الرئسيةرأي/ كرونيك

كيف يتعامل العالم مع “أمريكا ترامب”؟

بقلم نبيل فهمي وزير خارجية سابق بمصر

تتكون العلاقات الدولية من مزيج متداخل ومعقد من الأحداث والأفراد، حيث يتم اتخاذ القرارات بناءً على مصالح متنوعة ووجهات نظر متباينة. وغالباً ما تُقيّم قوة دولة ما بناءً على نفوذها الذي تمارسه من خلال أصول مادية ملموسة، مثل الثروة الاقتصادية والقدرة العسكرية.

على مر التاريخ، ارتبط هذا النفوذ ارتباطاً وثيقاً بحضور بحري قوي، وهو ما كانت تهيمن عليه في البداية “أوروبا القديمة”، ثم حلّ محلها فيما بعد كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال فترة العالم ثنائي القطبية. ولكن مع تقدم العولمة، أعادت التكنولوجيا وسلاسل القيمة الدولية تعريف العديد من المعايير.

من ناحية فقد سلطت جائحة كورونا الضوء على أهمية المرونة في العلاقات الدولية. ومن ناحية أخرى فبالرغم من التغييرات التي جلبتها العولمة إلى عالمنا اليوم، وصعود الصين، فضلاً عن التطورات المهمة التي تشهدها آسيا؛ فإن الولايات المتحدة تظل فاعلاً دولياً بارزاً، ومن المتوقع أن تستمر في هذا الدور لجيل آخر على الأقل.

تقلبات تقود لظاهرة ترامب:

في ظل هذا السياق، ليس من المستغرب أن تحظى الانتخابات الرئاسية الأمريكية بمتابعة دولية وثيقة، وهو الاتجاه الذي تزايد بشكل كبير مع انتخاب الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، دونالد ترامب.

وينبع الاهتمام الشديد بترامب من موقفه الصارخ المناهض للمؤسسات. والأمر الذي يُعد بنفس القدر من الأهمية، إن لم يكن أكثر أهمية، هو حقيقة أن انتخاب مرشح مناهض للمؤسسات للمرة الثانية يعتبر دليلاً على روح التغيير القوية التي تجتاح أمريكا، تلك الروح التي سبقت تولي ترامب وستستمر لفترة طويلة بعد انتهاء ولايته.

لقد أصبح التنوع فيما يتعلق بالدور المحلي للحكومة الأمريكية واضحاً بشكل متزايد من وجهة نظر عامة الشعب الأمريكي. فقد فقدت الرسائل التقليدية لكلا الحزبين الرئيسيين جاذبيتها؛ الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول الدور العالمي المناسب الذي ينبغي أن تضطلع به الولايات المتحدة.

لقد أدى انتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات إلى امتداد فترة من الاضطرابات السياسية في الولايات المتحدة. فقد انتخب الشعب الأمريكي سلسلة من الرؤساء ممن يمثلون أيديولوجيات مختلفة إلى حد كبير، فقد كان هناك: الجمهوري-الدولي جورج بوش الأب، والديمقراطي-البراغماتي-اليساري بيل كلينتون، والجمهوري- المحافظ-اليميني جورج دبليو بوش، والديمقراطي-اليساري-والأمريكي من أصل إفريقي باراك أوباما، والجمهوري-المناهض للمؤسسة دونالد ترامب، والديمقراطي-التقليدي جو بايدن، ثم عودة مرة أخرى لدونالد ترامب المناهض بشدة للمؤسسة. وتشير هذه التغيرات والتقلبات الحادة والمربكة من التعبير السياسي بوضوح إلى أن الدوائر الانتخابية الأمريكية غير راضية، وأنها في حالة بحث مستمر عن الهوية سواء على المستوى المحلي أم في العلاقات الدولية.

ولا شك أن ترامب، السياسي غير التقليدي، والذي تم انتخابه مؤخراً سيحاول تغيير العديد من الأشياء. ومع ذلك، فلا يمكن اعتبار ترامب هو المحرض على التغيير، ولكن يمكن القول إن وصوله للحكم هو نتيجة واضحة للدعوة المستمرة للتغيير، والتي طالما تردد صداها في جميع أنحاء الولايات المتحدة ولكن لم تتم الاستجابة لها. إن انتخاب ترامب لولاية ثانية يسلط الضوء بوضوح على أن النخب القيادية الأمريكية أصبحت منفصلة عن دوائرها الانتخابية، وأن هذه الدوائر الانتخابية يزداد استياؤها وسخطها يوماً بعد يوم.

في مثل هذه الحالة من التقلب وعدم الاستقرار، تميل الدوائر الانتخابية إلى تقليص التوسع الخارجي، وتفضل سياسة الانعزال السياسي والمواقف القومية؛ ولذا تأتي سياسة ترامب المنادية بـ”أمريكا أولاً” بشكل يتسق تماماً مع هذا الاتجاه العام السائد في البلاد.

التحول لدبلوماسية الصفقات:

نحن على أعتاب مرحلة جديدة ستتبنى فيها الولايات المتحدة بشكل متزايد نهجاً معاملاتياً تعطي فيه الأولوية للمصالح المادية، وتهدف من خلاله إلى تعظيم مكاسبها المباشرة والحد من المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها؛ وهذا بدوره يعني أن الولايات المتحدة ستقبل بشهية محدودة على المفاوضات المطولة أو العلاقات الاستراتيجية التي لا تتوافق مع هذه الأهداف. وكذلك ستصبح البلاد أكثر عزوفاً عن الولوج في مجازفات أو مخاطرات وبخاصة على المستوى العسكري. وسيكون التركيز على اتخاذ مخاطر محسوبة والسعي إلى هوامش ربح عالية، بدلاً من التركيز على وضع وبناء المعايير. ويمكن القول إن هذا المنظور الحالي للولايات المتحدة يشبه بالأساس منظور رجل الأعمال، حيث تكون الأولوية الأولى هي تحقيق المكاسب الخاصة، بينما تتخذ الاعتبارات المتعلقة بالصالح العام وتحقيق الفوائد طويلة الأجل دوراً ثانوياً يتوقف على تقاسم الأعباء بشكل معقول.

وبناءً على هذا المنظور فمن الآن وصاعداً ستعطي الدبلوماسية الأمريكية الأولوية لموازنة القوة بدلاً من معالجة انتهاكات الحقوق، أو تصحيح الانحرافات، أو الحفاظ على الصالح العام. وسوف يكون التعبير عن الدبلوماسية مباشراً وحازماً. ومن الجدير بالذكر أن إحدى السمات الإيجابية للرئيس ترامب هي استعداده للتعامل مع الخصوم. وقد أعرب عن هذه النيّة بوضوح لكل من روسيا والصين، وإن كان لاذعاً بعض الشيء تجاه الصين والتي تشكل تحدياً اقتصادياً هو الأكثر أهمية.

وقد انخرط ترامب وفريقه مع المجتمع الدولي حتى قبل توليه مهام منصبه. فقد قام بالدعوة بجرأة إلى ضرورة التوصل إلى شروط/بنود أفضل لأمريكا فيما يتعلق بعلاقتها مع بنما وغرينلاند وكندا والمكسيك، كما حثّ حلفاء حلف الناتو على المساهمة بشكل أكبر في التكاليف الأمنية. وقام ترامب أيضاً بالإشارة إلى أن الدعم غير المسبوق، والذي كان يقدم لأوكرانيا سيكون محدوداً في المستقبل.

هذا وقام ممثله بالشرق الأوسط بإجبار نتنياهو على “كسر السبت التقليدي” وعقد لقاء بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار بغزة، والتي أسفرت في نهاية المطاف عن اتفاق.

نموذج جديد للسياسة الخارجية:

التغيير الجديد في أسلوب الإدارة الأمريكية ما هو إلا انعكاس لشخصية الرئيس ترامب وسماته؛ ومع ذلك فلا بد من التأمل العميق في الأمور. أتذكر بوضوح لقاءً جرى مؤخراً مع خبراء السياسة الخارجية الأمريكية الذين أكدوا أن العلاقات الدولية، وخاصة تلك المتعلقة بالتنافس بين القوى الكبرى، سوف تظل دائماً محل اهتمام وقلق.

ومن المثير للاهتمام أن العديد من الخبراء لاحظوا تقلص دور الولايات المتحدة أو المساعدة الأمريكية عندما لا تكون المصالح الأمريكية مهددة بشكل مباشر. ويتوافق هذا المنظور بشكل وثيق مع نهج ترامب، مع الأخذ بالاعتبار أنه يميل إلى تعريف “المصالح” من وجهة نظر قصيرة الأمد.

وبشكل عام، يبدو أن الأمريكيين ــ وخاصة تحت قيادة ترامب ــ على استعداد للتخلي عن دور ومسؤولية أمريكا كقائدة للنظام العالمي وصاحبة الرؤية المقدمة للعالم؛ لصالح أن تكون رئيساً تنفيذياً تقليدياً يركز على النتائج المادية الفصلية والسنوية. ومن المرجح أن يستمر هذا التحول في أسلوب الإدارة الأمريكية لفترة من الوقت حتى بعد انتهاء ولاية ترامب.

نهج ثلاثي للتعامل مع ترامب:

كرد فعل على سياسة الولايات المتحدة اليوم والتي يقودها ترامب، يتعين على أعضاء المجتمع الدولي أن يتبنوا نهجاً ثلاثي الأبعاد في علاقاتهم الدولية، وخاصة في تعاملاتهم مع الولايات المتحدة.

فبادئ ذي بدء، من المهم أن يحاكي المجتمع الدولي بعض ممارسات ترامب. وهذا ينطوي على التعبير علناً وبوضوح عن أهداف ذلك المجتمع ومواقفه، بما في ذلك ما هو مقبول أو غير مقبول بالنسبة له. ومن الأهمية بمكان تجنب سوء الفهم؛ لأنه قد يشكل تهديداً أعظم بكثير من اختلاف وجهات النظر.

وينبغي تركيز الجهود، في إطار المعايير المتعارف عليها، على إيجاد حلول للقضايا المختلفة أو إحراز تقدم فيها من خلال تقديم اقتراحات ملموسة تسمح بمساحة للمفاوضات، وليس مجرد تكرار المبادئ أو الأهداف العامة. إن التفاعل والمشاركة صارا أمرين بالغي الأهمية في هذا العصر.

وأخيراً، فعند تقديم أي مقترحات، فمن الضروري تسليط الضوء على تكلفة هذه المقترحات وفوائدها الفورية والطويلة الأمد بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. إن اتباع هذا النهج الثلاثي الشُّعب يوفر الوضوح ويؤكد المزايا المتبادلة للتعاون واتخاذ القرارات الاستراتيجية.

أولويات رئيسية لإدارة ترامب:

ستكون العديد من القضايا بارزة في الأشهر الأولى من إدارة ترامب، كالحرب الروسية الأوكرانية مثلاً. وقد قدّم الموظفون الجدد بالفعل عدة مقترحات بشأن أوكرانيا تحافظ بشكل أساسي على بعض المكاسب الروسية. ولكن تظل هذه المقترحات غير حاسمة عندما يتعلق الأمر بالتزام الناتو والاتحاد الأوروبي. ولذا فلا بد وأن تتعامل روسيا مع هذا الوضع بشكل متعقل بنّاء، وأن تتجنب خطأ التجاوز كما فعلت في أوكرانيا. وسيركز ترامب السريع الانفعال “العصبي المزاج” على التصورات بنفس القدر كما المحتوى.

ومن القضايا البارزة أيضاً التي ستفرض نفسها في الأشهر الأولى من إدارة ترامب القضية الفلسطينية الإسرائيلية والتي ستأتي على رأس جدول الأعمال، وخاصة فيما يتعلق باتفاقية وقف إطلاق النار المضطرب بغزة وما سيحدث بعده. ومن المرجح أن يعطّل الإسرائيليون المضي قدماً في الاتفاقية وأن يسلطوا الضوء على الانتهاكات الفلسطينية لتجنب اتخاذ أي خطوات حقيقية في المراحل اللاحقة. وسيحاولون أيضاً استغلال هذه الانتهاكات واستخدامها كذريعة لطلب المزيد من الدعم من إدارة ترامب، أو تثبيط أي دعاوى لتقديم تنازلات سياسية جوهرية لحل الصراع من خلال إنشاء دولة فلسطينية.

ومن الأهمية بمكان في هذا السياق التعبير عن الحقوق العربية والمطالب المستمرة من الجانب العربي لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، سواء لقيمتها الجوهرية أم من أجل تحقيق الأمن الإقليمي. وعند التعامل مع ترامب، يجب أن تقترن هذه المطالب بتقديم حلول مبتكرة وحاسمة تهدف إلى استقرار المنطقة والحفاظ على هوية وطنية فلسطينية داخل دولة مستقلة.

وعلى صعيد آخر، فستستمر إسرائيل في تأطير البرنامج النووي الإيراني وتقديمه باعتباره تهديداً لأمن المنطقة، وستمضي في استخدامه لصرف الانتباه عن معالجة القضية الفلسطينية. صحيح أن البرنامج النووي الإيراني مثير للجدل، ولكن التركيز على هذا البرنامج النووي وحده دون غيره يمكن أن تكون له عواقب وخيمة للغاية على المدى الطويل؛ ولذا فبدلاً من ذلك، قد يكون تقديم اقتراح عربي شامل يهدف إلى تحقيق الأمن بالشرق الأوسط أكثر جاذبية للرئيس ترامب خاصة وأنه يسعى لإعادة تشكيل المشهد بالمنطقة. ويجب أن يشمل هذا الاقتراح نقاطاً مثل: حل النزاعات، ومراقبة الأسلحة (السيطرة على التسلح)، والاستقرار الإقليمي.

ستكون الصين، والتي تُعد أكبر منافس دولي متوقع للولايات المتحدة، محوراً مركزياً لترامب وللعديد من القياديين داخل إدارته. وقد يكون الجانب الاقتصادي للعلاقة بين الدولتين ركيزة استقرار؛ مما قد يمهد الطريق لعصر جديد من المنافسة الإيجابية، أو قد يزيد من حدّة التوترات بين البلدين. إن سوء تقدير الأمور فيما يتعلق ببحر الصين الجنوبي وتايوان من شأنه أن يزيد من تعقيد الموقف. وفي حين يميل ترامب إلى تفضيل عدم التدخل في الشأن الصيني التايواني، فإن العديد من مؤسسات الأمن القومي بالولايات المتحدة تعرب عن مخاوفها القوية إزاء الموقف الشديد الحزم الذي يتبناه الجيش الصيني تجاه تايوان.

ويظل ترامب الشخصية المحورية في المشهد السياسي الأمريكي اليوم. وعلى الرغم من أسلوبه المميز والمختلف؛ فإنه يمّثل نتاجاً للديناميكيات السياسية المتغيرة بالولايات المتحدة أكثر من كونه المحرض عليها؛ ولذا فمن الأهمية بمكان أن يدرك العالم النزعات والرؤى المتغيرة في الولايات المتحدة وتداعياتها الاستراتيجية على العلاقات الدولية.

نقلا عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى