ذاكرةميديا و أونلاين

للذكرى: خوان كارلوس.. قصة ملك إسبانيا الذي انتزع الديموقراطية من بين أنياب العسكر

إسبانيا.. يوم 23 فبراير  1981  خوان كارلوس الأول ملك إسبانيا على شاشة التلفاز، يعتمل وجهه بمزيج من الثبات والحزم ومسحة من الحزن. انتظر الإسبان هذه الإطلالة، بل وانتظرها معهم الكثيرون حول العالم من المتابعين لتجربة هذا الملك الديموقراطي الفريدة، في انتزاع إسبانيا من قبضة ميراث الجنرال فرانكوالاستبدادي، بيدٍ ماهرة جنَّبتْها على مدار ست سنوات -أعقبت وفاة فرانكو أواخر عام 1975- الكثيرَ من الويلات التي دائمًا ما تصاحب نهايات دورة حياة النظم الاستبدادية.

في ذلك اليوم، بدا أن حظّ خوان كارلوس المبتسم له منذ سنوات، وكذلك حظ إسبانيا، قد تبخّر. لقد كان قاسيًا ومرعبًا للديموقراطية الإسبانية الوليدة مشهد 200 من الجنود يقتحمون مبنى البرلمان على الهواء مباشرة، بقيادة المقدم أنطونيو مولينا، ذي الميول اليمينية المتطرفة، والذي سبق وضعه عام  1979  قيد الإقامة الجبرية لمدة لمحاولته القيام بانقلاب يميني ضد الديموقراطية الوليدة، محتجزين أكثر من 350 من النواب المنتخبين، ومعلنين عن قيام انقلاب عسكري ضد النظام الديموقراطي الجديد، وأنهم بانتظار إعلان وزارة عسكرية تحل مع الحكم المدني الحالي.

زاد من تعقيد المشهد، ظهور تجمّعات مؤيدة للانقلاب من الناشطين اليمينيين حول مبنى البرلمان الذي احتله المتمرّدون، يردّدون أغانٍ يمينية من تراث الحرب الأهلية، ويهتفون بشعارات كتائب الفلانخي اليمينة  التي أنهت ديموقراطية ما بعد فرانكو دورَها السياسي، ويشيدون بالخطوة التي قام بها الجنود.

ومن مدينة فالنسيا الساحلية، وردت الأخبار بسيطرة الكولونيل ديل بوش عليها، وهو أيضًا من ذوي الميول اليمينية- بحجة وجود فراغ في السلطة في مدريد، وإن كان قد أعلن أنه بانتظار أية تعليمات من الملك خوان كارلوس بصفته قائده الأعلى. وهكذا بدا أن شبح الجنرال فرانكو قد خرج من قبره، أو كاد.

خرج خوان كارلوس بالبذلة العسكرية مخاطبًا شعبَهُ والعالم، ومعلنًا رفضه بصفته ملك إسبانيا لهذا الانقلاب ضد الدستور الذي أقره الشعب الإسباني، وأصدر بصفته القائد الأعلى لقواتها المسلحة أوامره للجيش باتخاذ كل ما يلزم   للقضاء على هذه المؤامرة، التي تحاول إرجاع عقارب الساعة إلى الخلف، وعكس مسار النهر الهادر منذ سنين.

خوان كارلوس.. من الميلاد بالمنفى إلى الكليات العسكرية بالوطن

في الخامس من يناير من عام 1938، كان ألفونسو الثالث عشر ملك إسبانيا الأخير -قبل قيام جمهورية 1931 التي عزلته- سليل أسرة البوريون الملكية التي هيمنت لستة قرون على أهم العروش الأوروبية، في منفاه في روما، يتلقى البشارة بميلاد حفيده خوان كارلوس، بينما في الوطن الأم تدور رحى الحرب الأهلية الإسبانية  الرهيبة، التي كانت أشبه بحرب عالمية مصغّرة اندلعت عام 1936، نتيجة انقلاب عسكري كبير ضد النظام الجمهوري، تزعّمه قائد قوات الاحتلال الإسباني في الريف المغربي الجنرال فرانشيسكو فرانكو.

في العام التالي لمولد خوان سينتصر فرانكو المدعوم من ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، والكنيسة الإسبانية، والأحزاب اليمينية المتطرفة على تحالف الجمهوريين والشيوعيين المدعومين من الاتحاد السوفييتي، والأقليات الراغبة في الفيدرالية مثل إقليم كاتالونيا والباسك. كانت حصيلة ثلاث سنوات من الحرب المريرة أكثر من 200 ألف قتيل، والكثير من المذابح، وتمزق كبير في النسيج الاجتماعي لإسبانيا ستستمر تداعياته لعقود، ومن أشهرها منظمة «إيتا» الانفصالية التي استمرّت لعشرات السنين في تمرد مفتوح ضد سلطة مدريد من أجل المطالبة باستقلال إقليم الباسك شمال إسبانيا.

قبض فرانكو على إسبانيا بيد حديدية لأكثر من 36 عامًا. فاكتظَّت سجونه بحوالي 30 ألفًا من المعتقَلين السياسيين، وأعدم العشرات في محاكماتٍ عسكرية صارمة. وحُظِرَت أية توجهات دينية لا ترضى عنها الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية، ومُنع استخدام اللغات الإقليمية كالباسكية والكاتالونية في المجال العام. أطلق فرانكو يد الأمن السياسي لقمع أية بادرة معارضة، وقام بحظر كافة أشكال الاتحادات العمالية التي كان يراها رمزًا للشيوعية التي كانت خصمه الأكبر.

توفي ألفونسو الثالث عشر في المنفى عام 1941، وأعلِن أن وراثة حقوقه الملكية لابنه الثالث دون خوان، والد خوان كارلوس، والذي ملأ الدنيا بمطالباته بحقوقه الملكية في إسبانيا، ووصلت مساعيه إلى أن طالب الحلفاء أكثر من مرة أثناء الحرب العالمية الثانية بإسقاط حكومة فرانكو، وإعادته ملكًا لإسبانيا، متحجِّجًا بدعم فرانكو للنازيين والفاشيين. لكن لم يتحمَّس الحلفاء لهذا، لعدم فتح جبهة جديدة دون داعٍ، خصوصًا وأن فرانكو أجاد إظهار نفسه على الحياد، رغم دعمه الخفي للمحور.

عام 1945، وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أصدر دون خوان بيانًا شهيرًا من سويسرا، هو إعلان لوزان  ، والذي هاجم فيه فرانكو، وطالب بعودة الديموقراطية إلى إسبانيا. لكن لم يلقَ الرجل آذانًا صاغية في الغرب، نظرًا لتعزّز مكانة فرانكو لديهم ما بعد الحرب باعتباره مناهضًا عتيدًا للشيوعية التي أصبحت بعد انهيار النازية، هي الخطر الأول على العالم الغربي.

عام 1947، يصدر في إسبانيا الخاضعة للهيمنة المطلقة للجنرال فرانكو، قانون يعلن إلغاء الجمهورية في إسبانيا، وإعادتها دولة ملكية. بالطبع كان هذا إجراءً صوريًّا، فمقاليد الأمور كلها في يد الجنرال فرانكو الذي لم يكن رئيسًا ولا ملِكًا. لكن في نفس هذا العام، ستطأ قدما خوان كارلوس أرض الوطن للمرة الأولى، برضا الجنرال، وذلك لكي يتلقّى تعليمه في بلده الأم، ويستوعب ثقافته الوطنية. وقد جاءت هذه الخطوة نتيجة لقاءٍ استثنائيٍّ في عرض البحر بين دون خوان، وخصمه فرانكو.

ويبدو أن فرانكو الذي أعلن لتوّه عودة الملكية في إسبانيا، قد أراد أن يصنع هذا الأمير على عينيه، وأن يتشرَّبَ بنموذجه في الفكر والحكم. سيجلبُ الأمير لتلقي العلوم العسكرية في الأكاديميات الإسبانية الخاضعة لهيمنة فرانكو الحديدية، وريثما يبلغ أشده، يكون قد تشكَّل على ما يحب ويرضى الجنرال، ويكون قد انتُزِعَ تمامًا من كنف أبيه. في حين ظنَّ الوالد دون خوان أن تثبيت أقدام ابنه الصغير في إسبانيا، هو فريضة الوقت لعبور الأسرة المالكة إلى عرش إسبانيا؛ أراد فرانكو كذلك أن يحظى بالمزيد من الشرعية لدى قطاعاتٍ كبيرة من الشعب الإسباني لا تزال تحترم العرش، وترى الملكية تراثًا ثقافيًا وسياسيًا هامًا لا بد من وجوده.

عام 1955، التحق خوان كارلوس بالأكاديمية العسكرية في سرقسطة (زاراجوزا) ، ثم التحق بعدها بالمدرسة البحرية العسكرية في بنتفيدرا، ثم الأكاديمية الجوية في مرسية، ثم أتم دراسة الحقوق في جامعة مدريد. وفي عام 1962، تزوَّج خوان كارلوس زواجًا ملكيًا تقليديًا، بالأميرة صوفي وريثة السلالة الملكية في اليونان، م يُبدِ خوان كارلوس أية معارضة لفرانكو، وسياساته، طوال فترة بقائه الطويلة في إسبانيا، كذلك لم تظهرْ على الأمير الشاب أية توجهات أيديولوجية أو سياسية معينة. كان خوان كارلوس يركز في جولاته الكثيرة للمزارع والمصانع ومحطات الإذاعة والتلفزيون في مختلف أرجاء إسبانيا على المعاني العامة من قبيل وحدة إسبانيا، والحفاظ على الوطن … إلخ.

حفل زفاف خوان كارلوس

 

بل أكثر من ذلك، قام خوان كارلوس بأداء قسم الولاء لحركة فرانكو الوطنية أمام برلمانه عام 1969 وقام كذلك بتعزيز علاقاته برموز نظام فرانكو، وزاد شعبيته في الأوساط اليمينية. وهكذا لم يكن غريبًا أن ينظر الكثيرون إلى خوان كارلوس على أنه مجرد دمية في يد فرانكو، يتلاعب بها لكسب المزيد من الشرعية في الشارع، دون أن يقدم الأخير أي شيءٍ في المقابل سوى وعود مؤجلَّة.

الملك «الديموقراطي» الذي اختاره الديكتاتور وليًا لعهده

إن العرش، باعتبارها رمزًا لديمومة ووحدة هذا الوطن، لا يمكن بأية حال أن يتهاون، مع محاولة بعض الأفراد اعتراض المسيرة الديموقراطية التي سطَّرها الدستور الذي وافق عليه الشعب الإسباني، في استفتاء حر نزيه.

*من الخطاب التلفزي الشهير  للملك خوان كارلوس عشية محاولة فبراير 1981 الانقلابية

مطلع عام 1969، يتراجع خوان كارلوس لأول مرة عن نهجه السابق، ويعلن استعداده أن يكون ملك إسبانيا إن عُرِضَ عليه هذا الأمر. وبالفعل في يوليوز من نفس هذا العام، سيصدر برلمان فرانكو قانونًا يجعل خوان كارلوس ملكًا لإسبانيا، وممسكًا بمقاليد الحكم بمجرد وفاة فرانكو. أحدَثَ هذا الأمر صدعًا كبيرًا بين خوان كارلوس وأبيه دون خوان، الذي اعتبر أن ابنه قد أهدر كل التقاليد الملكية عندما قبل بالتاج الذي كان من المفترض أن يكلل رأسَ أبيه من قبله.

استغلَّ خوان كارلوس وضعيَّتَهُ الرسمية الجديدة، وشيخوخة فرانكو، وتدهور صحته في الشهور التالية، لكي يعزز مركزه أكثر فأكثر في المشهد السياسي الإسباني، وبدأ يجري اتصالاتٍ سرية مع الكثير من الشخصيات السياسية المعارضة لفرانكو، وبدأ مستشاريه في التخطيط لكيفية إدارة مرحلة ما بعد فرانكو، والتي كان يراها الجميع وشيكة.

في 20 ديسمبر 1973، ستقدم   منظمة «إيتا» الباسكية الانفصالية خدمة عظيمة لخوان كارلوس لم تكن في الحسبان، ستساهم بها في تغيير تاريخ إسبانيا بشكل دراماتيكي. لقد طارت سيارة رئيس وزراء فرانكو، الأدميرال كاريرو بلانكو، 35 مترًا في هواء العاصمة مدريد؛ نتيجة انفجار هائل نفَّذته المنظمة. وهكذا فقد نظام فرانكو الرجل القوي الذي كان يُتوَقَّع له أن يكمل مسيرة الجنرال، وأن يحافظ على تقاليد نظامه الاستبدادي. بدأ الخصوم في عد الأنفاس على فرانكو المريض، انتظارًا لما ستسفر عنه حركة التاريخ في مرحلة ما بعد الجنرال.

من فرانكو إلى الدستور.. «انقلب السحر على الساحر»

فرانسيسكو فرانكو

في 20 نوفمبر من عام 1975، توفي فرانكو، ولم يتصورْ الكثيرون أن ميراثه السياسي على وشك أن يلحق به في الشهور والسنوات التالية، وأن الدور الأكبر في ذلك سيقوم به الملك الذي ظنوه لسنواتٍ طويلة دمية فرانكو. كان الزمن مواتيًا لخوان ليقوم بالتغيير المنشود، ففي أبريل (نيسان) 1974، أطاح « انقلاب القرنفل” المدعوم غربيًا وأمريكيًا الحكومة الاستبدادية في البرتغال، شقيقة إسبانيا في شبه جزيرة أيبيريا. وفي اليونان، سقط حكم أصهاره الملكي، لرغبة الشعب هناك في الحرية والديموقراطية. أصبحت الديكتاتورية الإسبانية بوصفها جزيرة منعزلة في محيط الديموقراطية الأوروبية.

بعد يومين من وفاة فرانكو، تم تنصيب خوان كارلوس الأول ملكًا لإسبانيا. باعتبارها بادرة غير مباشرة على نهجه المختلف، تهرَّب خوان كارلوس من مقابلة الجنرال بينوشيه الذي انقلب على الديموقراطية في تشيلي عام 1973، والذي بقي في إسبانيا لأيام ليشهد مراسم التتويج الملكي، بعد أن حضر جنازة فرانكو.

اختار خوان كارلوس لرئاسة البرلمان فرناندينو ميراندا، وهو من المقربين منه. ولتهدئة خواطر اليمينيين وأنصار فرانكو، أسند في الشهور الأولى رئاسةَ الوزراء إلى أرياس نافارو، الذي كان من المقربين للجنرال الراحل. لكن في منتصف عام 1976، طلب الملك من أرياس نافارو الاستقالة، وأسند رئاسة الوزراء إلى أدولفو سواريز ، والذي كان نائب رئيس الحركة الوطنية، أهم المنظمات السياسية التي أنشأها فرانكو، وتولى كذلك منصب مدير الإذاعة والتلفزيون.

سيتفاجأ الكثيرون في الشهور التالية، بأن رئيس الوزراء اليميني سواريز، سيكون هو الدعامة الرئيسية التي سيستند إليها خوان كارلوس في إدارة مسيرة التحول الديموقراطي الإسباني الشائكة. لقد كان سواريز وجهًا مقبولًا لدى الحرس القديم، وقيادات الجيش، والتي طمأنها سواريز بأن الانفتاح السياسي المرتقب في إسبانيا، ورفع الحظر على النشاط الحزبي لن يشمل الحزب الشيوعي، الخصم الأكبر لنظام فرانكو، وكذلك تعهَّد سواريز بأنه لن تحدث ملاحقات قضائية على خلفية أية أحداث في عصر فرانكو.

فتح خوان وسواريز الحياة السياسية على مصراعيْها، وتشكَّلت أحزابٌ من كافة الاتجاهات، وحتى الحزب الشيوعي سيجد خلال الشهور التالية مكانًا له رغم اعتراضات جمة من الوجوه القديمة المحسوبة على زمن فرانكو. أنشأ أدولفو سواريز حزب اتحاد يمين الوسط، وخاض به عام 1977 أول انتخابات عامة ديموقراطية في إسبانيا منذ أكثر من نصف قرن، وفاز بأغلبية أمَّنت له الاستمرار في منصب رئاسة الوزراء.

في عام 1978، ستحدث علامة فارقة في الحياة السياسية الإسبانية، إذ سيصوت الشعب الإسباني بنعم على الدستور الجديد المعبر عن عبور إسبانيا من عقود استبداد فرانكو، إلى الحياة الديموقراطية. ليصبح الدستور الجديد فاعلا ابتداءً من يوم 29 ديسمبر 1978.

لكن لم يكن المخاض الديمقراطي يسيرا كما يبدو، فقد دخلت إسبانيا في حالة من السيولة السياسية الشديدة بعد الانفتاح الكبير الذي هندسه خوان كارلوس وسواريز، وبدا المشهد قريبًا من الفوضى، مع تكرار التغييرات الحكومية، وبزوغ العديد من الحركات السياسية ذات الطابع الإقليمي الانفصالي، والتي أعطى ظهورها الفرصة لليمين الإسباني الموالي للعهد البائد للمزايدة على العهد الجديد، وعلى الديموقراطية، بوصمها أنها سُلّم للفوضى وتقسيم إسبانيا.

كذلك أسهم تكثيف منظمة «إيتا» الانفصالية المسلحة لنشاطاتها في تعزيز هذه الصورة، إذ لم يكد يمر أسبوع إلا وقام مسلحوها بعملية تفجيرية، أو باغتيال أحد السياسيين المناوئين لهم. رغم هذا، أصر خوان كارلوس على مواجهة التمرد المسلح بصرامة؛ لكن دون المساس من قريب أو بعيد بالديموقراطية الوليدة واستحقاقاتها.

أدار خوان كارلوس توازنًا صعبًا بين القوى السياسية العائدة للتو للساحة، وأغلبها من القوى اليسارية التي سُحقت في الحرب الأهلية قبل عقود، وبين القوى التقليدية كالجيش والكنيسة واليمين الإسباني الوطني ذي الميراث الفرانكوني. ووصلت محاولاته لرأب الصدع في إسبانيا إلى حد زيارة إقليم الباسك الخطير، معقل حركة «إيتا» الانفصالية المتمردة في 5 فبراير عام 1981، وذلك ليخاطب القاعدة الشعبية الباسكية مباشرة، ويؤكد على مكانتها داخل الحظيرة الإسبانية، وأنها مشمولة برعاية العرش الإسباني دون تمييز.

في انتخابات 1979، سيحقق حزب اتحاد يمين الوسط أغلبية صعبة، نتيجة منافسة شرسة من «الحزب الاشتراكي الإسباني»، والذي سيصل فيما بعد إلى السلطة عام 1982، في مفارقة خيالية يصل فيها اليسار الإسباني إلى الحكم بعد سبع سنواتٍ فقط من وفاة خصم اليسار الأكبر في إسبانيا: الجنرال فرانكو.

عام 1981، ستتفاقم الخلافات داخل حزب اتحاد يمين الوسط، مما سيضطر أدولفو سواريز للاستقالة من منصب رئاسة الوزراء، لينعقد البرلمان في جلسة هامة من أجل اختيار خليفة له. هذه الجلسة هي التي ستقطعها على الهواء مباشرة طلقات الجنود المتمردين عشية 23 من فبراير 1981.

خوان كارلوس يعود بقطار الديموقراطية الإسبانية إلى قضبانه

خوان كارلوس على التلفاز ليلة الانقلاب

 

حاول خوان كارلوس كثيرًا تجنّب لحظة الانقلاب العسكري قدر المستطاع. فكان يحرص على التواصل مع قيادات الجيش أولًا بأول، وإيصال رسائل الطمأنة المباشرة وغير المباشرة لهم، لضمان حيادهم أثناء فترة التحول الديموقراطي الصعبة. كانت آخر محاولاته الكبيرة، خطابه في قيادات الجيش في يناير 1981، والذي امتلأ بالكثير من المديح والتملق لهم على عدم عرقلتهم لسنواتٍ ست مسار الديموقراطية الوليدة. لكن لم تفلح هذه الجهود في منع ما حدث في الشهر التالي.

مساء يوم 23 فبراير 1981، كانت الحكومة والنواب جميعًا في قبضة المتمردين. لم يبق من سلطة الحكم خارج قاعة الاحتجاز في البرلمان سوى الملك خوان كارلوس، وكان الحسم، كل الحسم، بيديه.

لو أعلن خوان كارلوس تأييد الانقلاب، لانتهى الأمر، ولحافظ على سلطته بقوة السلاح، خصوصًا وقد أعلن المتمردون رغبتهم في تشكيل حكومة إنقاذ وطني عسكرية مطلقة الصلاحيات تحت إشراف الملك؛ لكن الملك الديموقراطي آثر أن يلوي عنق البندقية، وأن يحافظ على مكتسبات الزمن الجديد، وأن يجدّد شرعيته بالديمقراطية.

أصدر خوان كارلوس أوامره لكل المؤسسات المدنية، وكذلك لهيئة أركان الجيش، بالحفاظ على النظام الدستوري، وأعلن في خطابه بعد منتصف الليل، في الساعات الأولى من يوم 24 فبراير 1981 انحيازه التام ضد الانقلاب. ظهيرة اليوم نفسه، استسلم المتمردون، وانتهى الانقلاب. أمر خوان كارلوس بحسن معاملة المتمردين، ومحاكمته محاكمة عادلة، وذلك لمنع إثارة حفيظة قطاعات أخرى في الجيش الإسباني، وهذا نزع الملك فتيل أكبر كارثة كادت تعصف بعودة إسبانيا إلى النور.

المصدر: ساسة بوست

المقال: محمد صلاح هكذا يعرف نفسه…طبيب يحب الشعر والتاريخ .. ويكره العصور الوسطى

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى