سعيد يقطين يتسأل…لماذا نتأخر ويتقدم آخرون؟
ننقل سؤال التقدم والتأخر من الماضي إلى الآن، للتفكير في ما يجعلنا الآن متخلفين ومنقسمين على أنفسنا ذاتيا، والآخر المتقدم يرسم خرائطنا ويخطط لمصائرنا موضوعيا، فإذا بالذاتي يخضع للموضوعي الذي يحدد له واقعه وآفاقه.
لقد حصلت كل الدول العربية على استقلالها باستثناء فلسطين، التي ما تزال تعاني إلى الآن من استيطان رهيب يرفض الدولتين، ويعمل باطراد على تصفية القضية نهائيا. كان الاستقلال سياسيا والدول العربية في لحظة ضعف ففرضت عليها شروط مجحفة، وهي تقيدها بمواثيق وعهود. لقد منح هذا الاستقلال لكل دولة عربية نشيدا وطنيا، وراية خاصة، وقد مرّ على ذلك أكثر من نصف قرن من الزمان. فما الذي يجعلنا إلى الآن نتحدث عن التأخر المزمن والتقدم البعيد المنال؟
إن مقولتي التقدم والتأخر اليوم مختلفتان عما كانت عليه دلالتهما في أواخر القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين. لقد حصلت تطورات كثيرة وعلى المستويات كافة. ولا مجال للمقارنة بين الأمس واليوم رغم التفاوت الذي نلفاه بين الأقطار العربية، خاصة ما اتصل منه بالجانب الاقتصادي، بسبب الثروات الطبيعية التي يتميز بها البعض عن الآخر، ما جعل بعضها يبدو أكثر رفاهية من غيره الذي لم تتطور بنياته التحتية، وما يزال بعضها الآخر يعيش أفراده على عتبة الفقر. لكننا مع ذلك نعاين كون المقارنة مع الآخر الغربي لا تختلف جذريا عما كانت عليه الأمور إبان الاصطدام الأول به عن طريق الاستعمار، وممارسته التجزئة لأوصال الوطن العربي.
لقد تغيرت أمور كثيرة الآن، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي عربيا، بالمقارنة بين ما كانت عليه الأمور، وما صارت عليه مع تطور الزمن. لكن أبرز صور التأخر المشتركة بين الأمس واليوم تكمن في استمرار الذهنية التقليدية التي ظلت سائدة في العلاقة بين الوطن والمواطن، وبين الدولة والشعب، وبين مكونات المجتمع على المستويات كافة، خاصة على المستوى الثقافي أفقيا وعموديا.
إن الذهنية، أو العقلية التقليدية السائدة، على المستوى العربي، وليدة تاريخ طويل عريض من الصراع حول السلطة السياسية منذ الفتنة الكبرى ذاتيا، وهي أيضا نتاج السياسة الاستعمارية القديمة والمتطورة الجديدة التي تغذي هذا الصراع، ليس فقط بهدف الإبقاء على التجزئة، التي فرضتها تاريخيا باصطناع الحدود بين الأقطار العربية بهدف إدامة التناقض بين الدول العربية على الحدود، ولكن أيضا بإثارة النعرات الطائفية عن طريق تغذية الشعور بالانتماء الإثني واللغوي والمذهبي، موضوعيا.
إن ما نلاحظه عمليا على الصعيد العربي اليوم يبين لنا ذلك بجلاء، وإن تضافر العاملين الذاتي والموضوعي يقدم لنا صورة التأخر الواقعي، من خلال ما تعرفه المنطقة العربية من عدم الاستقرار شبه الدائم والمتواصل، ولا فرق في ذلك بين المغرب والمشرق العربيين. ويكفي أن نتوقف على ما عاشته لبنان قبل انتخاب الرئيس الجديد، أو سوريا تحت حكم الأسد، أو ما تعرفه السودان، والأمثلة لا حصر لها لو توقفنا فقط على ما وقع ويقع منذ بداية الألفية الجديدة إلى الآن.
تتعدد مظاهر هذا التأخر الذي يعرفه الوطن العربي وتتنوع تبعا للتطورات التي عرفتها الأقطار العربية منذ حصولها على استقلالها. سنركز على مقومين أساسيين يقدمان لنا أهم ملامح هذا التأخر بالقياس إلى التقدم الذي تعرفه بعض دول العالم المعاصر: الهوية والتعليم. إذا كان سؤال الهوية قابلا لأن نختزله في سؤال: من نحن؟ فإن سؤال التعليم يتجسد في سؤال: ماذا نعرف؟ يجسد هذان السؤالان حقيقة الوجود الإنساني: الأنا العارف. وحسب نوعية الأنا، وماذا تعرف، يمكننا تمييز الإنسان القادر على العيش في العالم المعاصر، والواعي بالدور الذي يمكن أن يلعبه في الحياة، ومن يعيش ليومه غير آبه بالزمن، وليست له إمكانات المنافسة أو المواجهة مع الآخر. أدى تشكل الدولة في العصر الحديث إلى خلق صورة الوطن والمواطن متجاوزا بذلك صور العشيرة والقبيلة والطائفة وما تحتويه من عصبيات وانتماءات. وبذلك صارت الجنسية هي التي تحدد هوية الشخص الوطنية التي تضبط حقوقه وواجباته داخل الوطن، باعتباره مواطنا.
عندما نقارن الدول المتقدمة وما تعرفه من إثنيات ولغات متعددة لا نجد مشكلة الهوية بالحدة التي تعرفها الدول العربية. فالأمريكي والصيني، مثلا، تتحدد هويته كمواطن ليس بأصله التاريخي الضارب في التاريخ، ولكن بجنسيته التي تتحدد له من خلالها حقوقه وواجباته.
أما عندنا فالحديث عن الهوية الخاصة جدا هي التي تفرض نفسها. وما المحاصصة والمطالبة بالحكم الذاتي، والصراع المذهبي، ومحاولة كل طرف بسط هيمنته يجعل مفهوم الوطن والمواطن يحتل مكانة دنيا في العلاقات الاجتماعية. وكل تهميش للصراع داخل المجتمع لا يمكن أن يكون إلا عقبة أمام إعطاء المواطنة والوطن كامل أبعادهما.
تبدو لنا المسألة الوطنية على مستوى الدولة في اللغة والتعليم، حيث نجد اللغة الوطنية والتعليم الوطني يهيمن في الدول المتقدمة، وهو يسير وفق تطلعات الدولة لبناء الدولة الموحدة والقوية.
أما عندنا فمشكل الهويات الخاصة يطغى على الهوية العامة الجامعة. ولذلك تتعدد أوجه الخلاف حول أيهما أولى بالهيمنة، أو على الأقل أن يكون في مستوى غيره. ويؤثر هذا الوضع على المستوى التعليمي. فلا نجد استراتيجية موحدة وخاصة تفرض نفسها. لذلك نجد التجريب الدائم، والتخبط في وضع المقررات وتغييرها جذريا بناء على توصيات أو أوامر يفرضها الآخر المتقدم.