رأي/ كرونيك

الصحافية الفلسطينية ميرفت عوف تكتب جرادة المغربية ترفض تناول «الرغيف الأسود»

تغير اسم مدينة جرادة الواقعة في شمال شرق المغرب من منجمية إلى «مدينة الأيتام والأرامل»، هذا التغير ناجم عن تسبب العمل في المناجم غير القانونية بوفاة الكثير من رجال المنطقة، تاركين وراءهم زوجات وأطفالًا في بيئة فقيرة للغاية.

كان هؤلاء مضطرين للعمل في ظروف غير قانونية لأنه لا خيار لهم إلا هذه المهنة المميتة، يحدث ذلك مقابل استفادة «بارونات» سياسية من عملهم بتكوين ثروات هائلة، ومقابل تخاذل حكومي عن توفير بدائل اقتصادية لهم.

الأمر الذي دفعهم منذ ديسمبر الماضي لخوض احتجاجات ضد الحكومة المغربية، فأغلقت المحلات التجارية، وخرج السكان محتجين على ظروفهم المعيشية السيئة للغاية، فيما تصدت لهم آليات قوات حفظ النظام والأمن الوطني التي تجوب الأماكن من حولهم، واتهمتهم الحكومة بتسييس الموقف وتحويله إلى حالة سخط على الحكومة.

احتجاجات «الرغيف الأسود» لن تهدأ بـ«جرادة»
خرج يوم 25 ديسمبر 2017، سكان مدينة «جرادة» التي تقع على بُعد 60 كم عن مدينة وجدة (شرق المغرب)، محتجين على تعامل الحكومة المغربية مع قضية غرق شقيقين من عمال مناجم الفحم خلال عملهم.
بدأ ذلك – حسب المحتجين – بسبب سوء المعاملة والإهمال في عملية نجدة العاملين، ثم في استخراج الرخص الإدارية لدفن الجثتين في أسرع وقت، وردًا على ذلك قام سكان جرادة بالوصول إلى المقبرة، ومنعوا السلطات من دفن الرجلين، ثم تلاحقت بعد ذلك الاحتجاجات واتخذت أشكالًا عديدة بدءًا بالاعتصام، ثم المسيرات، وانتهاء بشّن إضرابات عامة احتجاجًا على اعتقال بعض المحتجين.

وتفاقمت الأمور يوم 14 مارس 2018، حين خرجت جرادة للاعتصام في الغابة المجاورة لها مطالبة ببديل اقتصادي عن العمل في «مناجم الموت» كما يسميها السكان، وردًا على هذا الاعتصام قامت القوات العمومية بفضه، ويقول سكان جرادة إن القوات المحلية هي من شرعت في تفريق المحتجين باستعمال القوة، مما دفع السكان لرشقهم بالحجارة.

ويؤكد أحد المواطنين أن «المواجهات استعملت فيها الحجارة بشكل كبير لأن المكان الذي اندلعت فيه هو مكان كله حجارة، ورغم تدخل القوات العمومية باستعمال القنابل المسيلة للدموع، بشكل محدود، إلا أن مكان المواجهة وامتدادها إلى الغابة جعلها تستمر إلى حدود الساعة السادسة مساء».

ويشبه هذا الحال ما حدث قبل 20 عامًا (عام 1998) عندما اضطر سكان جرادة للتواري خلف الغابات والتحصن في الجبال المحيطة بالمدينة للإفلات من قبضة الأمن حين رفضوا الإعلان بالشروع في التصفية القانونية لشركة مفاحم المغرب، فقد شعر العمال أن الحكومة تقوم بوضع حد لمصدر رزقهم حينها.

وتستمر التظاهرات الكبرى بجرادة منذ ديسمبر الماضي حتى يومنا هذا، فقد خرج السكان يطالبون بإطلاق سراح المعتقلين، ورفعوا شعارات منها «الشعب يريد بديلًا اقتصاديًا» و«لا للتهميش»، واختير اسم «الرغيف الأسود» لهذه الاحتجاجات نسبة للقمة العيش التي يحصل عليها العمال من الكدح بمناجم الفحم الأسود.

وفي 13 مارس الحالي، أعلنت وزارة الداخلية المغربية أنها مستعدة للتعامل بكل حزم مع التصرفات والسلوكيات غير المسؤولة، انطلاقًا من صلاحياتها القانونية، وأكدت على أحقيتها في إعمال (تطبيق) القانون من خلال منع التظاهر غير القانوني بالشارع العام والتعامل بكل حزم مع التصرفات والسلوكيات غير المسؤولة وتسبب هذا التهديد الحكومي بخروج عمليات احتجاج واسعة سقط فيها جرحى في صفوف الشرطة، وإصابات واعتقالات في صفوف المتظاهرين.
وقد حمل نشطاء جرادة السلطات المحلية مسؤولية التدخل القمعي في حق نساء المدينة وأطفالها والذي نتج عنه إصابات بليغة، فحسب البيان الأول لنشطاء «حراك جرادة» فإن «مدينة جرادة شهدت طيلة عقدين من الزمن احتجاجات فئوية نتيجة التهميش والفقر المدقع، وبسبب عدم التعاطي المسؤول والجاد معها، وبسقوط شهداء الرغيف الأسود بآبار الموت الساندريات انتفضت ساكنة الإقليم معنونة حراكها السلمي تحت يافطة المطالب الاجتماعية الثلاثة (بديل اقتصادي، الماء والكهرباء، المحاسبة)».

وطالب البيان بـ: «رفع العسكرة عن المدينة ووضع حد للاحتقان الذي تعيشه، والاستجابة للمطالب المشروعة والعادلة للساكنة وذلك بالرجوع إلى طاولة الحوار، والحفاظ على السلم وسيادة القانون وتغليب المصلحة العليا لا ينفصل عن التنمية والعدالة والمساواة والديمقراطية».

ويذكر بيان فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في جرادة، أن: «الاحتجاجات اندلعت أساسًا بسبب غلاء فواتير الكهرباء والماء، وتأججت بعد وفاة عمال الفحم الثلاثة، فالمحتجون كانوا سلميين طوال الفترة الماضية، وكانوا يحملون العلم الوطني وصور الملك، ويرّددون من حين لآخر النشيد المغربي لأجل التأكيد على كون مطالبهم اجتماعية صرفة، غير أن الأجوبة التي تلقوها من المسؤولين لم تقنعهم».

ويتابع بيان الفرع الحقوقي: «السكان يرفعون ثلاثة مطالب أساسية: أولها تحقيق بديل اقتصادي، ثانيها الإعفاء من فواتير الكهرباء والماء، ثالثها محاسبة المسؤولين عن الوضع المتردي للمدينة».

جرادة تريد الخلاص من «مناجم الموت»
«نحن وطنيون ولا نطالب سوى بأبسط الحقوق الأساسية، هنا الناس ليس لديهم ما يخسرونه، إنهم فقراء جدًا وكثيرون منهم يجازفون بحياتهم في آبار الموت»، هذا ما قاله «حسن» أحد المتظاهرين في جرادة.
دفع عدم انتظام سقوط الأمطار في هذه المنطقة السكان للعزوف عن الزراعة، فاقتصر نشاطهم على النشاط الرعوي، لكن اكتشف في العام 1927 على يد المحتل الفرنسي الفحم الحجري، فسارع الفرنسيون لاستغلال ثروات الفحم الذي يعد من أجود الأنواع على مستوى العالم، والمعروف باسم «الأنتراسيت»، ومنذ هذا الوقت اقتصر نشاط السكان بالأساس على العمل في المناجم إضافة إلى الاعتماد على تحويلات أموال المغاربة في الخارج والتهريب على الحدود مع الجزائر.

لكن تعزيز المراقبة على الحدود قلل من اعتماد السكان على التهريب، ثم جاء عليهم قرار الحكومة بإغلاق المناجم بعد أن أصبحت المصدر الاقتصادي الرئيسي لهم نهائيًا في العام 2001 بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج، فأدت ندرة فرص العمل في المنطقة إلى توجه عدد من سكان جرادة إلى آبار الفحم العشوائية، التي لا تتوافر فيها شروط السلامة، وأصبح نحو 9 آلاف يتعايشون جراء العمل في المناجم العشوائية وغير القانونية، يغامرون باستخراج الفحم يدويًا وبيعه إلى تجار محليين يملكون تصاريح لتسويقه ويسمون محليًا «البارونات».

وقد حقق هؤلاء أرباحًا طائلة نتيجة استغلالهم كد المكافحين العاملين في التنجيم، ويعمل هؤلاء في مناجم تعرف باسم «السنادريات» والتي تُظهر جرادة وكأنها منطقة في القرن التاسع عشر، إذ يقوم الرجال المضطرون للعمل بحفر آبار بطرق بدائية، عمقها بين 50 و80 مترًا، وعند الوصول للفحم في باطن الأرض يبدؤون الحفر بشكل عرضي لإظهار الفحم، ثم يقومون بتثبيت طبقات الأرض المحفورة بجذوع الأشجار، ويضيئون هذه الآبار بالشموع التي تمتص الأكسجين، مما يزيد من الخطر على حياتهم.
كما قد يحدث أثناء العمل انهيار في طبقات الأرض، أو تنفجر المياه الجوفية، بالإضافة إلى إصابة العمال بالأمراض التنفسية العديدة، وأخطرها مرض السحار السيليسي أو السيليكوزيس (Silicosis)، وهو مرض رئوي سببه استنشاق جسيمات غبار ثنائي أكسيد السيليكون وغازات أخرى تؤدي إلى التهابات حادة بالرئة.
ولذلك يطالب السكان بتوفير بدائل اقتصادية حقيقية تمكّنهم من مناصب شغل تضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة، وتغنيهم عن العمل في المناجم المميتة، وكذلك يطالبون بإعفائهم من أداء فواتير الماء والكهرباء، وتحسين ظروف التعليم والصحة بجرادة والقرى المجاورة لها، خاصة أن جرادة تتذيل الترتيب على مستوى جهة الشرق وأيضًا على المستوى الوطني، ويوجد بها أفقر جماعة في المغرب «جماعة الدغمانية»، وبسبب موت عمال المناجم في سن مبكرة بين ـ40 وـ45 سنة، يوجد في المنطقة أكبر عدد من الأرامل.

الحكومة تكرر خطأ «حراك الريف» مع «جرادة»
ينضم حراك «جرادة» إلى مجموع الحراكات التي تشهدها المغرب، وتتبع معه الحكومة المغربية الأسلوب المعتاد نفسه من استهداف لزعماء الحراك باعتقالهم ومتابعتهم قضائيًا، وإصدار قرارات بمنع التظاهر.

ويعد انتهاج القمع الحكومي ومنع التظاهر واللجوء إلى الاعتقال، وتغليب الهاجس الأمني في التعامل مع الأوضاع في جرادة بمثابة تمهيد لاعتماد المقاربة الأمنية التي اعتمدت عند التعاطي مع حراك الريف المغربي، فحسب المراقبين المغاربة فإن ذلك دليل على فشل الحكومة في معالجة الأوضاع التي يمر بها المغرب، وهي أساليب لن تنجح إلا في توليد المزيد من الاحتقان الاجتماعي.
ويطالب الحقوقيون المغاربة باتخاذ إجراءات وتدابير تعمل على إحقاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بعد فتح حوار مع سكان جرادة، وبدء تنفيذ مطالبهم حسب ما هو منصوص عليه في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها المغرب.

يقول رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان «عبد الإله الخضري»: «لا توجد أيّ أسباب سياسية وراء الاحتجاج، وفاة الشقيقين في بئر الفحم أجّجت الوضع، فدرجة الاحتقان كانت مرتفعة للغاية في المدينة، ومنسوب الوعي بضرورة خلْق بدائل اقتصادية تنامى بين السكان»، ويضيف أن «منع التظاهر بمثابة «صبّ زيت على النار»، فالمراهنة على إخماد الاحتجاجات كهدف وحيد من شأنه أن يزيد من تعقيد الأوضاع».

أما منسق الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان «عبد الإله بن عبد السلام»، فيؤكد على أن المقاربة الأمنية لإخماد احتجاجات جرادة غير سليمة، لأنه لا يمكن أن تعالج تطلعات المواطنين بالإجهاز على عدد من الحقوق السياسية كالحق في التظاهر.

ويوضح «ابن عبد السلام» أن «هذه المقاربة تم اعتمادها مع الريف، وكانت النتيجة هي اعتقال المئات وعشرات المحاكمات التي لا تزال مستمرة أكبرها في الدار البيضاء وفيها 45 متهمًا، كما وصلت الأحكام إلى 20 سنة في الحسيمة»، ويتابع القول لـ«أصوات مغاربية»: «هذه المقاربة الأمنية لن تشكل إلا عنصرًا من عناصر زيادة التوتر بين السكان في عدد من المناطق، والمعالجة يجب أن تكون من خلال الاستماع لنبض الشارع أما اللجوء للقوة فسيرفع من وتيرة الاحتقان ويضع البلاد على بركان قابل للانفجار خصوصًا مع تردي الخدمات الاجتماعية والإجهاز على الحقوق والحريات وجمود الأجور وارتفاع الأسعار».

لا ثقة في قرارات الحكومة لحل الأزمة
قدمت الحكومة المغربية عدة خطوات لحل أزمة جرادة، أبرزها ما كان في يناير الماضي، حين قدمت لجنة وزارية برنامجًا يشمل مجموعة من التدابير الآنية، كالإعلان عن خلق نحو ألف منصب، منها 300 لصالح عمال استخراج الفحم، وكذلك إطلاق أشغال توسعة اقتصادية لاحتضان بعض الوحدات الإنتاجية التي ستوفر نحو 1500 منصب شغل إضافي، كما أعلنت الحكومة عن تسجيل النساء الراغبات في العمل بحقول توت الأرض بالجنوب الإسباني، وقررت أن تلتحق 541 امرأة بهذه الحقول في مطلع أبريل (نيسان) المقبل.
أما رئيس الحكومة المغربية، «سعد الدين العثماني»، فقد أعلن في 10 فبراير hلماضي عن برنامج تنموي، يقضى بسحب فوري لجميع رخص استغلال الآبار غير القانونية، وفتح المجال أمام استثمار قانوني للمعادن في المنطقة، وخلق منطقة صناعية توفر فرصًا للشباب، وتمكين الفلاحين، خاصة الشباب، من استغلال 3 آلاف هكتار، وقال «العثماني» إن: «الأشغال بدأت في المنطقة الصناعية بجرادة، وستوفر للشباب إمكانية إقامة مشاريع صغرى ومتوسطة، عبر تشجيعهم وتوفير العقار المناسب لهم».

وتهدف خطة الحكومة للاستجابة للانتظارات العاجلة لسكان جرادة، ونقل عن والي جهة الشرق التي تضم إقليم جرادة قوله إن «الخطة تتضمن حلولًا آنية وعاجلة لمشاكل المنطقة، وتشمل وضع حد للاستغلال العشوائي للمناجم، مع تحسين ظروف العمل، وتوفير شروط السلامة والتأمين، كما تشمل الخطة مشروعات من شأنها توفير فرص عمل، بينها إنشاء محطة حرارية خامسة بجرادة، ومنح أولوية التوظيف لقاطني المنطقة، من دون تحديد موعد بدء تنفيذ تلك الخطة».

ومع هذه الخطط المتلاحقة، يقرأ المراقبون في تجدّد الاحتجاجات بجرادة دليلًا على فشل الحكومة المغربية في احتواء هذا الحراك، حيث يفقد سكان المنطقة الثقة في قرارات الحكومة كنتاج لتجربة الوعود المتكررة التي لم تر النور قط، و يطالب المحتجون بجدولة زمنية واضحة لتنفيذ المشاريع المقترحة.

ولذلك لا يبدو الوضع مرشحًا للتراجع في جرادة إلى حين لمس أثر الوعود الحكومية من قبل السكان، كما دعا الحقوقيون المغاربة الحكومة للتعامل مع الوضع من خلال السعي لكسب شرعية الإنجاز، بالشروع الفعلي في تنفيذ المشاريع المبرمجة، تعاطيًا واجبًا مع الحراكات الاجتماعية في جرادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى