الرئسيةرأي/ كرونيك

حركة لن تموت..”انتفاضة 20 فبراير” في المغرب.. نار تحت الجلد!

رغم أن هذه المقالة مر على نشرها حوالي 4 سنوات، نشرت بالضبط في 20 فبراير 2021، لكاتبها الصحافي والكاتب، عبدالرحيم التوراني، فإنه وبالاطلاع على مضامينها يظهر وكأنها كتبت اليوم، وبعد استشارة مع كاتبها، قررت ّدابا بريس” إعادة نشرها في الذرى 14 لميلاد حركة 20 فبراير، وذلك لكل غاية مفيدة…

توراني
بقلم عبدالرحيم التوراني

بحلول 20 فبراير 2021، تكون قد مضت عشر سنوات على هبّة “الربيع العربي” في المغرب، المعروفة باسم “انتفاضة 20 فبراير”. وهي مناسبة للتساؤل عن أسباب عدم اكتمال الحلم والفشل في تحقيق الآمال بالديمقراطية والحرية الموعودة، التي أتت بها الانتفاضة في غمرة الثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية.

 

معلوم أن فتيل الاحتجاجات الشعبية العربية انطلق من تونس، يذكيه غضب ساطع ضد البطالة والتهميش والفساد والاستبداد. لقد “أرادت” الشعوب الحياة والحرية، لكن هل استجاب لها القدر لما “أرادت”، كما أنبأنا الشاعر التونسي العظيم أبو القاسم الشابي؟

ما تبين هو أن الصورة كانت مضللة حين نظر إليها الجميع، وكأن الشعوب العربية تحرّرت من عقدة الخوف، وأنها بالتكاثف الجماهيري والقبضات المرفوعة والهتافات الثورية، قادرة على التغيير لتحقيق الديمقراطية وإصلاح النظام السياسي.

لكن النتائج أتت متفاوتة، بل إن بعضها صبغ بفوضى وعنف، تلاه قمع شديد أسفر عن نزاعات دامية في بعض البلدان. هكذا تشظى الحلم ليسود الشعور بالإحباط، ويتحول “الربيع العربي” إلى خريف بائس، وسراب.

لم يدم الترقب طويلا في المغرب، عندما تمت الدعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي للالتحاق بركب “ثورات الربيع العربي”، وبعد أقل من أسبوع من الثورة المصرية، وأكثر من شهر على انتصار الثورة التونسية، في 20 فبراير 2011 انتفضت أبرز المدن المغربية.

وعلى مدى أشهر اقتربت من العام توالت الاحتجاجات المنظمة مستقطبة فئات مختلفة من المجتمع بكل الجهات، حررت الفضاء العام ورفعت مطالب جذرية بالتغيير.

صعود وتراجع

تحت شعار “ديمقراطية الدولة والمجتمع” جاءت الدعوة للنزول إلى الشارع من لدن شبان أغلبهم غير منتمين سياسيا، لكن ميولات بعضهم قريبة من التيارات اليسارية والحركات الإسلامية.

وشملت المطالب السياسية للحركة الفصل بين الثروة والسلطة، واستقلال القضاء وحرية الإعلام والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة واحترام حقوق الإنسان، وإقامة ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. كما غلبت السمة المدنية والسلمية على الاحتجاج، إذ لم تحدث أعمال تخريب للممتلكات العامة. كان المشاركون بالآلاف ومن مشارب فكرية وسياسية وإيديولوجية متعددة، إسلاميون وعلمانيون وحقوقيون ومستقلون، انخرطوا في تنسيقيات للحركة بمدن وجهات البلاد، وتوحدوا تحت لافتات محاربة الاستبداد والمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

وسرعان ما التف حول الحركة أعضاء من أحزاب اليسار، فاليسار مبدئيا هو أب الحركة الحقوقية في المغرب، والمطالب التي رفعتها الحركة هي مطالب اليسار التاريخية. فحصل تشكيل مجلس وطني لدعم ومساندة “حركة 20 فبراير”، ضم شخصيات يسارية وحقوقية معروفة، ثم فتحت مقرات حزب اليسار الاشتراكي الموحد، والمركزية العمالية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، أمام التنسيقيات المحلية للحركة. كان واضحا الجهد الاستقطابي صوب شباب الانتفاضة.

لكن بعد قرار انسحاب التنظيم الإسلامي المعارض “جماعة العدل والإحسان” (غير المرخص لها)، تراجع عدد المشاركين في المظاهرات وضعفت الحركة، وإن لم يخفت وهجها السياسي، وقوة مطالبها المتصلة بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وتصور الناس أن الحكومة تستجيب للشباب وتخطط لإشراكهم في حوارات تخص الأوضاع. لكن الاستخبارات لم تتوان في تسخير متعاونين من النشطاء لاختراق الحركة. لتكون النتيجة هي انسحاب نسبة كبيرة من شباب الحركة بعد وعود النظام بالإصلاح، وتوجس كثيرون من حصول انزلاقات دامية مماثلة لما حصل في سوريا واليمن وليبيا. وانخرط عدد آخر في الأحزاب القائمة، مثل “اليسار الاشتراكي الموحد”، وانتسبت ثلة إلى حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه مستشار الملك. وتم إسكات باحثين عن حلول فردية بتوظيفهم وحل مشاكلهم المادية. ووجد آخرون أنفسهم متابعين أمام المحاكم. في حين اختار ملاحقون من الأجهزة الأمنية اللجوء إلى فرنسا وبلجيكا واسبانيا والولايات المتحدة الأميركية. بعد فترة اعتقل أحد وجوه الحركة ممن سلطت عليهم أضواء الإعلام (أسامة الخليفي) بتهم المثلية والعربدة. في حين أن الإسلامي المنشق عن “العدل والإحسان”، سعيد بن جبلي، من رموز “20 فبراير”، هاجر إلى أميركا، وأصيب لاحقا بمرض نفسي، جعله يخرج على الناس عبر اليوتيوب مدعيا النبوة.

معتقلون وأحكام قاسية

في البداية حصل ما يشبه الارتباك لدى أجهزة الدولة، يتفشى ذلك في التسامح الذي أبدته مع احتلال الفضاء العام والجهر بشعارات ومطالب لم تجرؤ عليها المعارضة، ومنها توجيه مطلب “ارحل” لعدد من الشخصيات في النظام والمعروفة بتحكمها في دواليب السياسة والاقتصاد. بعد حوالي أسبوعين سيجيئ خطاب الملك في 9 مارس، ويحظى بتفاعل واسع، على أساس أنه استجابة حكيمة لمطالب الشباب.

لكن المسيرات الاحتجاجية لم تتوقف، وتصاعدت وتيرة الاعتداء على حرية التظاهر السلمي لحركة 20 فبراير، كما حصل في مدن الدار البيضاء ووزان وطنجة وتطوان والرباط ومكناس والجديدة وأسفي والحسيمة. ما أدى إلى احتدام الوضع واعتقال المتظاهرين وتقديمهم إلى القضاء والحكم عليهم بأحكام وصفت بـ”الانتقامية والمبالغ فيها”. وندد الائتلاف المغربي لمنظمات حقوق الإنسان بالأحكام الصادرة، وقالت “هيومن رايتس ووتش” بأنها أحكام “لم تكن عادلة”. وارتفع عدد معتقلي الحركة، أكثر من 2000 ناشط – حسب منظمات حقوقية – ليطلق سراح أغلبهم ويحتفظ بالعشرات لمحاكمتهم بتهم التظاهر غير المرخص، أو الاعتداء على موظف عمومي، أو الاتجار في المخدرات. واتضح أن الهدف هو الإجهاز التام على “حركة 20 فبراير”.

الموت حرقا ودهسا

لن ننسى شهداء “حركة 20 فبراير”. ففي مدينة “سوق السبت أولاد النمة” (وسط البلاد)، أقدمت الشابة فدوى العروي على إحراق نفسها أمام مقر السلطة احتجاجا على إقصائها من لوائح الحصول على سكن لائق. وكان سبب الإقصاء كونها أم عازبة لا أب لطفلها الصغير. وسمتها الصحافة “شهيدة الحق في السكن”.

وفي بني بوعياش (شمال المغرب) خلال “مسيرات 20 فبراير”، قتل الشاب كمال الحساني، الناشط في الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين، وتوفي الشاب محمد بودروة بعد تدخل أمني لتفريق اعتصام كان يقوده في جمعية للمعطلين بمدينة آسفي (غرب المغرب). وفارق الحياة أيضا الشاب كمال العماري بعد تدخل أمني استهدف مسيرة لـ”حركة 20 فبراير” في مدينة آسفي (جنوب الرباط)، والشاب كريم الشايب في نفس الظروف خلال مشاركته في مسيرة للحركة بمدينة صفرو (وسط البلاد).

وكان الشبان عماد القاضي وجواد بنقدور وجمال السالمي وسمير البوعزاوي ونبيل جعفر، ماتوا حرقا يوم 20 فبراير 2011 داخل وكالة بنكية بمدينة الحسيمة (شمال البلاد). كما صرحت عائلاتهم، إلا أن السلطات اتهمت الضحايا بمحاولة نهب الوكالة، ورفضت إطلاع الرأي العام على تسجيلات الكاميرات لكشف الحقيقة. ليضاف ضحايا “حركة 20 فبراير” إلى ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سنوات الرصاص، في مشهد مدان عنوانه: “غياب الحقيقة والإفلات من العقاب”.

بين الدستور الممنوح والعرفي

كان للإصلاحات التي جاء بها خطاب الملك محمد السادس بعد أسبوعين من 20 فبراير، أثر في تنفيس الضغط. وهمّتْ الإصلاحات إعلان دستور جديد وإجراء انتخابات جديدة. ورغم مؤاخذات “حركة 20 فبراير” والمعارضة الراديكالية على المشروع الدستوري الممنوح، ودعوتها لمقاطعة التصويت عليه، فقد اكتشف أن الأمر لم يكن سوى مناورة سياسية، فالدستور الجديد رغم ما يؤاخذ عليه، يبقى متقدما على نصوص مماثلة في المنطقة. لكن معارضيه سيفاجؤون بأنه لا يطبق، وأن تفعيله وإجراءاته أكثر من بطيئة، ويتطلب تنزيله أكثر من عشرين قانونا تنتظر التشريع، ما ترك المجال للنظام بالاستمرار في نهج ما سمي بـ”الدستور العرفي” الذي يعني الحكم المطلق. حسب المعارض البارز المحامي عبد الرحمان بنعمرو.

ربح دستور 2011 الاستفتاء، وفاز حزب العدالة والتنمية الإسلامي بالانتخابات، ليشكل الحكومة لأول مرة في تاريخ المغرب، وسمحت الانتخابات الموالية في 2016 للإسلاميين بولاية ثانية على رأس الحكومة. إذ هم من جنوا ظلما ثمار “الربيع المغربي”.

في سنة 2016 ستتجدد الانتفاضات في شمال المغرب بمدينة الحسيمة، بعد مقتل الشاب محسن فكري، الذي قضى في مشهد مأساوي سجلته كاميرات الهواتف، في حاوية أزبال رمت فيها القوات الأمنية أسماكه التي كان يبيعها ليعيل أسرته. ليندلع إثرها “حراك الريف”، وهو الحراك الذي حوصرت فيه المنطقة عسكريا، واستمر حوالي ستة أشهر من الاحتجاجات السلمية ذات المطالب الاجتماعية البحتة، لكن السلطات قررت إنهاءه قمعيا باعتقال قادة الحراك والحكم عليهم بأحكام قاسية بلغت عشرون سنة.

لم يتوقف احتجاج الشارع المغربي، واستمر رصيف مبنى البرلمان منصة يومية للتظاهر، تؤمها أعداد من المحتجين من مختلف أنحاء البلاد، من بينهم قدماء الجنود المحاربين في الصحراء، الذين اعتصموا أشهرا حول محيط البرلمان احتجاجا على معاشاتهم الضئيلة التي لا تكفي لسد الرمق.

وعرفت أيضا مقرات المحافظات والسلطة احتجاجات ضد غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، وضد ناهبي المال العام، وضد استمرار الاعتقال السياسي والإفلات من العقاب. وانضمت أعداد كبيرة لحملات المقاطعة الاقتصادية، مثل حملة المقاطعة التي طالت شركة الماء المعدني “سيدي علي”، وشركة “دانون سنترال” للحليب ومشتقاته، وشركة المحروقات “أفريقيا غاز”.

بعدما ظن البعض أن حركة “20 فبراير” انتهت، انطلقت الاحتجاجات الشعبية في مناطق نائية ظلت لعقود تعاني من الإقصاء والتهميش، مثل مدينتي جرادة و ورزازات، فلجأت الدولة إلى القمع والعقاب والاعتقال والمحاكمات الصورية وإصدار الأحكام القاسية في حق النشطاء، ضمن رسائل واضحة ومشفرة للردع والترهيب.

أمام هذا المشهد المحتقن، اعترف الملك، بمناسبة الذكرى العشرين لجلوسه على العرش (30 يوليوز 2019) بفشل النموذج التنموي الذي نهجته البلاد منذ الاستقلال، مشيرا إلى أنه لا يواكب “الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين”. ونصب لجنة لإعداد تصور نموذج تنموي جديد. وقد عطلت الجائحة إعلان النموذج المنتظر. لكن آلية القمع لم تتوقف ولم تهدأ، بمتابعة عدد من المدونين والصحفيين المستقلين والمعروفين بانتقاداتهم للنظام، (توفيق بوعشرين وحميد المهداوي وعمر الراضي وسليمان الريسوني)، وزاد عنف السلطة بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية في مستهل مارس 2020، ولم تتردد السلطات مؤخرا، في سجن أكاديمي بتهم غير مقنعة (الدكتور المعطي منجب)..

حركة لن تموت!

خارج التنظيمات والأحزاب التقليدية، التي وصفها المعتقل ناصر الزفزافي قائد حراك الريف بـ”الدكاكين السياسية” وينعتها المواطنون بـ”الانتهازية وبكونها فاقدة للصلة مع الواقع”، أصبح الشارع يمتلك قدرات ذاتية عبر وسائط الاتصال الرقمي، تعكس مستوى الوعي السياسي لدى المواطنين، وتساهم في الإعلام الشعبي، وتمكن من التعبئة الجماهيرية للتعبير عن عدم الرضا المتزايد ضد السياسات العامة. وصارت مطالب “حركة 20 فبراير” مرجعية للحركات الاحتجاجية العديدة التي نشأت في السنوات الأخيرة بنفس الشعارات والأهداف.

بعد عقد من الأعوام، لا تبدو “الحركة” اليوم مثل حدث تاريخي عابر وبعيد، مرَّ وانطفأ. فالأسباب التي انبثقت من صلبها الحركة لا زالت شاخصة من غير جواب، خصوصا مع فقدان الأحزاب السياسية لمصداقيتها وضعف خطابها. ما يؤشر الآن إلى تفاقم الاحتقان الاجتماعي، وما يحيل إلى عودة سنوات الرصاص في عهد الراحل الحسن الثاني، بل يشي باحتمالات مقاطعة واسعة للانتخابات المقبلة، بعدم المشاركة في الانتخابات المقررة هذه السنة، إن لم يتم تأجيلها كما يروج.

وحسب الشاعر المغربي أحمد بنميمون تطل الحركة مثل “نار تحت الجلد”. فليست فاجعة طنجة قبل أسبوع، التي أزهقت فيها أرواح أكثر من 28 عاملة غرقا في قبو معمل غير قانوني للمنسوجات، وقبلها في 2017، سقوط أكثر من 15 امرأة وإصابة عدد آخر منهن، أثناء تدافعهن من أجل كيس دقيق في منطقة سيدي بوعلام بنواحي مدينة الصويرة (جنوب المغرب). في نشاط إحساني لتنظيم دعوي إسلامي، وغيرها من الفواجع التي تكاد تكون دورية، إلا دليلا على أن واقع القهر والفساد وغياب تطبيق القانون يستهدف أرواح الضعفاء المقهورين من الفئات الشعبية، وبأن ما خرج من أجله شباب “20 فبراير”، لم يكن مجرد صدى لما جرى في بلدان “الربيع العربي”.

في هذا الصدد تقول سناء. م. من نشطاء “20 فبراير” إن “حركة 20 فبراير” لم تكن أبدا مجرد سحابة صيف، وبأن الأمل راسخ في استعادة الحركة لزخمها الشعبي ولتوهجها المنير، خصوصا مع السخط الشعبي العارم لسياسة النظام التي يتولى تصريفها اليوم الإسلاميون”.

وتضيف سناء: “إن من يبحثون عن نموذج تنموي بديل عليهم الرجوع إلى بيانات “حركة 20 فبراير”، فالحل هو الديمقراطية، ولا شيء غير الديمقراطية”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى