رأي/ كرونيك
منافحة عن فكرة التقدم: عن مغزى اليسار والوعي العلمي
وسام سعادة كاتب لبناني
اذا كان لليسار من معنى في عالم اليوم فبالضبط من جهة المزاوجة بين الانتماء الحاسم لمرتكزات عصر التنوير وبين الالتزام الحيوي بقضايا العدالة الاجتماعية.
عدالة اجتماعية من دون مرتكزات تنوير هي يمين. وتنوير من دون عدالة اجتماعية هو يمين.
بطبيعة الحال، ليس بديهيا تعريف ماهية التنوير ومرتكزاته، ناهيك عن الوقوف على مضامين العدالة الاجتماعية.
التنوير يرتبط بموقف فلسفي ينظر الى هذا العالم الذي نحن فيه على انه عالم له قوام، له حيثية، قابل لأن تُعقَل أشياؤه بالحواس، والتجربة، وإعمال العقل، وبأن المتعة والفائدة من تشغيل المرء لعقله ليس بعدها متعة ولا فائدة، وبأن تشغيل المرء لعقله، وعدم الخوف من ملكات هذا العقل ومتاهات هو المدخل الأساسي للحرية، وأن هذا العقل كوني وفردي في الوقت عينه، وأن الكونية تتقدم في فهم قوام العالم وحرية الانسان فيه على كل خصوصية، وأن لا أهلية للخصوصية الا كأحد أشكال انطواءات او تفتحات الكونية.
ليس معنى هذا أن ثمّة من التنوير صنفا واحدا، والأولى مراجعة هذا الضرب الصلف المتشاوف منه الذي يفترض أنه كلما تقدم المعلوم تراجع المجهول. قلما تكون الحال كذلك. التنوير معني برسم حدود منهجية بين المعلوم والمجهول، بين الحضور والغيب، وليس باستعمار الغيب نفسه باسم العلم. هنا بالذات كان التنوير يصاب بالسعار وينقلب الى نقيضه.
الأولى ان يفرز كل معلوم جديد مجهول جديد، وان يبقى المستقبل أكثر مجهولية من أي شيء آخر، وان لا تجري المكابرة على حيرة هذا الانسان «المقذوف» على هذه الكرة الارضية، لا أحد يسأل عنه في الكواكب المجاورة، أو يراسله من المجرات الأخرى. التنوير، وتراكم المعلوم، لا يمكنهما فض مشكلة «توحد» الانسان في العالم، ولا الاستهتار بمقام الموت وما يفرضه على الأحياء في كل لحظة.
مع هذا، التنوير يعني التدرب، بعين الحس والتجربة والعقل وبمعين الكونية على تبديد التوجس والوسواس والرهاب من المجهول، وعلى ما تخبئه لنا الأيام الآتية، وليس زعم معرفة الى اين تسير اليه الأمور في المستقبل، الفردي او الجماعي. لا يعني هذا التقليل من أهمية استشراف المسارات وتخيل الى أين يمكن ان نمضي غدا وبعد غد. بالعكس تماماً. الاستشراف للمستقبل ودوام تخيله مطلوبان بحرية أكبر، واطمئنان صميم الى ان قوامية العالم، وكونية العقل، والتماهي التام بين حرية الانسان وكونه انسانا، هي امور لا تخضع لبازار مستقبلي بأي شكل كان. فحتى لو اشتد خطاب الخصوصية، او ازدهر ازدراء العقل الفردي – الكوني، او بُحث للانسانية عن معنى غير ذلك الذي يجعلها صنو الحرية، فهذا لا يفترض ان يلغي عند المرتكزين على التركة التنويرية الاساسية التي تتكثف في هذا الشعور، بأن تشغيل المرء لعقله، بلا خوف وبلا وجل، فيه متعة وفائدة غير محدودتين.
يترادف هذا مع الالتزام الدائم بفكرة التقدم. جرت المساجلة ضد هذه الفكرة من مروحة واسعة من المفكرين المحافظين، مثلما جرت المساجلة ضدها باسم الحرية من على يسارها، باعتبار أسطورة التقدم مسؤولة عن التنكب بسرديات «الحتمية التاريخية»، وكل ما يساهم في تغذية الشمولية، والتضحية بالفرد من أجل تقدم المجموع، والتضحية بالجيل الحالي من أجل حصاد نتائج التقدم في الجيل التالي، وجرت المساجلة ضد التقدم باعتبار التواطؤ بينه كفكرة وبين نظرة يستعر فيها الصراع بين البشر والطبيعة، فيتحول تحرر البشر من جور الطبيعة الى استبداد بها وقتل للحياة والتنوع الحيوي على قشرة كوكب الارض، وبما يهدد مصير الانسان نفسه.
التنوير يرتبط بموقف فلسفي ينظر الى هذا العالم الذي نحن فيه على انه عالم له قوام، له حيثية، قابل لأن تُعقَل أشياؤه بالحواس، والتجربة، وإعمال العقل، وبأن المتعة والفائدة من تشغيل المرء لعقله ليس بعدها متعة ولا فائدة