،دون اضطراري إلى لفت انتباهه،كوني منتميا إلى زمرة الكتَّاب الذين لا يتكتمون سوى على قليل من الأسرار نحو هذا القارئ.عمليا، ومع كل كِتَاب، أستضيفه كي يزور المطبخ أو المحترف،حيث يتم إعداد كتابتي.مرات عديدة، لاأخبره أن الكتابة بالنسبة إلي تعتبر مغامرة بلا معنى إذا لم يتبنى في اللحظة المطلوبة دور التناوب مع  الكاتب.من أجل كل هذه الأسباب ينتابني الشعور بالسخط حينما يلزمني أن أفسر و أوضح،ما ينبغي إدراكه وتناوله،مثل هبة مع حمولتها الغامضة.تتأتى لدي القصيدة،تنشأ أو تحدث مشحونة بفكرها الذاتي(أو إن أردتم،فلسفتها).هذا الأخير جوهري بالنسبة إليها،بل عضوي تقريبا.أيضا الخطاب الخارجي عن القصيدة مغامر غالبا.يمكنه بسهولة أن يصب في المديح أو ببساطة مزيد من الذكاء.هكذا يجازف بعقلنة مالاينهض على العقلاني ثم يمر بجانب ما يؤسس حقا عمل الكتابة :الحدس، الرؤية، النَّفَس، المجازفة، المجابهة المباشرة مع اللغة،أفخاخ هذه الأخيرة،ثم أثقالها .

س- جاء ضمن فقرات الكتاب الذي خصصه لكم جاك أليساندرا ،بأن نصوصكم :“تندرج ضمن نسق الدفاع عن القيم الإنسانية”.لكنكم بالأحرى بدل توظيف مفهوم مستهلك كثيرا،أي”الالتزام”،ستطرحون إلى الواجهة مفهوم”إيتيقا” الكتابة. إدغار موران في بحثه المعنون ب”النهج”،حدد الإتيقا ك :“وجهة نظر من أعلى أو ميتا-فردية”،بينما يتموضع الأخلاقي عند مستوى أفعال وقرارات فردية. فماهو المعنى الذي تمنحونه إلى الإتيقا؟.

ج-لأني لست فيلسوفا،أتجنب المغامرة داخل أرض المفاهيم.بهذا الصدد أيضا،أعتقد بتداخل الإتيقا مع الكتابة،مثل الفكر كذلك.وإذا أمكنني الانطلاق من تجربتي الشخصية،أؤكد بكل صدق أن القصيدة جعلتني أكتشف القيم التي سترشد ممارساتي فيما بعد على مختلف الأصعدة.الجميع يعرف أن الكتابة سبقت عندي انخراطي في العمل السياسي.بالتالي لدينا هنا مقاربة خاصة جدا لمفهوم الالتزام،أليس كذلك؟أتصور الأخير،وقد تتحقق بالنسبة إلي عند مستوى ملموس، من خلال الأكثر حميمة لدى الكائن.إنه أولا نداء داخلي سيتجلى بعد ذلك خارجيا ويترجم إلى حالات وقناعات وأفعال. يظل ذلك لغزا.فلماذا ينساق هذا الشخص وليس آخر،ويختار طريق العطاء بسخاء من تلقاء نفسه،يتحمل تضحيات ثم يذهب حدَّ الخضوع لحكم التعذيب؟لماذا يصاب البعض بالإحباط سريعا،بينما يصمد آخرون حتى مع الحالات الأكثر يأسا؟صدقوني،لقد تأملت مختلف ذلك طويلا،لاسيما سنوات الاعتقال،دون العثور على جواب.معجزة إنسانية؟لما لا؟التفسير الوحيد الذي بوسعي الانتهاء إليه،لأني لاحظت ذلك بأم عيني.

س– بين صفحات مجموعتكم الشعرية : منطقة اضطرابات(الصادر سنة 2012).عنفتم  مفترسي حقبتنا، واعتبرتموهم أكثر”وقاحة” من السابقين،ورسمتم لائحة ترصد جل من أضاع نكهته الخاصة،وذوقه و جوهره.في المقابل،لم يتغير”العالم الصغير”،مثلما وصفتموه،عالم المسيطَرِعليهم،أشخاص بلا شك لاسلطة لهم.من جهة،يظهر بأنكم تتموقعون ضد فكرة معينة آلية عن التطور(مادام يمكن للأشياء أن تصير أكثر سوءا مقارنة مع الماضي).ثم من جهة أخرى،تتأملون وضعا راهنا للقمع :وهذا مايلزم قراءته،والإصغاء إليه ثم استيعابه؟

ج-نعم،هو الأمر كذلك.جانب الظلمات : مظاهر البربرية راهنا ربما مختلفة عن التي سادت الماضي.لكن البربرية، في ماهيتها، لم تتغير.فالشعوب التي تمكنت من إسقاط  ديكتاتور،يمكنها ابتداء من اليوم التالي التهليل لديكتاتور جديد.أما عن الجانب المضيء :إن شعبا يبدو اليوم منبطحا أمام مختلف الإهانات،بوسعه التمرد غدا والمطالبة بتحقيق حريات استمرت مرفوضة سابقا.بوسع الأنانية، اللامبالاة، انغلاق الذهن،التشظي في حالات معينة كي تترك مكانها إلى الإيثار،الاهتمام بالآخر،ثم الترحيب المحتفل بالاختلاف.تقوم الثنائية فينا، داخل كل واحد منا.الأساسي هو التيقظ، وعمل الفكر الدائم، ثم إعادة بناء الفكر المستمرة والتي بوسعها أن تجابه بفعالية تخدر الضمائر وكذا تدفق النزعات التجهيلية.

س- لنعد إلى الوراء،إذا أردتم طبعا،ومع مجموعة شعرية أخرى:قصائد تحت الكمامة،إنها كتاباتكم في السجن خلال سنوات (19721980) ،بحيث قلتم:“لدي شغف مدهش بالمستقبل”.ثم بعد انقضاء سنوات طويلة،وتحديدا سنة 2011 ،كتبتم غير السابق، بالضبط مايلي :“الغد/ليس من شأني”.طبعا مضى وقت بين المقطعين الشعريين.لكن بأي كيفية؟كيف غيرت تحديدا هذه المدة المنقضية علاقتكم بالزمان؟

ج-على أية حال يفصل بين القولتين نصف قرن كمسافة زمانية!توضح كل واحدة منها حقا ماهية العلاقة بالزمان وما ينبغي أن تصيره تبعا لاختلاف فصول الحياة.ولأني أخاطب،مثلما أتمنى على الأقل أجيالا مختلفة،فكل جيل سيبحث بين طيات كتاباتي عن مايخاطبه أو يتصل بهواجسه الخاصة.لست أنا من سيمحو تناقضات ماكتبته.سيعمل بعضها بالأحرى على تسليتي أواخر حياتي.إنها بمثابة برهان على أن مادتي البشرية ليست منحوتة وفق لوح رخامي ثم بقيت حيا بالمعنى القوي للكلمة،على امتداد صفحة عمري !

س- قلتم في السجن :“أنا متعصب لنوعنا”.ثم أكدتم، ضمن مضامين عمل صدر حديثا،عن”إيمانكم بالحياة”،وكذا”إيمانكم بهذه الإنسانية”.من أين تستمدون هذه الحماسة،أو هذا التفاؤل إن لم يكن التوصيف الأخير سمجا للغاية؟

ج-نعم، نحن فعلا ضمن نطاق الإيمان.لكن بالنسبة لتجربتي الشخصية،لا يمكنني التوجه بصلواتي سوى للسماء التي أسميها :”السماء الإنسانية”.من أين بوسعي انتظار الرحمة، الغوث، ثم السلوى، إن لم يكن منها؟هي سماء ذات وجهين :همجي و إنساني.وبما أني لست محيطا بها كفاية،فلا يمكنني البقاء عند حدود اليأس الدائم.أما بخصوص السماء الأخرى،التي كنت أتطلع إليها صحبة والديَّ فترة طفولتي،فإنها تبدو لي في كل الأحوال فارغة وذات تجريد مطلق.بالتالي،من العبث أن أترقب منها عروضا!ألتمس منكم،بهذا الصدد،إعادة صياغة حرفية للنص المستخلص منه استشهادكم.لأن ذلك يبدو لي الكيفية الأكثر تدقيقا التي ستشكل جوابا عن سؤالكم.هكذا أقول ثانية :”الإيمان بهذه الإنسانية/ليست كليا بربرية/ولا تماما إنسانية/ تضمحل/تهتدي إلى طريقها/تتعثر/تنهض/تسير على حبلها الوعر/لكنها تمشي/تدرك حدودها/ تزيلها/تستسلم لمكائد التاريخ/تبطلها/تنساها/إنها مغرمة بالذاكرة/هذه الإنسانية-هنا/ شعبي الوحيد”.

س- كتبتم في قصائد :“أزهرت شجرة الحديد” :“نعم،القصيدة تبعث الإنسان”.قبل أشهر قليلة،أصدر جان بيير سيميون دراسة بعنوان : “القصيدة تنقذ العالم”،معتقدا أن القصيدة بوسعها الارتقاء بنا،مادامت”مرتابة” و”متشككة”،فإنها لا تجزئ ولا تقيّد،وترفض استبدادية المفهوم لصالح غريزة تحررية.هل تتقاسمون نظرة كهاته إلى الأشياء،أنتم من طرحتم،بحسِّ لا تغيب عنه روح الدعابة،جانبكم”الهمجي،قبل المعقلن” ؟

ج-تعتبر القارة الإنسانية منطقة استكشاف دائم للقصيدة، والأخيرة”سفر غاية مركز الإنسان”،كما كتبت في مكان ما.إذن، نسافر وشعراء آخرين،نحو الأكثر صميمية لهذا”المخلوق الغريب”الذي تحدث عنه أخي الأكبر التركي ناظم حكمت. إننا مدركون، للمخاطر التي تحيط بسفرنا هذا.لذلك تخلى بعضنا عن منطقه بل وجلده.يرتكز عملنا على سهر دائم، وتعبئة مستمرة لما يمتلكه الإنسان قياسا إلى الكائنات والأشياء التي يتقاسم معها هذا العالم :الوعي،ومن ثمة، الذهول، الاستفهام، الإحساس الجمالي،الرغبة، الحب،شيطان المعرفة،الشعور بالتناهي،وأحيانا السخط،والشفقة،باختصار،كل هذه المقومات التي ينبغي التذكير بأنها تقريبا محرك الحياة الصحيحة.إذا اقتضى الأمر صيغة أخرى من أجل اختزال ما تمثله القصيدة بالنسبة إلي،فأقول بأنها تحريض على الحياة ! .

س- بنيامين فوندان،الذي اختبر مثلكم تجربة المنفى،أكد مايلي :“لم أكن إنسانا شبيها بكم /لم تولدوا على الطرقات :لم يلقِ أي شخص بأطفالكم في بالوعة/ لم تشردوا من حاضرة إلى أخرى/ مطاردين من طرف رجال الشرطة/لم تعيشوا النكبات غاية الصبح”.فهل تقوم أخوة،وهل ملزمة،بين الشعراء وصباحاتهم المفجعة،رابطة أخوية بين الذين لاحقهم رجال الشرطة،خلال يوم ما؟

ج-نعم، عرفتها فعلا هذه الكوكبة الأخوية، وأعتز بها .لكن واحسرتاه، يظهر لي بأنها كانت أكثر تناسلا في الماضي،بحيث ارتضى الشعراء لأنفسهم بامتياز مخاطر المهنة،لأنه وجدت حقا مجازفات.النرجسية الملازمة للطبيعة البشرية لم تقف حائلا أمامهم كي يتخلصوا من أنانياتهم ثم يركزوا اهتمامهم على الوضع البشري وجحيم العالم.لذلك كانت أصواتهم مؤثرة،بحيث تمحوروا حولها كما يقال،والقوى المضادة للحريات تخشاهم.لكن حاضرا،تجد القصيدة نفسها منزوية في الهامش،أكثر بالنسبة للعالم الغربي مقارنة مع العالم العربي أو أمريكا اللاتينية مثلا.ومسؤولية ذلك،لا تنسب فقط إلى نظام تسويق الشيء الأدبي كما رُسخ منذ عقود.بل نجرؤ على القول،في نفس الوقت،أن بعض الممارسات الشعرية ساهمت في المآل لأنها أدارت ظهرها ضدا على الذي جعل من هذا الفن”سلاحا خارقا”،حسب تعبير إيمي سيزير،أو كما قلت في سياق إحدى تصوراتي،القصيدة :”كلام أعطي،من إنسان لإنسان”.القصيدة باعتبارها صوتا جسديا،تُبقي على دقات القلوب،وتشرِّع الأعين على القارة الباطنية،وتعكس صرخة الإنسان،وتحثُّ على يقظة الوعي،وتحتفل بالحياة رغم استياء تلك العشيرة اللعينة لتجار الإحباط.

*مصدر الحوار :

Abdellatif Laâbi :petites lumières ; écrit(1982-2016) ;éditions de la différence(2017).pp :392-404.                             

    مصدر المنشور فيه الحوار: أنتلجنسيا

http://saidboukhlet.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى