محمد الحبيب طالب يكتب: الأفق المنظور بين العوامل الوطنية والدولية..(أزمة النيوليبيرالية وآفاقها )
بعد المقالتين السابقتين، ما زلنا نتجول في طبقات نفس الموضوع الأصلي (أزمة النيوليبيرالية وآفاقها ). وقد يلاحظ القارئ أني في جميع الحلقات، أُذكره دائما، كلما أتاح لي السياق ذلك، بفكرة أساسية من النظرية الاشتراكية. ولا أظن أن غايتي من هذه الطريقة المتعمدة، وسط التجاهل العام، ستكون خافية على من يقرا مراميها البعيدة.
وعلى نقس المنوال، ومن بين تلك الشهادات، أني قرأت ل “فريديريك انجلز” فيما مضى، وفي رسالة منه، ما معناه، أنه هو وماركس يتحملان المسؤولية في ما شاع عن اشتراكيتهما من اختزال وإفقار لمنهاجيتها الجدلية التاريخانية، وكأن هذه الأخيرة تفسر كل شيء بالعامل الاقتصادي لوحده. وأوضح ان الوقت لم يسعفهما لتبديد هدا التفسير الذائع والمغلوط. بينما ما قصداه، أن العامل الاقتصادي يضطلع، من بين العوامل الأخرى، بالدور الرئيس المقرر، إذا ما أُخد الموضوع في مدى زمني واسع وطويل. وهذا ما عرف في الأدبيات الاشتراكية، وإن لم يكن بنفس الألفاظ، فالدلالة تبقى هي نفسها، بأن الاقتصاد هو المقرر في ” نهاية المطاف “، أوبعبارة اخرى قريبة، وبفارق نسبي، أنه المقرر في ” نهاية التحليل”.
ليس المجال مناسبا للخوض في ما حمله هذا الطرح من تباينات واختلافات كبيرة، لم تنقطع، حتى داخل الاشتراكيين أنفسهم. ولا هو مناسب لتحليل المعنى الذي تتعامل به الاشتراكية مع مقولة الاقتصاد نفسه، أهو اقتصاد بحث، أم هو من المنظور الاشتراكي بنية من علاقات الانتاج وقوى انتاج محددة وفي طور تاريخي معين، ومن منظور نقدي يستهدف تحرير الانسان من تحكم الاقتصادي في مصائره. ولعل هذا المنظور النقدي، الإنساني والتاريخاني في أن واحد، هو ما يشكل جوهر الأيديولوجية الاشتراكية عما عداها من الأيديولوجيات الأخرى.
ما جعلني أبدأ بهذه الموضوعة الفاصلة في الفكر الاشتراكي، مسألتان راهنتان: أولها ، إذا كان العامل الاقتصادي هو المقرر في ” نهاية المطاف” ، فإن الإشكالية الحق إذن ، هي كيف نُحلل ” بدايات المطاف ” ، عندما تكون كافة العوامل تتفاعل فيما بينها، وهي متفاوتة في أزمنتها، وتتبادل أحيانا السيطرة، في طور معين وفي كلية بنيوية واحدة، ولو مع ادراكنا الواعي أن العامل الاقتصادي سيحكم نتائجها في المدى البعيد(؟)وثانيها، في الزمن الرأسمالي المعاصر ، أكان على المستوى الوطني أو العالمي، ما عاد الدور المقرر للعامل الاقتصادي البحث خفيا على أحد، كما كان في الانظمة التقليدية السابقة، فالجميع يتصرف على أساسه في واضحة النهار، والعملية الانتخابية في أي مكان تفيد ذلك، ثم أليس تعبير ” لا أصدقاء ولا أعداء دائمين ، وانما المصالح هي الدائمة” شعار العصر الراهن، العاري من أي مثالية أخلاقية وأيديولوجية خير شاهد على أن للاقتصاد مفهومه الرأسمالي- النيوليبرالي المبتذل؟ وبهذا المعنى، ليست الاشتراكية هي من يختزل التاريخ في عامل واحد(الاقتصاد)، بل الثقافة النيوبيرالية هي الاقتصادوية بعينها الأشد فقرا واختزالا.
(1)
التذكير بتلك الموضوعة الاشتراكية أعلاه، يأخذنا إلى بعض الاستخلاصات السريعة عن النيوليبرالية، ولماذا حققت فوزها الساحق (؟). وفي مطلعها، أننا أمام مشروع يمثل قمة الاستيلاب الاقتصادوي البحت. ولا أدل على ذلك، من توظيف منظريها لداروينية اجتماعية افتراسية، قانونها الرئيس، البقاء للأقوى. ولا حاجة لإضافات تحليلية أخرى للكشف عن عدميتها الإنسانية والأخلاقية والتاريخية في أن واحد، مادام مثالها المرجعي هو قانون الاصطفاء الطبيعي البيولوجي، والذي ترجمته الحية عندهم ” الاصطفاء الطبيعي المالي” وبالتالي، من يملك المال هو الأجدر بالعناية والبقاء، وغيره عليه انتظار النعم التي سيجود بها هذا الاصطفاء في الزمن الطويل، الذي لا أجل مسمى له، سوى أنه “نهاية المطاف”.
لنعد اذن إلى “بدايات المطاف “لا إلى نهايته، لكي نستبصر المسار الدرامي الذي نحن سائرون عليه. ودائما من الأفضل أن نترك حينها الكلام للمختصين في الاقتصاد والمتحررين من استيلاباته. وفي هذا الشأن، سأعود إلى دراسة قديمة للدكتور” محمد عبد الشفيع عيسى” في ” مدخل لنقد النظام الأمريكي- نحو تنظير للأزمة السياسية والاقتصادية والمجتمع”.؟ وأقتبس منها بالاختزال المفروض وبما يبقي على تسلسلها المنطقي والزمني:
• بفعل تناقص معدل الربح، وتزايد البطالة، وتشديد الاستغلال ، صاغ ماركس الافتراض بتفاقم الأزمة الاقتصادية إلى حد حدوث ( الأزمة العامة للرأسمالية) والتي تؤذن باضمحلالها كنظام اجتماعي”. ويتم ذلك من خلال النقص في تراكم رأسمال اللازم لتطوير القوى المنتجة، ونقص الطلب الفعلي اللازم أيضا للاضطراد هذا التطوير بالذات، وتفاقم الصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال بطليعتهم البروليتاريا. لكن هذا الافتراض الذي تمت البرهنة عليه نظريا في إطار سيادة الرأسمالية التنافسية، لم يتحقق في ميدان الواقع الاقتصادي والاجتماعي… فقد استخدمت الرأسمالية آليات معينة قلبت الاتجاه النظري المفترض لتناقص معدل الربح، وبحيث استمر مفعول تزايد الفائض الاقتصادي والربحية، وتم تلطيف الاستغلال والبطالة، بل وتلطيف الصراع الطبقي نفسه بدلا من اشتداد حدته.. وبالتالي، لم تظهر ممهدات الأزمة العامة للرأسمالية… والآليات المشار إليها هي الاستعمار والحرب والتقدم التكنولوجي. ولما وقعت الأزمة الكبرى للكساد العالمي الكبير(1929-1933) استحدثت آلية رابعة ذات فاعلية مؤثرة في حفظ النظام الرأسمالي الدولي. وهي آلية ” تدخل الدولة “: وذلك بإتباع سياسات الإنفاق المتعاظم على البرامج الاجتماعية ( والعسكرية) لضمان مستوى من ((الطلب الفعلي)) يحقق التوازن مع (( العرض)) من نقطة قريبة من ((التشغيل الكامل)). وكانت الولايات المتحدة هي أسبق الدول الرأسمالية إلى بلورة هذه السياسة الاقتصادية الجديدة في عهد(روزفلت).
• وقد ظلت الآليات الأربع (الاستعمار والحرب والتكنولوجيا وتدخل الدولة) تفعل فعلها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى أخر الستينات وأول السبعينات وحينذاك أخد يتضح ضعف قوة الدفع التكنولوجي والحكومي وخاصة في الولايات المتحدة من خلال العجز المتزايد في الميزان التجاري والموازنة العامة للدولة. وقد أصبح واضحا للعيان أن تدخل الدولة ، بالإنفاق الحكومي الموسع على البرامج الاجتماعية، يُحمّل الموازنة العامة تكلفة عالية لا يستطيع النظام الرأسمالي موازنتها برفع العبء الضريبي على قطاع الأعمال المنظم الكبير( الشركات عابرة الجنسيات) ولا بتقليص الإنفاق العسكري في عصر الحرب الباردة، فأضحى الخيار المتاح هو خفض الانفاق الاجتماعي، واستخدام آلية الحرب الباردة لإخفاء الفاعلية على تدخل الدولة- بالمزيد من الإنفاق العسكري، واستخدام آلية (( الاستعمار الجديد)) لضمان الحصول على إمدادات رخيصة من الطاقة والمواد الأولية…(أي امتصاص الفائض الاقتصادي منها). وعلى هذا الأساس جاءت الريغانية حاملة لهذا المشروع ذي التقاسيم النيوليبيرالية.
اكتفى بهذا القدر من الاقتباس، على طوله النسبي، والذي رسم لنا تمرحل النظام الرأسمالي والآليات التي استعملها للخروج المؤقت من أزماته المتكررة.
لكن مع الاستدراكات الإيضاحية التالية: إن مجيئ الريغانية كان بعد أن مهد لها و لسنوات تحشيد أيديولوجي دعاوي مكثف و استثنائي, لقي التحريك و كل الدعم من مؤسسات الرأسمالية، و شاركت فيه مؤسسات جامعية و مراكز أبحاث و دراسات متعددة و جهات إعلامية كبرى. وكما فصل ذلك (الوجيز في تاريخ النيوليبرالية): حتى منح جائزة نوبل لمنظري هذه المدرسة في الاقتصاد (هايك وفريدمان) كان تحت سيطرة ونفوذ شديدين من النخب المصرفية السويدية.
ثم أن ما قدمه الكاتب في الاقتباس السابق عن الولايات المتحدة ، بتفاصيل دقيقة وأوسع، هو في نفس الوقت المسار الذي سوف تتخذه البلدان الرأسمالية الغربية بوجه عام. فإشارته لأواخر الستينات وبدايات السبعينات تُحيل هنا الى ظاهرة التضخم المتصاعد الذي أصاب الاقتصاديات الرأسمالية، وكان جديدها، أن هذا التضخم تراكم مع ركود عام، ولهذا سميت الأزمة التي واجهت الحسابات الكينزية المتبعة وقتها، بالتضخم الركودي، كظاهرة لم تشهدها الرأسمالية من قبل ، وشكلت الذريعة النظرية لبروز النيوبيرالية. وهكذا، تكون إشارته “للروزفلتية” في أمريكا، هي لحظة تحول النظام الرأسمالي وقتها إلى الخيارات الكينزية، والإشارة إلى الريغاينة هي لحظة التحول المعاكس إلى النيوليبرالية. وفي الطليعة كانت التاتشيرية في بريطانيا المتزامنة معها.
ولكي تكتمل الصورة التقريبية أعلاه، أضيف العناصر التالية:
أولا:
اذا كان من المعالم الأولى للعصر الأمبريالي اندماج الرأسمال المالي بالصناعي، فالسمة الرئيسة اليوم، تضخم الرأسمال المالي، بشتى أنواع مضارباته، في استقلالية أوسع عن الاقتصاد المنتج. وكما يلخص ذلك الدكتور زياد حافظ “هنا تحول الاقتصاد الافتراضي الذي نشأ بسبب الثورة التكنولوجية والرقمية الى المصدر الرئيس لإنتاج الثروة بعيدا عن الإنتاج الحقيقي “.وقد ترافق ذلك أيضا مع التخلي التدريجي في البلدان الرأسمالية الأم، سعيا وراء أكبر الارباح وأقل تكلفة، عن العديد من الصناعات المتنوعة الى البلدان النامية التي توفر لها تلك الامتيازات.
ثانيا:
في الانتقال إلى النيوليبيرالية المعولمة لابد من حساب الدور الرئيس الذي اضطلع به صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية في فرض السياسات النقدية النيوليبيرالية على معظم بلدان العالم، مستغلة في ذلك على الخصوص حاجاتها الى الاستدانة الدائمة التي أوقعوها في شركها قبلا. ولا يستثني من تلك الأدوات السابقة العديد من المؤسسات الجهوية والدولية التي نشأت تحت نفس السقف النيوليبرالي، ومنها مجموعة الدول السبع ومجموعة العشرين الدولية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن العولمة النيوليبرالية تضعف سيادة الدولة، فان التناقضات بين المصالح الوطنية والقومية لا يمكنها أن تنتفي، لا أمام الاحتكارات العالمية المدولة، ولا أمام هيمنة الولايات المتحدة. ” إنها التناقضات التي تخلق العديد من المفاجآت والتوترات غير المحسوبة في النظام العالمي القائم.
ثالثا:
ويضاف إلى ذلك، الدور الذي أضحى الدولار يضطلع به كعملة رئيسة في المعاملات المالية الدولية، بعد نهاية نظام بريتون وودز. هذا الدور الذي منح الولايات المتحدة سلطة مالية وسياسية عالمية فائقة الحد. لكن لميزة التفوق هاته جانبها الضعيف أيضا كمصدر ممكن للتضخم غير المتحكم فيه بسبب المقادير الكبرى لما يجري تداوله من الدولار عالميا وخارج مصدره الأصلي، ولقدرة الشركات الكبرى المتعدية الجنسية على التلاعب بأسعارها لتسوية معدلات الربح بينها. وفي كل الأحوال، سوف تظل هيمنة الدولار أحد مجالات الصراعات الدولية التنافسية القادمة.
ما أردته من المقدمات السابقة، السؤال المركزي التالي: هل توفرت الشروط الذاتية لتجاوز الوضعية النيوليبرالية العالمية الحالية؟ وهل يمكن أن نتوقع عودة أخرى، أفضل، لما كان ينعث ب “دولة الرعاية “التي غطت المرحلة الكينزية؟
(2)
سأحاول أن أجيب على هذا السؤال المفصلي في الموضوعات التالية:
أولا:
والعالم ما انفك يترنح من تبعات أزمة 2008 ، ابتلي بجائحة كورونا، لتزج به تناسلاتها في دوامة مازالت مجهولة الأفاق. في هذه الفترة الموبوءة، كتب العديد من المفكرين والمثقفين، بحسب ميولاتهم الشخصية ، التفاؤلية أو التشاؤمية، أن ما قبل كورونا ليس كما بعدها.
وعلى الأغلب كانت استشرافاتهم تتطلع إلى مستقبل اقتصادي اجتماعي وعالمي مفتوح على الحاجيات الإنسانية أولا وأساسا، خاصة منها الحاجيات الغذائية والصحية وروافدها في الجوانب الاجتماعية الأخرى، وكذلك منها الحماية الضرورية و العاجلة للبيئة التي أمست مخاطرها تهدد الوجود الإنساني نفسه. وكلا الأمرين شكلا الثغرة الكبرى التي كشفت عنها السياسات النقدية النيوليبيرالية اللامبالية. ومن جانبي، أبديت في مقالة سابقة تحفظي من هذا التفاؤل ألاستشرافي مادامت الأفكار الفردية لم تتحول بعد إلى قوة مادية تلتحم فيها مع حركات اجتماعية قوية وفاعلة تتبناها، ومن جملتها أن تتحول وضعية المثقفين من حالات فردية مشتتة إلى وضعية عضوية كأنتلجنسيا (أي كفئة اجتماعية لا كأفراد) وازنة وفاعلة سياسيا كما كانت في الماضي.
وها هي الأحداث تبين ذلك. فإذا ما تأملنا السياسات العملية إلى اليوم. خاصة من قبل الدول الامبريالية الكبرى التي تهمنا هنا، فلاشيء يبرهن على أن إجراءاتها العملية للحد من المضاعفات الاقتصادية والاجتماعية للوباء داخل أوطانها ينم عن تحول نوعي في اختياراتها النيوليبيرالية على الرغم من تخصيصها لملايير الدولارات لتحريك عجلات الاقتصاد وتلطيف أضراره على بعض الفئات الاجتماعية،(خصصت الولايات المتحدة 01.75 تريليون دولار و الاتحاد الأوروبي مبلغا اجماليا زهاء 750 مليار أورو و منها 390 مليار في شكل إعانات). ثم ناهيك عن ذلك استمرار نفس السياسات الهيمنية على صعيد العلاقات الدولية التي ازدادت توترا وحدة, تشي بحرب مديدة جديدة, يصعب وصفها بالباردة كما كانت السابقة عنها.
ولما جاء المؤتمر الدولي الأخير للمناخ، والذي هللت له تلك الدول، وهي المسؤولة عن أكثر من سبعين في المئة من الأضرار التي لحقت بالبيئة و بالبشر خاصة لدى دول الجنوب ودون تعويض جدي يذكر،(جاء) هزيل النتائج بطيئ الخطوات نحو تخفيض النسبة العالية للاحتباس الحراري إلا في عقود قادمة و ربما وراءها أخرى. وهذا اذا ما كانت الإرادة السياسية مطابقة و حازمة في ما تعلنه من نوايا واعدة.
ثالثا:
أوضحت في الحلقة السابقة، أن هناك ظاهرة اجتماعية جديدة، تعبر عنها تلك الحشود التي تخرج في تظاهرات جماهيرية كبرى في العديد من أقطار العالم، وهي مغايرة للتظاهرات التقليدية المعتادة. وعلى الرغم من محدودية وتنوع مطالبها ودوافعها السياسية الآنية، فهي تنطوي على ميزتين أساسيتين وعلى غير ما كانت عليه التظاهرات التقليدية في الماضي، سواء لجهة أنها حمولة لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والتي منحت لهده الجماهير قدرة هائلة على التعبير الفردي المباشر عن مطامحها، خارج جميع الهياكل ” التقليدية ” الحزبية والنقابية والمنتخبة. وكما أوجزت سابقا في أنها تمثل ” فائضا انتخابيا اجتماعيا ” لم تعد المؤسسات التمثيلية القائمة، وما تعكسه من مضامين اجتماعية، قادرة على استيعابها أو احتوائها. وسواء لهجة، أنها تتضافر مع انخفاض منسوب الثقة في نجاعة الديمقراطية القائمة ومؤسساتها ونخبها، وتحمل هواجس دفينة قلقة وغامضة من تحكم واقصائية الثورة التكنولوجية المضطردة والمجهولة الأفاق.
ولكي لا يتهمنا البعض بالمغالاة، فقد أوضحت في الحلقة السابقة مواطن الضعف الكامنة في هده الظاهرة، وبما هي في جميع الأحوال لم ترق بعد إلى قوة اجتماعية بديلة للنظام الرأسمالي النيوليبيرالي القائم. لكنها تمثل اتجاها موضوعيا، لا مندوحة عنه، قابلا للنمو والاتساع والتجذر. أما إن دققنا النظر في الزمن المنظور، وعيوننا مركزة على هده الحركات في أوروبا والولايات المتحدة، فان اللافت على هدا المستوى. أن تأثيراتها ستظل محدودة لزمن ما، ولعوائق عديدة، منها، أن الرأي العام الانتخابي الأوروبي مازال يتخبط في حالة اغتراب هي من صنع النظام النيوليبيرالي نفسه، والدي يضع الرأي العام الانتخابي تحديدا، في أكثر من بلد، أمام خيارين لا غير، إما الخيار القومي الشوفيني المعادي للهجرة ولمواطنيها في الداخل، وإما الخيار نفسه مع نعومة أكثر ليونة في الخطاب والإجراءات.
أما في الولايات المتحدة، وان كانت نفس حالة الاغتراب جارية حيال المواطنين الملونين بوجه عام، فان ميزان القوى الانتخابي كذلك، لا يترك أي هامش أخر سوى الاختيار بين الحزبين التقليديين، الديمقراطي والجمهوري، وكلاهما يتكاملان في نفس الاختيار النيوليبيرالي الامبريالي، وان كان الحزب الديمقراطي يشهد نموا نسبيا بطيئا للتيار الديمقراطي الاجتماعي فيه وبانحيازاته للقضايا الإنسانية العادلة عالميا. وهكذا، ففي الزمن المنظور على الأقل، وفي الحالتين الأوروبية والأمريكية، سوف تكون الحصيلة المنتظرة لمفاعيل الصراعات الدولية الخارجية على الصراعات الداخلية، أقوى شأنا، وأكثر رجحانا وتوقعا، من انتظار نتائج نوعية وايجابية من الصراعات الداخلية فيهما معا. وهدا ما سأبينه لاحقا.
ثالثا:
ومرة أخرى، ليست المعادلات الاقتصادية البحتة، هي التي تحدد مسارات التطور في أي مجتمع. والنظرية النقودية النيوليبيرالية، إن كانت اعتمدت على ظهور محدودية النظرية الكينزية فيما عرف ” بالدولة الراعية ” أمام أزمة جديدة لنفس النظام الرأسمالي، لم تتوقعها، جمعت ولأول مرة بين التضخم والركود الإقتصادي، فالفوز الساحق الذي حققته النيوليبيرالية، لا يعود لصوابها المطلق، بل يعود لتحولات اجتماعية وطنية وعالمية كبرى تهيأت لاستقبال هذا الفوز بلا مقاومات كبرى أيضا. وهنا ينبغي أن نتذكر دائما القولة المأثورة ل (كارل بولاني ) وقد أوردتها في الخلقة الأولى: ( في كل مرة بدت فيها الليبيرالية منتصرة كان ذلك، وللمفارقة، فبفضل تدخلات الدولة التي اقتضتها الأضرار التي لحقت بالنسيج الاجتماعي نتيجة منطق السوق. )
نعم، ما كان للنظام الرأسمالي أن يخرج سالما من أزمته بعد الحرب العالمية الثانية لولا تدخل الدولة، المستبعد دائما في المنظور الليبيرالي بجميع أصنافه. وما كان للنيوبرالية الأشد عداء، أن تفلت من مأزقها في أزمة 2008 التي تورطت فيها، وتحبل بها دائما على عكس منطوقها النظري، لولا تدخل الدولة لانقاد مؤسساتها الرأسمالية التي كانت على حافة الإفلاس. والمفارقة هنا، أن النيوليبيرالية الأشد عداء لتدخل الدولة تقبل به وتصفق له إذا ما كان الاتقاد وتمويل المؤسسات الرأسمالية الكبرى يصبان في جيوبها. وتصمت وتتغاضى عن دور الدولة الكبير والدائم في تمويل الميزانيات الضخمة للتسلح وتسويق صفقاته، وتدبير التنافس في صناعته، ما دام القطاع الحربي يشكل أحد أهم روافع الاقتصاد الرأسمالي وعنصره الضارب لفرض القوة والهيمنة.
وكما أشار”سنيدمان جونز “((يصعب التفكير في يوتوبيا حظيت بفرصة أن تتحقق بالكامل مثلما حظيت النيوليبيرالية)). والسؤال، ما هي هذه الفرصة النادرة إن جاز القول؟
(3)
والجواب، اذا ما عدنا بالذاكرة الى الوراء، يكمن في الفرق بين المرحلتين التاريخيتين، الكينزية والنيولبرالية، وأكثفهما في العنصرين التاليين:
• استمدت الكينزية بعد أزمة 1929 مقوماتها الاجتماعية والسياسية في التحقق والانجاز من الانهيار العام الذي أصاب المجتمعات الأوروبية خصوصا من جراء الحرب العالمية الثانية، والتي أنهكت قوة الرأسمال، لكنها قوت من نفوذ وشعبية الحركات الاشتراكية والشيوعية والاجتماعية عامة. كما قوت من ثورات حركات التحرر الوطني في التخلص من السيطرة الاستعمارية. وفي سياقها، كان الانتصار الكبير للثورة الصينية وجاء مؤتمر باندوغ كتعبير عن نهوض شعوب الجنوب ومطالبتها بنظام عالمي متكافئ بينها وبين الشمال الرأسمالي. وفي نفس الحقبة خرج الاتحاد السوفياتي من الحرب قوة عظمى وبمعسكر اشتراكي غير موازين القوى الدولية. والأهم في ذلك، أنه غدا، رغم كل العيوب، نموذجا للعدالة الاجتماعية والتنمية السريعة، ينافس النموذج الرأسمالي ويجذب شعوب العالم إلى الاقتداء بمثله الاجتماعية على الأقل.
• أما في السبعينات ولاسيما في الثمانينات وما بعدها، حيث تَمَركز النموذج النيوليبرالي وعمت سيادته العالم، فقد تم له هذا الفوز الساحق لتفاعل عوامل عدة كانت لصالحه خلال ما سمي بالحرب الباردة. وكان من بينها، أن الرأسمال المالي قد أضحى في أوطانه أكثر قوة واستقلالية لما وفرته له الثورة التكنولوجية والتشابكات الدولية عبر المؤسسات المتعددة الجنسيات وغيرها من المؤسسات الدولية الأخرى التي كانت تعمل لصالحه. وفي هذه الحقبة كان للولايات المتحدة، لأن الحرب لم تطلها على غرار الدول الرأسمالية الأوروبية، الدور الريادي في انقاد النظام الرأسمالي العالمي. وحتى بعد أن استعادت البلدان الغربية الأوربية عافيتها، وتشكلت السوق الأوربية، ثم الاتحاد الأوروبي مع امتداداته الأخيرة الى دول شرق أوروبا الاشتراكية سابقا، بقي الاتحاد الأوروبي على الرغم من مؤهلاته الاقتصادية قوة تابعة في المجمل لتشابكات رأسماليتة مع الرأسمالية الأمريكية، وهما معا أوطان غنية ومتقدمة، أهلها للتحكم في النصيب الأكبر من السوق العالمية وامتصاص الفائض الاقتصادي من دول الجنوب.
بينما دخل الاتحاد السوفياتي ومعسكره خلال ما سمي بالقيادة الجماعية ، بعد تنحية خروتشف وما عراه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي عن الحقبة الستالينية، (دخلا) في مرحلة جمود ومحافظة مديدة على كافة المستويات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية، زادت من مضاعفاتها الانشقاقات التي مرت بها الجبهة الشيوعية، بدءً من خروج يوغسلافيا من المعسكر السوفياتي إلى الانشقاق العدائي الصيني- السوفياتي ومرورا باستقلالية الشيوعية الأوروبية وتوالي اندماج الاحزاب الاشتراكية الغربية في النظام الرأسمالي، فضلا عن الانشقاق القديم للتروتسكية وأمميتها وإضافة لتيارات فرعية أخرى، ثم ناهيك عن قمع الانتفاضات الإصلاحية في المجر وبعدها تشيكوسلوفاكيا وتمرد بولونيا بقيادة نقابة التضامن.. وينبغي ألا نغفل عن الدور الذي لعبته وقتها دولة البابا في روما، في تواطؤ مع الولايات المتحدة والغرب عموما، من أجل توظيف الدين في الصراع الأيديولوجي- السياسي ضد الشيوعية عامة والسوفياتية خاصة، وهو نفس الأمر الذي تحقق مع بعض الدول الإسلامية والعربية، وبدعم قوي من حركات الإخوان المسلمين في حربهم الجماعية الأيديولوجية والقتالية في أفغانستان، والتي أنهكت الاتحاد السوفياتي، وأثمرت ظاهرة الإرهاب في بلداننا العربية لاحقا. وعندما جاء غوربتشوف. بمشروعه في البسترويكا، كانت هذه المحاولة الإصلاحية متأخرة جدا عن وقتها، عدا عن سوء إدارتها ، لما بلغته البيروقراطية الحاكمة من انفصال عن المجتمع، ومن انحلال داخلي أيديولوجي ومصالحي، أفقدها القدرة على التحكم المتريث في الحفاظ على الخيار الاشتراكي وعلى المعسكر السوفياتي نفسه .
وخلال هذه الحرب الباردة أيضا، عانت حركات التحرر الوطني من مخاض عسير بين مد وجزر، استعملت فيه الولايات المتحدة خصوصا، جميع الوسائل الهجومية المتاحة لها، من تدبير الانقلابات الديكتاتورية في إيران (المصدق)، وأندونسيا (سوكارنو) وغانا(نيكروما) وفي الشيلي (الندي) ، كما لم تكن بعيدة عن الاقتتال لتقسيم الكونغو( لوممبا). وكذلك بالتدخل المباشر في حرب الكوريتين وفي الفيتنام والكومبودج والاووس وفي نيكراغوا وغيرها. وبالتدخل غير المباشر، بمحاربة المد القومي التقدمي الوحدوي بزعامة عبد الناصر، ما أن تسلمت القيادة الأمبريالية بعد فشل العدوان الثلاتي (الفرنسي- البريطاني- الإسرائيلي) ، فحاولت تنصيب حلف بغداد، وتواطأت لإفشال الوحدة المصرية السورية، ودبرت حرب 67 ودعمت إسرائيل خلالها…. وغير ذلك كثير. وبعد خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، تم الاجتياح الإسرائيلي للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية منها وكانت الولايات المتحدة حاضرة بقوة في معمعانها.
وعندما استتب لها الانفراد بقيادة العالم، ركزت هجومها الشرس على منطقة الشرق الأوسط خصوصا، وكان احتلالها التدميري للكيان العراقي، ثم إعلانها لإقامة الشرق الأوسط الجديد في أوج الحرب التي دبرتها مع إسرائيل لاجتثاث المقاومة اللبنانية (2006)، ومازالت فصول هذا الهجوم التدميري قائمة الى اليوم في العديد من البلدان العربية.
وفي الحصيلة العامة، لم تستطع حركات التحرر الوطني، رغم بعض الانتصارات الكبرى في الفتنام وكوبا و الصين مثلا، وإنهاء معظم حالات الاستعمار المباشر، والفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أن تحول مدها التحرري السابق الذي مثل باندونغ قمة نهوضه إلى انتصارات مكينة وثابتة.
لم يكن غرضي في كل ما سبق أن أقدم صورة شافية وتحليلية لمرحلة معقدة ومركبة التناقضات، بقدر ما كانت غايتي من تلك التلميحات والوقائع التشديد على أن الكينزية والنيوبرالية، ليستا إلا جانبا من ما هو أوسع من مقولاتهما الاقتصادية. وليستا سوى محمولين لتوازنات اجتماعية وطنية ودولية، كانت ايجابية في الأولى، وسلبية في الثانية. وقد كان للاختلال الكبير في موازين القوى الدولية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، المدى الأعمق غورا في الهيمنة العالمية القائمة للنيوليبرالية اليوم. فهل سيكون للتناقضات الدولية الجديدة الأثر الأكبر على إحياء وتحرير التناقضات الاجتماعية الوطنية في الزمن المنظور؟ ذلك هو الموضوع القادم.
انتهى