الرئسيةدابا tvرأي/ كرونيك

أناقة الموت وعبثية حياةٍ لا تستحق حتى.. اسمها! +فيديو وصور

يقول لك ولد صغير: "لقد تعودنا "عمُّو" على هذا الصوت المرعب الذي يُحدثه طيران العدو"، ويضيف باستخفاف: "إنّه خرق لجدار صوت.. ليس أكثر".

توراني
بقلم عبدالرحيم التوراني

تشعر كأن هذا الصغير يحاول أن يُطمئنك ويُهدّئ من روعك، فيما المفترض أن تكون أنت المبادر لطمأنته، أليس هو الأصغر منك سناً ومن دون تجربة؟ يسألك بجديَّةٍ لعله انتقاها من جديَّةِ معلمه في المدرسة: – هل يصدمك الصوت؟ هل يخيفك إلى هذا الحد.. عمُّو؟ لا تجد أمامك إلا أن تربت على كتف الصغير بلطف وبود، تمرر راحة يدك على شعر رأسه الحليق، ثم ترسل إليه ابتسامة راعشة.

واضح أنك لم تستسغ أن يجرؤ طفل دون الخامسة عشرة من العمر على خدش كبريائك.. طبعاً، عليك استعادة هيبة ووقار الكبار بالرد على هذا التجاسر. من دون أن ينتطر إجابتك المرتبكة، يُخبرك الولد وهو يشير بيمناه إلى سماء ملبدة بالغبار والأدخنة: – يكاد لا يمر نهار من دون حدوث خرق لسمائنا. ومثل خبير عسكري متقاعد، يعتدل الصغير في وقفته ليشرح لك كيف أن دوي “خرق جدار الصوت” الواحد قد يضرب مرتين متتاليتين، الأولى، لا بد أن تليها مباشرة الثانية.. في ما يشبه رجع الصدى.. إن الخرق يشبه صوت الرعد أو أكثر قليلاً، وأيضاً لا يختلف عن صوت انفجار.

تتأمل في بنيته الضئيلة وهيأته الشاحبة، وفي كلماته المبحوحة وأسلوبه الأكبر من سنوات عمره الطري.

هذا طفل يشبه باقي أطفال العالم.. ولا يشبههم في الآن نفسه. وهو يمسك بين يديه النحيلتين كرة أخذت لونها من التراب، وزاغ شكلها قليلاً عن استدارتها العادية.. وهو مثل باقي الأطفال يهوى التسلي بلعب كرة القدم.

وربما يحلم أن يصير نجماً من نجوم الملاعب. لهذا يلبس “تي شيرت” نصف كم، رسم عليه رقم (7)، وبالأحرف اللاتينية كتب اسم “رونالدو”. “تي شيرت” أصفر يعود لنادٍ اسمه “النصر” (من أشهر أندية الدور السعودي).

تحاول أن تسحب الولد وتقيله من عسكريته المتقمصة، لتعود به إلى براءة طفولة تغتصب. تجامله: – واضح أنك من محبي اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو؟ يُجيبك على الفور أنه من مشجعي “ريال مدريد” الاسباني.

ها قد نجحتَ في استدراجه إلى الكلام بعيداً عن حديث الحرب.. تدفعه لاستظهار معرفته الكروية، تستفهمه عن متابعته لما حققه منتخب المغرب في “كأس العالم” الأخيرة.. على الفور يستعرض عليك أسماء أشهر اللاعبين المغاربة الذي شاركوا في المونديال. ويخص إعجابه أكثر للحارس ياسين بونو وللاعبين أشرف حكيمي وحكيم زياش. ومثل من أدرك مراوغتك له بتغيير اتجاه سير الدردشة، يُفهمك من دون كلام أن الحديث في الكرة ليس وقته الآن.. ليعود إلى الأجواء غير العادية المخيمة على بلده والمنطقة.

يقول لك مدارياً ابتسامة خجلى، ودون أن يتخلى عن خبرة العسكري المتقاعد: – صوت الضربة الصاروخية مختلف عن خرق جدار الصوت.

صوت الضربة الصاروخية لا يشبه الدوي الناتج عن “خرق جدار الصوت”. إنك تستطيع إدراك هذا من شرارة الضوء التي ترافق أحياناً الخرق.. شرارة مثل البرق.. شرارة تخلفها قنبلة مضيئة تلقى للتغطية ولحماية الطائرة المعتدية من الإسقاط.. ويُردف سائلاً: أفهمت الآن.. عَمُّو؟ – لكن من أين جئت بكل هذه الخبرة يا ولدي؟ يتهلل وجهه البريء بالابتسامة الخجلى ذاتها، ليقول إنه يعرف لوحده. ثم يستدرك: – ومن والدي أيضاً.. من الكبار، من التلفزيونات. تضحك أنت، ويضحك الصغير معك. – فهمتُ يا عمُّو؟ تشعر كأنك بصدد الشروع في نكء جراح واستحلاب آلام ظننتها انطمرت بين تلافيف الذاكرة.. فتودعه وتتركه لكرته المتربة، يدحرجها فوق الأسفلت والتراب، في انتظار التحاق أقرانه من أبناء الجيران.

نعم، فهمت وأفهم يا ولدي، لكني لست بقادر الآن على امتلاك ما يسمونه “الفهم والإدراك الصحيح”.. ولا ما هي اللغة السديدة التي يُمكن أن تساعد في أن يستوعب المرء حقيقة ما يجري وما يحصل أمام ناظريه وخلف ظهره أو جانبيك.. “وسوى الروم خلف ظهرك روم/ فعلى أي جانبيك تميل” ! *** تُمسك بالريموت كنترول كسلاح جاهز وفي متناول اليد، تُشهره في وجه التلفزيون. وها أنت بكبسات خفيفة تتنقل ما بين محطات القنوات الفضائية، محطات تناسلت كالفطر، فتشابهت علينا تشابه الأبقار الفاقعة على قوم موسى. – الطيران الإسرائيلي يشن غارات على مناطق عدة في الضاحية الجنوبية.. ما أدى إلى اندلاع حرائق.. تحليق مكثف لطائرات الاستطلاع في سماء بيروت.. تدفق مئات الآلاف من النازحين إلى المدن والقرى المصنفة آمنة.. يطغى السواد المعتم على الشاشة المستطيلة ويغطي عينيك.. ليتقدم العدو على الحدود.. العدو اخترق الحدود.. العدو على الأبواب.. خلف النافذة.. جواسيسه تحت أسِرَّةِ الأرق.. إنه يخترق السماء.. يخترق الأرض.

يصبغ الشوارع بأوحال ممزوجة بالدماء.. وأينما حلّقت غاراته العدوانية يزرع الموت والدمار.. جحيم من الأهوال العصية على الوصف.. دماء الآلاف من الأبرياء تسفك ظلماً.. آليات القتل لا توفر صغيراً ولا كبيراً.

من عقود وفيروز لم تتوقف عن الغناء، تُخبر العالم من شعر جبران خليل جبران: “في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون مات أهلي وغمرت تلال بلادي الدموع والدماء”.. وكل مرة تذهب استغاثتها أدراج الرياح وجفاف الوديان، فالعالم عَدِم الروح ويتنفس بلا حياة.. وقرار الإبادة يحمل توقيع أكبر العواصم التي ترفع رايات الإنسانية والحضارة.. اعتصمت بحبل الوحدة، ولن يفصلها فارق حتى تنهي مهمتها في توحيد صراخ وآهات والآلام الشعبين الفلسطيني واللبناني، وتجتهد في أن تصنع منها معزوفة تنزف بقيامة سابقة لأوانها التي لا ريب فيها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى