تقديم عزيز أخنوش للتصريح الحكومي.. وعرض نادية فتّاح لمشروع الميزانية.. و خطاب التشكيك..
لا أعتقد أن السيدة نادية فتاح العلوي، وزيرة الاقتصاد والمالية، هي من كتبت الكلمة التي ألقتها يوم الاثنين 25 أكتوبر الجاري أمام مجلسي البرلمان، بمناسبة عرضها لمشروع قانون المالية لسنة 2022.
ولا أعتقد أن السيدة الوزيرة لا تعي أن ما قالته تحت قبة البرلمان في كلمتها هو العكس تمامًا لما جاء في الخطاب الملكي، الذي وجّهه الملك محمد السادس لحكومتها وخصوصًا لرئيسها عزيز أخنوش أمام نواب الأمة تحت نفس القبة.
ولا أعتقد أن السيدة الوزيرة سقطت سهوا في انزلاق سياسي خطير، تجاوز الطعن في الحصيلة الحكومية للعشر سنوات الماضية، إلى الطعن في التقدير الملكي للوضع الاقتصادي في البلاد، الذي اعتبرته الوزيرة مجانبا للصواب وللواقع…
ولكن أعتقد أن الانزلاق في خطاب تقديم مشروع ميزانية 2022، التي أكل فيها رئيس الحكومة الثوم بفم وزيرته في الاقتصاد والمالية، لا يتمثل في الحديث عن الإخفاقات ومظاهر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات العشر السابقة، أي خلال الحكومتين، اللتين قادهما حزب العدالة والتنمية (بنكيران والعثماني)، رغم أن حزب التجمع الوطني للأحرار كان ممثلا فيهما بحصة الأسد وبالوزارات الأساسية، ويتحمّل مسؤولية أساسية لا تقل عن مسؤولية البيجيدي، وإنما في تسفيه التوجيهات الملكية، للتغطية على التراجعات والتقديرات التشاؤمية، التي جاءت في مشروع الميزانية، والتي أسس لها التصريح الحكومي، الذي قدمه عزيز أخنوش، يوم الاثنين 11 أكتوبر، أمام البرلمان…
في ذلك التصريح، قدم أخنوش صورة مغايرة للوضعية التي قدمها الجالس على العرش، وطرح برنامجا خماسيا يتحدّث أساسا عن “الأزمة” وليس عن “انتعاش” الاقتصاد الوطني، وتحدث عن معدل نمو متوسط يناهز 4 في المائة (سنة 2022)، وهي وضعية ضعيفة جدا بالمقارنة حتى مع التزاماته بإحداث أكثر من 1 مليون منصب شغل، وأحرى أن يُدخل في حساباته 5.5 في المائة التي توقع الملك أن يحققها الاقتصاد المغربي هذه السنة (2021)، والتي زكّاها حتى صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير، الذي توقّع نسبة مقاربة حددها في 5.7 في المائة…
وهذا ما يفسر جنوح كثير من المغاربة، اليوم، إلى الإحساس بخيبة الأمل، بعدما ابتلوا بحكومة أكبر تاجر للمحروقات والغاز والأكسجين في المغرب، كل ما فعله، منذ جلوسه على كرسي رئاسة الحكومة، هو إشعال الحرائق، بسبب قرارات واختيارات اشتعلت فيها نيران التخبّط، بدءا من بصْمه على أسرع تعديل وزاري في العالم، ومرورا بزيادات في الأسعار تصدّرتها محروقاته، التي تعدى فيها ثمن لتر المازوط 10 دراهم، وصولا إلى “جواز التلقيح” الذي سلّط لهبه الحارق على الناس، وقد يشعل نيرانه الساحة الاجتماعية في مختلف جهات البلاد…
تخبّطات السلطة التنفيذية هاته، تُطهر أنه ليس هناك أي تنسيق قبلي أو تعاون بين القصر وبين رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، وهذا ما يمكن أن نلمسه، بالخصوص، من خلال الارتباك، الذي وقعت فيه حكومته منذ أول اجتماع للمجلس الوزاري الذي انعقد بالقصر الملكي في فاس، يوم الأحد 17 أكتوبر، بعد أن أعاد الملك محمد السادس مشروع الميزانية إلى لجنة الصياغة في الوزارة الوصية لتضمين توجيهات جديدة أثارها الملك بعد عرض وزيرة المالية قالت، خلال عرضها أمامه لمشروع قانون المالية رغم محاولة تأكيدها أن الحكومة حرصت على أن يكون هذا المشروع منطلقا لتنفيذ التوجيهات الملكية .
إلاّ أن الملك طوّق “عنق” الحكومة، خلال هذا المجلس الوزاري، عبر الأولويات التي بسطها بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، والتي أمر بها الملك الحكومة، وفي مقدمتها استكمال أوراش المشاريع الملكية الكبرى المفتوحة، التي التزمت بتمويلها الحكومات السابقة، وبعد ذلك التنزيل السليم للنموذج التنموي، ثم يأتي بعد هذا تنزيل برنامج الحكومة، الذي “تشترك” فيه الأحزاب الثلاثة، التي شكّل بها أخنوش أغلبيته الحكومية.
وإذا كان هذا التطويق الملكي، ببرنامجه وأولوياته وتوجيهاته، دفع عزيز أخنوش إلى الإسراع بعقد مجلس حكومي صباح اليوم الموالي للمجلس الوزاري المذكور، أي يوم الاثنين 18 أكتوبر الجاري، من أجل البتّ في التعديلات الحكومية المقترحة على مشروع قانون المالية ليتلاءم مع التوجيهات والأولويات، التي أمره بها الملك، فإنه فاجأ البرلمانيين بطلب تأجيل الجلسة العامة، التي كانت مبرمجة ظهر نفس اليوم، أي الاثنين 18 أكتوبر، لتقديم مشروع قانون المالية لأجل غير مسمى..
وإذا كان أخنوش تمكّن في يوم الاثنين نفسه من إيداع المشروع خوفا من تجاوز الأجل القانوني، المحدد في 20 أكتوبر، طبقًا لأحكام المادتين 48/49 من القانون التنظيمي، فإنه تعمّد ألا تنعقد الجلسة البرلمانية العامة إلا بعد أسبوع من التأجيل، أي يوم الاثنين الموالي 25 أكتوبر، لشيء في نفسه قد قضاه.
وهو تأجيل أبعد من أن يكون مجرد إجراء مسطري، بل له حمولته السياسية والتدبيرية، تعكس أسلوبا خاطئا في الاشتغال، يتمثّل في ما يلي:
أولا:
إذا كان الملك محمد السادس كرّس، من خلال تجربة أزيد من عقدين من الحكم، أسلوبا له خصوصيته في تدبير الشأن العام يضع في الأولوية المصالح العامة، ولو اضطر الأمر، أحيانا، الاشتغال 7/7 أيام، دون توقف، لداعي عطلة أو لغيرها، بدليل أن الملك بمجرد استكمال دواعي عقد المجلس الوزاري، دعا إلى الاجتماع يوم الأحد 17 أكتوبر، وهو يوم عطلة، لأن مصالح البلاد والعباد لا تنتظر، وبهذا الأسلوب كان يمكن استئناف العمل في اليوم الموالي لعيد المولد النبوي الشريف، أي يوم الأربعاء 20 أكتوبر، بل وتجاوزا كان يمكن عقد الجلسة البرلمانية العامة لتقديم المشروع يوم الخميس، الأمر الذي لم يحصل…
ثانيا:
هل نعتبر هذا بداية تكريس هيمنة الأغلبية العددية المريحة، ما يجعل حكومة أخنوش تتصرف على هواها ومزاجها، دون أي اعتبار للأطراف الأخرى. بمعنى آخر أن مشروع قانون المالية ستمرّره الحكومة بالفعل والقوة، دون أن تهتم بتبعات ذلك على الحياة السياسية، التي ستصبح مختنقة، وهو الأمر الذي قد يهدد بإدخال البلاد إلى متاهات الآفاق المجهولة، وهذا ما ظهر جليا في تقليص المساحة الزمنية لدراسة مشروع الميزانية، من خلال إضاعة أسبوع كامل (من الاثنين 18 أكتوبر إلى الاثنين 25 أكتوبر) على نواب الأمة، الشيء الذي لا يمكن تفسيره إلا بمحاولة خنق الأصوات المخالفة، وجعلها تخضع للأمر الواقع، سواء بالضغط الزمني، أو بالضغط العددي!
وبالعودة إلى عرض وزيرة الاقتصاد والمالية، الذي هيمنت عليه لغة بوليميكية حول حصيلة السنوات العشر السابقة، يمكن تقديم ملاحظتين:
أولا، أدانت الحكومة حصيلة السنوات العشر الأخيرة، التي تحمّل فيها أخنوش المسؤولية على حد سواء مع بنكيران والعثماني، ولا نقول هذا دفاعا عن حصيلة تدبير الإسلاميين، فهذا لا يعنينا، لكن على الأقل يحب الاعتراف أن ما يُسجّل على هذه الحصيلة أنها لم تتعرض لاتهامات وشبهات بفساد أو اختلاسات من قبل مؤسسات الدولة ذات الصلة، بالعكس فإن تدخلات هذه المؤسسات، خلال السنوات العشر السابقة، كانت ضد وزارة أخنوش، وضد وزارة تابعة لحزبه، وبشكل أقل بعض وزارات أحزاب أخرى.
وهكذا تابع الرأي العام كيف أن قضاة المجلس الأعلى للحسابات خصّصوا 400 صفحة من تقريرهم لسنة 2018، لمحاكمة تدبير وزارة الفلاحة والصيد البحري، إذ سجلوا تدبيرا “سيئا وعشوائيا” للقطاع، و”شبهات” في تعامل وزارة الفلاحة مع مكتب دراسات معين في مجموعة من الصفقات الخاصة ببرنامج “أليوتيس”، وشبهات في ثلاث صفقات تم بموجبها منح 37 مليون درهم لمكتب الدراسات، واختلالات في صندوق التنمية القروية والمناطق الجبلية، واختلالات وثغرات في مخطط “المغرب الأخضر”، واختلالات في مكتب “أونسا” الذي لا يُراقب الكثير من المنتجات التي يستهلكها المغاربة رغم خطورة المخالفات المسجلة، وشبهات تتعلق بـ”كوطات الريع” في صيد الأسماك، فضلا عمّا سجله مجلس المنافسة بخصوص المحروقات من “مُمارسات مخالفة لقانون حرية المنافسة والأسعار”، إضافة إلى لجنة الاستطلاع البرلمانية، التي خلُصت إلى أن تحرير الحكومة لأسعار المحروقات جنت من خلاله شركات المحروقات أكثر من 1700 مليار سنتيم…
وكل هذا وغيره، دون الحديث عن الاتهامات، التي كان أثارها بالأمس، عبد اللطيف وهبي الحليف اللذوذ لعزيز أخنوش اليوم، بخصوص “إرجاع مبلغ 1700 مليار سنتيم المنهوبة من جيوب المغاربة في المحروقات”، وكذا “إرجاع مبلغ 452 مليون دولار؛ أي ما يعادل 410 ملايير سنتيم كمستحقات للدولة من قيمة الصفقة الشهيرة لحفيظ العلمي المنتمي لحزبه التي جناها من تفويت 53 في المائة من شركة (سهام للتأمين)”.
ثانيا، ما يهمّنا، اليوم، هو السنتان الأخيرتان المطبوعتان بالأزمة الخانقة لجائحة كورونا، وهي فترة يجب أن نقول إن الملك هو الذي دبّرها على كل المستويات باعتراف رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني ومجموع وزراءه، وإن تدابيره هي التي أعطت للمغرب هذه الوضعية المنتعشة، وهي التي جعلته يحافظ على نسبة من الاستثمارات الخارجية وتحويلات الجالية المغربية بالخارج، وهي التي أدت إلى حصول المغرب على احتياطه من العملة الصعبة خلال سبعة أشهر، وهي التي يعود لها الفضل الكبير في نسبة النمو المتوقعة لهذه السنة، والتي ستناهز 5.5% على الأقل…
وبمعنى أكثر وضوحا، فلم يكن صدفة أن يشدد الملك على أن كل هذه المؤشرات “تبعث، ولله الحمد، على التفاؤل والأمل، وعلى تعزيز الثقة، عند المواطنين والأسر، وتقوية روح المبادرة لدى الفاعلين الاقتصاديين والمستثمرين”. كما لم يكن صدفة أن يتوقف الجالس على العرش عند “هذا السياق الإيجابي”، ليشدد على أنه “ينبغي أن نبقى واقعيين، ونواصل العمل، بكل مسؤولية، وبروح الوطنية العالية، بعيدا عن التشاؤم، وبعض الخطابات السلبية”…
بيد أن عزيز أخنوش، منذ تقديم تصريح الحكومة إلى عرض مشروع الميزانية، دخل، عمليا، في مناهضة توجيهات الملك، وأغرق البلاد والعباد في التشاؤم والخطابات السلبية، وفي تأزيم الأوضاع المجتمعية، وفي اتخاذ تدابير عشوائية أخرجت الناس إلى الاحتجاج، وتهدد بمزيد من التأزيم والاحتقان، في ظرفية يواجه المغرب، خلالها، العديد من المؤامرات، من دول أوروبية ومن الجيران…
ولعل أبلغ تعبير عن هذا التوجّه الخطير المفارقات الصادمة بين عرض مشروع الميزانية، المقدم إلى أسرة الإعلام، وبين المذكرة التقديمية لمشروع الميزانية! إذ لاحظ المراقبون أن وزيرة المالية، الخبيرة في الأرقام، تعرضت لعملية توريط مقصودة في لغة سياسية بوليميكية، قد لا تكون تدرك جوهر مراميها، التي تفيد، في نظر العديد من المتبعين، أن معطيات ملك البلاد لا أساس لها على الأرض ولا علاقة لها بالواقع!
إن الذي صاغ عرض وزيرة المالية، تحت مسؤولية أخنوش، اختبأ وراء البيجيدي ليتوجّه بالخطاب مباشرة إلى الملك حينما يقول: “وما الاختباء وراء الانتعاش الذي بدأت تظهر معالمه على الاقتصاد الوطني خلال بداية هذه السنة ونسبة النمو التي ستتجاوز 5.5% إلا محاولة للتغطية على هذا الواقع”! لأن الملك محمد السادس هو من تكلم عن نسبة 5.5%، والملك هو من تحدث عن الانتعاش، والملك هو من أكد أن كل المؤشرات “تبعث على التفاؤل والأمل”، فيما خطاب عزيز أخنوش ووزيرته في المالية، يقول عكس ما قاله الملك تمامًا، ركّزا بالأساس على التشاؤم والسلبية، وأكدا أن جل “المؤشرات تصبّ في اتجاه تكريس معالم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية”!!