النقيب عبد الرحيم الجامعي يكتب: القضَاة ومُؤسساتِهم في زمَن التواصُل.. نحو مُستقبل مُنفتح، مُتحرر ومَسؤول
عبد الرحيم الجامعي
نحو تحرير الذات والكفاءات من عنف الولاءات وضيق المفاهيم التي سادت وانتهت، هذا ما فهمته لما كشف نادي القضاة بأسلوب راق ومسؤول عن منهجيته في التواصل مع ممثلي القضاة ومؤسساتهم، وعلى رأسها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، واختار من أجل ذلك مبدأ المرافعات وتقديم الملاحظات والاقتراحات والمذكرات المدعمة بالمراجع الدستورية، والنصوص القانونية، وهذه لعمري ثقافة وممارسة فضلى تروم بناء الذات القضائية على اسس المساهمة المسؤولة البعيدة عن أي عشوائية أو غرور، خصوصا في زمن التكنولوجيا التي تقربنا بسرعة نحو الإنسان والآخر والمعرفة والمعلومة.
بالطبع، يبقى لنادي القضاء وحده شرح توجهه في موضوع النشر، وما يهم المتتبع مثلي وغيري، أن مقاربة القضاة من خلال نادي القضاة، دليل ثقافة وفهم رزين لاستقلال القضاء، ووعي جديد بواقع وحال الوضع المهني المعقد لنساء ورجال القضاء، باعتبارهم المجسدين للسلطة القضائية التي تصنع أسس العدالة وتصون الحقوق والمراكز القانونية بالمحاكم، وتحاول بالتالي وبشكل مباشر ويومي في ضمان مقومات دولة القانون، وهي مقاربة بمثابة تعاقد متين قد يخرج علاقات المجلس الأعلى بمكوناته القضائية لفضاء رحب يتسع للجميع و يستمع فيه للجميع.
إن اهتمام نادي القضاة بأحوال المحاكم وبسيرها وبعمل وقرارات المجلس الأعلى من جهة أخرى، مؤشر قوي يكرس رؤية جيل من القضاة من بناة مستقبل القضاء، ويجسد واقعا حقيقيا للمحيط الذي يشتغل فيه القاضيات والقضاة يوميا، وينبه للصعوبات التي تعترضهم و تقلق راحتهم نفسيا ومعنويا وربما تؤثر على صبرهم، وهم أمام كل هذا يواكبون بإصرار تدبير المهام القضائية، بل يجتهدون قدر الإمكان وفَوق الإمكان ليستجيبوا لما تفرضه عليهم واجباتهم الدستورية.
وبالطبع مذكرات نادي القضاة الموجهة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والتي قرر نشرها تعتبر مشهدا من مسار قضاة ليسوا أجانب عن الجسم القضائي، ونعتبر كذلك تَوجها شفافا يجب ان يعمم ويشجع ويثمن بين القضاة ومسؤولي المحاكم ومسؤولي المجلس الأعلى، ولا يمكن الاعتراض عليه، فهو الأداة التي من خلالها سيشعر المجلس الأعلى للسلطة القضائية أنه معزز بطاقة كبيرة من شباب القضاة النشطين القادرين على الإسهام ميدانيا في بناء صرح العدالة بعيدا عن كل حلقية أو حسابات، وسيشعر بان الجسم القضائي ليس كله منحرف او فاسد، وبأن الشرفاء ممن ينهضون بمهامهم بكل معاني الأخلاق حتى تقوم الثقة وتعلو بالقضاء للمراتب العليا التي هي له وهو أهل لها، مما يتطلب من المجلس الأعلى الإصغاء والاستماع إليهم كمعنيين مباشرين لهم الإمكانيات في القرارات المصيرية كشركاء ، فلما تلتحم مكونات المؤسسة القضائية دون إقصاء لأي طرف سيعُم الاطمئنان المهني بكل تأكيد.
يبدو للبعض ممن له رغبة في التحكم في انفاس القضاة و في حرياتهم المسؤولة، أو ممن لهم ميل لإتباع نهج الرئيس التونسي اتجاه القضاة ببلده ، وممن يتهمون نادي القضاء بانه جمعية منتفضة عن القيم او انها معارضة و خارج الصف ، أو يقول بأن نشر مذكراته وطرح مواقفه على الملأ ضرب من الغلو ومن تجاوز الخطوط الحمراء ، و لكن قَولا مثل هذا يجسد منطقا خطيرا له انعكاسات حاضرا ومستقبلا سلبية جدا، لأنه أسلوب يقتل روح المبادرة للفاعل القضائي و يرسخ علاقات الخوف بين القاضي والمسؤول قد تَعصف باستقلاله وحياده ، ولكنني أعتقد أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية لن يقبَل بهذا المنحى في علاقاته بالقضاة عامة و بالنادي خاصة ، ولن يرضاه لفئات واسعة من شباب القضاة ومن شيوخهم، لان المجلس الأعلى يعرف بأن الثقة في القضاة بُعْــد إنساني ومهني حاسم، يحقق بالتاكيد تنزيل مدونة الاخلاقيات وتفعيل المخطط الاستراتيجي وترسيخ قيم الدستور ومنها الاستقلال والتجرد، وان محاصرتهم في قفص القيود و من الاحترازات ومن التعليمات أكثر مما هو ضروري وموضوعي، قد ينقلب إلى خَوفهم و تَخوفهم من إصدار أحكام جريئة أو منصفة أو سكوت عن الجهر بالحقيقة القضائية النابعة من عمق الضمير و من صدق القناعات….
ومن هنا، فإن إِخبار الرأي العام بمذكرات نادي القضاة وطرحها على المسؤولين بالسلطة القضائية، وبغض النظر عن مضمونها ومحاورها، فإنها أسلوب غير مسبوق في مجال علاقات القضاة بمؤسساتهم، ولم يعرف الرأي العام المغربي من قبل هذه المقاربة، وهي مرحلة جديدة تعني الحزم في تحمل المسؤولية، فلابد من توسيعها ومن دعمها، لأنها تعتبر في البداية والنهاية إشراكا للمواطن والمواطنة في متابعة رأي وعمل قضاة المغرب والاهتمام أكثر بعدالة بلدهم، وهي محطة ديمقراطية تعمق أواصر التعاون بين المؤسسات القضائية و الجسم المهني كله و تعطي قوة للقضاء بالمغرب أمام التحديات التي تؤثر عليه وأمام من يتربص بهويته و قدراته وسلطاته.
اعتقد بأنه بقدر احترامنا و اطمئناننا لانتشار الوعي القضائي المسؤول بين جيل جديد من قضاة المغرب، المؤطر بقيم الدستور ومدونة حقوق الإنسان و قواعدها كما هي متعارف عليها كونيا، ستزيد مساحة احترامنا و اطمئناننا لأحكامهم العادلة والحازمة ، فان ضعف القضاة او تم إِضعافهم، ضَعُفت أحكامهم و انهارت العدالة إلى الأبد، إن أن تحديث الإدارة القضائية دون تحديث الأفكار وتحديث العلاقات بين كل الفاعلين في مجال العدالة، لن يكون إلا تقهقرا للقضاء وخسارة للمغرب أمام رهان إصلاح كل المؤسسات.
لنعزز مهام القضاة و لندعم حصانتهم واستقلالهم بثقتنا فيهم وفي مبادراتهم وفي إبداعهم وفي إطاراتهم المدنية الخلاقة، فالثقة فيهم تشجيع لهم على التشبث بأخلاق وظيفتهم و مقاومتهم للفساد هم بأنفسهم، وهذا في ما يدخل في صلب الخطة الاستراتيجية للمجلس الأعلى س.ق.
ورحم الله القاضي ورئيس محكمة النقض سابقا بفرنسا Pierre Truche الذي قال:
Être magistrat , c’est exercer un métier qui nous dépasse et nous invite en permanence au dépassement de nous même