في عيد الأم: أمّهات في أقبية الموت وأطفال في ظلمة التيه
مارس شهر حافل بالمناسبات التي تعلي من شأن المرأة، كلّ امرأة لها من هذا الشهر نصيب من التكريم والتقدير، فيوم المرأة العالمي، وعيد الأم يجتمعان في هذا الشهر.
لم يختلف عيد الأم يوماً في سوريا عن أيّ عيد آخر، فالعائلات تجتمع لتحتفل بالأمهات، ينزلون إلى الأسواق لشراء الهدايا، يزيّنون بيوتهم ويفرحون، في أجواء عائلية رائعة.
أمّهات لا عيد لهنّ
اليوم، هناك أمّهات يجب ألّا ننساهنّ من التهنئة، بل جدير بنا أن نقدّم لهنّ آيات الاعتذار، وباقات الانحناء أمام عظمتهن. اليوم لدينا نوع جديد من الأمهات، ليسوا أمّهات الأسرى والمعتقلين العظيمات، ولسن الأمّهات المهاجرات، أو من يعيش أبناؤهنّ بعيداً عنهن، لسن أمّهات الشهداء، في آذار 2018 بالذات علينا في عيد المرأة وعيد الأمّ أن نوجّه رسائل الاعتذار لأمهات ونساء الأقبية.
نعم، أمهات تقبعن في أقبية المباني، بل أنجبن أطفالهنّ واكتسبن لقب أم في تلك الأقبية، أمّهات حين يولد طفلهنّ يولد في عتمة القبو، على أصوات القصف وصراخ الخوف ورائحة الموت.
أمّهات الأقبية لا يزلن، منذ شهر شباط الماضي، في غرف مظلمة تحت الأرض، يتلقين في ذلك القبو نبأ استشهاد أبنائهنّ أو أزواجهنّ أو آبائهن، أمّهات لا يستطعن الاحتفال بأمومتهنّ، حتى وإن كانت أجمل ما حصل لهنّ في ذلك القبو المظلم.
منذ أيام نشر طبيب من الغوطة الشرقية على صفحته في فيس بوك، صورة لأطفال خدّج، وكتب فوقها اليوم فقط استقبلت عشرين حالة ولادة، وتلك الحالات هي القيصرية أو الخطرة، لأنّ الأمهات اللواتي يلدن ولادة طبيعية لا يخرجن من القبو؛ بل يلدن داخل القبو، دون أن ينتظرن طبيباً يساعدهنّ في لادتهنّ، فضحايا القصف والبراميل أشدّ حجة للمستشفيات وكوادرها.
القبو القبر..
القبو ذلك المكان المعتم الخالي من كلّ أساسيات الحياة، أربعة جدران تضمّ أعداداً تكاد لا تستوعبها من النّساء والأطفال، مع ذلك أدركت الأمّهات والنّساء في ذلك المكان، أنّ على الحياة أن تستمرّ، وأنّ ما يجري معهنّ الآن ربّما يتجاوز الظرف المؤقّت، وأنّ عليهنّ ترتيب تلك “الحياة” الجديدة.
ناشطات حقوقيات هنّ أيضاً من ضمن أمّهات الأقبية، يتحدّثن عن فظاعة الحياة هناك، ويستغربن تغييب المشهد الإنسانيّ فيها عن العالم، تلخّص إحدى نساء الغوطة، من دوما، معاناة السكان بالقول: “ننزل إلى هذا القبر (في إشارة إلى الملجأ الذي تختبئ فيه) نقبر أنفسنا قبل أن نموت.”
وتقول امرأة أخرى من ملجأ تحت الأرض في دوما، يتجمع حولها عدد من الأطفال في غرفة مظلمة: “لا نجرؤ على الخروج، لا نجرؤ على الصعود من هذا الملجأ، الوضع مأساوي جداً؛ الطيران من فوقنا والقذائف من حولنا (…) أين نذهب بأطفالنا”؟!
في تسجيل صوتي، بثته ناشطة حقوقية من الغوطة، قالت فيه: “هناك العديد من النساء الحوامل والمرضعات في القبو، النساء الحوامل تعبن من التفكير بالولادة، خاصة النساء الحوامل في شهرهنّ التاسع، للأسف أطفالهنّ سيولدون في القبو، كلّنا نعرف أنّ الطفل يخرج من ظلمة بطن أمّه إلى النور، إلا أطفال الغوطة سيخرجون من ظلمة إلى ظلمة أكبر، أمّا بالنسبة إلى النساء المرضعات سينشف حليبهنّ إذا استمرت هذه المذبحة، سينشف الحليب من هول القصف وشدّة الجوع”. ناشطة أخرى موجودة في الملجأ “القبو” في الغوطة، تكتب على صفحتها في فيسبوك تفاصيل “الحياة” في ذلك الملجأ، لتوثق ما يجري، كتبت في إحدى مدوّناتها “شباك صغير”: “السماء بعيدة عنا كثيراً، وتصعب رؤيتها، بعيدة عن المايكروسوفون والمروحية، نشرتنا الجوية مليئة بالبراميل والصواريخ، نسمع أصواتها لأول مرة، نضحك لقصص لا تُضحِك، نتذكر مواقف جميلة مررنا بها، نضحك ونبكي ونخاف، وتعود أعيننا إلى ذلك الشباك، يدخل الهواء منه إلينا، وحين يشتد القصف يدخل علينا الأذى منه، غبار وتراب وشظايا، يمرّ عليّ الوقت وأنا عيني على ذلك الشباك، وأطفال كثيرون حوليي تتسمّر أعينهم عليه، طفل عمره أربعة أعوام كلّ قليل يقرأ الدعاء نفسه بطريقة طفولية، “اللهم اكفنا الهم”.
مايا طفلة أخرى، وكأنّ لسانها حفظ سؤالاً واحداً، تكرره عشرات المرات: ماما… أنتِ بتحبيني؟!
أمّا قصي فكبر قبل الأوان، يعيش الخوف ويرفض أن يعبّر.. نظام جبار يريد أن يتغلب على الأطفال بكل قوته
شباك صغير مخبَّأ على طرف الرصيف بالشارع، كثيرون مرّوا من أمامه ولم يخطر لهم أن ينظروا إليه، “يا خوفي نصير متل هالشباك، تمر الناس من جنبنا وما تشوفنا”.
أسئلة يردّدها سكّان الملاجئ هناك، لكلّ ناشط أو إعلامي: هل يصل صوتنا إلى الخارج؟ هل من أحد يتحرّك لأجلنا؟ وغيرها من أسئلة تبحث عن أمل كاذب في إجابات يعرفونها حقّ المعرفة.
فهل تحتفل أمّهات الأقبية بعيدهنّ، بالأصحّ هل تتذكّر تلك الأمهات أنّ اليوم هو عيدهنّ؟!
سلمى عمر كاتبة سورية