ما بعد الإسلام السياسي: هل انتهى الشكل التقليدي للحركات الإسلامية؟
تعود نشأة حركات الإسلام السياسي إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، في عشرينيات القرن الماضي، وقد جاءت في إطار الاستجابة وردة الفعل على انتهاء نظام “الخلافة” في الحكم، وتصاعد مظاهر العلمنة وفصل الدين عن السياسة والحياة العامة؛ حيث جعلت هذه الحركات من إعادة الخلافة، وبناء “الدولة الإسلامية”، وتحكيم الشريعة، شعاراتها الأساسية، ووعودها التي وعدت بها الشعوب، وآمن بها الأتباع والمناصرين.
التجربة واختبار الشعارات
مع مرور السنوات وتوالي التجارب، وتمكّن عدد من هذه الجماعات من الوصول إلى الحكم والمشاركة فيه، في عدد من الدول، بدأت مقولات وشعارات هذه الحركات تخضع للتجربة والاختبار؛ حيث وصل الإسلاميون إلى الحكم في السودان مع “انقلاب الإنقاذ” العام 1989، وفي اليمن عبر حزب “التجمع اليمني للإصلاح” العام 1990، ووصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الحكم في الجزائر العام 1991، كما حصل الإسلاميون في الأردن على أكثر من ربع مقاعد مجلس النواب في انتخابات العام 1989.
ومع هذه التجارب الجديدة، والانتقال من خانة المعارضة إلى الممارسة، بدأت تظهر محدودية المقولات الأيديولوجية للحركات الإسلامية ومدى بعدها عن الواقع، وهو ما بدا من خلال اضطرار هذه الحركات للعمل ضمن أفق الدولة الوطنية وتجاوز شعارات الأممية، كما ظهر الاتجاه نحو فصل الدعوة عن السياسة، وبوادر التحول نحو الأحزاب المحترفة، كما في تجربة الإسلاميين في الأردن وتأسيسهم حزب جبهة العمل الإسلامي.
فشل الإسلام السياسي
وكان أول من لاحظ هذه التحولات وهذا الفشل للمقولات الأيديولوجية التقليدية للإسلاميين، هو الباحث الفرنسي أوليفييه روا؛ حيث أصدر كتابه الشهير “فشل الإسلام السياسي” العام 1992، وتمحورت أطروحته في الكتاب حول القول بعجز الإسلاميين عن إنتاج نظام سياسي يقطع مع الأنظمة القائمة، بالشكل الذي كان يتم طرحه في خطابهم وأدبياتهم، طارحاً بذلك أول مرة فكرة ظهور أشكال وأطوار جديدة للحركات الإسلامية، وهو ما سيصطلح عليه لاحقاً بتسمية “ما بعد الإسلاموية” أو “ما بعد الإسلام السياسي”.
وبعد سنوات قليلة، في العام 1997، أصدر الباحث الفرنسي المتخصص في الجماعات الإسلامية، جيل كيبيل، كتابه “الجهاد: انتشار وانحسار الإسلاموية”، الذي أكد فيه على تبلور وتشكّل خطاب جديد للحركات الإسلامية، يتجه إلى التوفيق مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، معتبراً أنه “بدأ يتشكل من أندونيسيا إلى الجزائر”، كما قارن كيبيل بين تجربة الإسلاميين والتجربة الشيوعية عبر القرن العشرين، التي أظهرت أنّ الشيوعيين ليسوا كتلة واحدة؛ فمنهم من هو ثوري جذري لا يرضى بالأنظمة القائمة، ومنهم من هو إصلاحي، وهو ما رأى كيبيل أنه قابل للتكرار عند الإسلاميين، مؤيداً بذلك أطروحة مواطنه روا.
فرانسوا بورغا.. رأي مغاير
الباحث الفرنسي الآخر، فرانسوا بورغا، رفض أطروحتهما ومسمّى “ما بعد الإسلام السياسي”، وذلك في كتابيه “الإسلام السياسي صوت الجنوب” الصادر العام 1988، و”الإسلام السياسي في الواجهة” الصادر العام 1995؛ حيث اعتبر أنّ الإسلام السياسي هو حركة هوية وهو مرحلة جديدة في مواجهة الاستعمار، وأكّد على استمرارية الأسباب الاجتماعية التي أدّت لظهوره وصعوده.
رواج الفرضية
استمر الصعود الإسلاموي خلال التسعينيات ومع مطلع الألفية الجديدة، وجاء مترافقاً مع اتجاه متزايد نحو القبول بالعملية الديمقراطية والتعددية وتداول السلطة، وهو ما ظهر في تجربة خاتمي الإصلاحية خلال التسعينيات في إيران، وتجربة حزب الوسط الإسلامي في مصر، منذ ظهوره العام 1996 واتجاه مؤسسيه نحو القبول بالحريات والتعددية والديمقراطية، وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا بقيادة أردوغان، وما أظهره الحزب من تبني كامل للعلمانية والبراغماتية السياسية، كما تواصلت هذه الظاهرة مع تأسيس الحزب الإسلامي في العراق وانخراطه في العملية السياسية بعد 2003، وتمكن حزب “العدالة والرفاهية” الأندونيسي من حصد 47 مقعداً في الانتخابات التشريعية العام 2004.
أدّت هذه التطورات إلى تزايد ميل عدد من الباحثين نحو القول بتخلي تيار متنامٍ من الإسلاميين عن المخيال السياسي التقليدي الذي كان قائماً على شعارات إقامة دولة الشريعة، واستبداله بآخر جديد يقوم على القبول بالدولة الديمقراطية والمدنية، وتجاوز الأدبيات الإسلاموية الكلاسيكية، من كتب سيد قطب، والمودودي، والبنّا، التي كانت تنظّر للقطيعة التامّة مع الأنظمة السياسية الحاكمة وتصفها بالجاهلية والكفر.
عاد أوليفييه روا من جديد ليدعم فرضيته، وذلك في كتابه “عولمة الإسلام” الصادر العام 2003، حيث قام بالتطوير على أطروحته متحدثاً عن تحول حركات الإسلام السياسي من السياسة إلى المجال الاجتماعي، وهو ما طوّر عليه تلميذه السويسري باتريك هايني في كتاب “إسلام السوق” الصادر العام 2005.
وجاءت التبلور التام لفرضية “ما بعد الإسلام السياسي” في العام 2007، مع إصدار آصف بيّات، الباحث الأمريكي من أصل إيراني، كتابه “إنشاء الديمقراطية الإسلامية”، الذي أتبعه لاحقاً بكتابه الشهير “ما بعد الإسلاموية” العام 2013، حيث حاجج بيّات بأنّ “ما بعد الإسلاموية” هي حالة وليست مشروعاً ناجزاً، وأنّها تقوم على محاولة وضع تصوّر وإستراتيجية لتجاوز الإسلام السياسي في المجالات الاجتماعية والسياسية، من خلال محاول دمج التديّن والحقوق والقبول بالقيم الديمقراطية، وقد استلهم بيّات أطروحته، كما يتحدث في الكتاب، من تجربة الرئيس الإيراني محمد خاتمي الإصلاحية في التسعينيات، التي تبعت وفاة الأصولي المؤسس الخميني.
وفي العام 2009، أصدر الباحث الإيراني نادر هاشمي، كتابه “الإسلام؛ العلمانية والديمقراطية الليبرالية”، الذي دعا فيه إلى ضرورة إعطاء فرصة للإسلام السياسي، انطلاقاً من القول بإمكانية اتجاهه نحو الديمقراطية، مقارناً بذلك بتجربة الحركات الدينية الكاثوليكية والبروتستانتية في أوروبا، وتطوّرها واتجاهها نحو القبول بالعلمانية والديمقراطية، خلال القرون الثلاث الأخيرة.
“الربيع العربي”.. هل أكّد الفرضية؟
مع تصاعد الحركات الاحتجاجية العربية خلال العامين 2011 و2012، وما آلت إليه من إحداث تغييرات كبيرة في الأنظمة السياسية العربية، وفتح مجالات وأشكال جديدة للعمل والممارسة السياسية، استمر ظهور التحولات على مستوى الخطاب والممارسة عند حركات الإسلام السياسي؛ حيث ظهرت أحزاب جديدة أعلنت قبولها وتبنّيها التام للإطار الوطني والعملية الديمقراطية، كان أبرزها حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشي في تونس، الذي حقق انتصاراً في انتخابات العام 2011، قبل أن يتراجع في انتخابات العام 2014، وقد أعلن الغنوشي رسمياً في العام 2016 عن فصل الدعوة عن السياسة، وهي الخطوة التي أثارت جدلاً واسعاً في حينه؛ حيث تعتبر أساس التحول للعمل السياسي المحترف البعيد عن الطابع الديني التقليدي والمرتبط بالعمل الدعوي والخيري، كما جاءت في هذا الإطار تجربة حزب “العدالة والتنمية” في المغرب، والذي وصل إلى الحكم بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية العام 2011، ومن ثم في العام 2016، حيث أكد مراراً أمينه العام عبد الإله بنكيران على كون الحزب “سياسياً مدنياً”، وذلك منذ انفصاله عن حركة التوحيد والإصلاح ذات الطابع الدعوي.
كما جاءت في هذا الإطار تجربة عبد المنعم أبو الفتوح وحزب “مصر القوية” في مصر، وفي الأردن ظهرت بوادر تشقق وتصدع في جسم الحركة الإسلامية الأم، نتج عنها ولادة أحزاب جديدة كـ”المؤتمر الوطني” و”الشراكة والإنقاذ”، أعلنت تخليها عن الشعارات الإسلاموية التقليدية.
وقد رأى العديد من الباحثين في هذه التحولات تأييداً لأطروحة “ما بعد الإسلام السياسي”، وكان من أبرزهم: ناثان براون، عالم السياسية والباحث الأمريكي في مركز كارنيغي، الذي أكّد في كتابه “When victory is not an option” الصادر العام 2012، والذي تمت ترجمته إلى العربية بعنوان “المشاركة لا المغالبة”، على إمكانية تطوّر حركات الإسلام السياسي واقترابها من نموذج الأحزاب المسيحية الديمقراطية.
ولكن ومع استمرار التحولات والتمخّضات للعملية السياسية في المنطقة العربية، ماتزال هناك الكثير من التساؤلات حول حجم ومدى تأثير هذه التيارات الجديدة، وإلى أي مدى استطاعت تيارات الإسلام السياسي تجاوز أسئلة العلمانية والديمقراطية والقبول بالدولة الوطنية.