
يعد شهر رمضان في تركيا أكثر من مجرد فترة من الامتناع عن الطعام والشراب، إنه حدث اجتماعي وروحي غني بالطقوس والتقاليد التي ترسخت عبر الأجيال، ورغم التغيرات التي طرأت على الحياة اليومية في البلاد، بقيت العديد من العادات العثمانية محفوظة، بل وتحولت إلى جزء لا يتجزأ من هوية المجتمع التركي، حيث يشهد هذا الشهر، الذي يلقب بـ “سلطان الشهور”، تلاحمًا بين الأصالة العثمانية والمتغيرات الحديثة التي يفرضها العصر.
وتؤكد مشاهد الطقوس العثمانية في تركيا الحرص المجتمعي والدعم الحكومي الذي ترسخّ بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل 23 عاماً، ومن مظاهره التمسّك بخصوصية “الخلافة الإسلامية”، والتفرّد بعادات اندثرت حتى في دول إسلامية أخرى.
وتظهر هذه الخصوصية في استمرار الفعّاليات الثقافية من الموسيقى الصوفية ورقصة المولوية، وتزيين الجوامع بـ”المحيا”، وفتح دورات لختم القرآن والاعتكاف، إلى جانب تنظيم المعارض الفنية تكرّس البعد الروحي لرمضان، كما يعكس الاهتمام الكبير بالضيافة وتقديم الطعام للزوار والفقراء، وهي قيم يفتخر بها الأتراك.
في ذات السياق، تتمسك تركيا بخصوصية “الخلافة الإسلامية” في شهر رمضان ولا تزال طقوس شهر رمضان تحظى بـ”حياء وتقدير”، ولا مجاهرة في تناول الإفطار في الشوارع علماً أن المطاعم تضع ستائر لحجب رؤية من في داخلها خلال ساعات الصيام، كما لم تزل عائلات في القرى خصوصاً تحافظ على طقوس العثمانيين عبر تعطير البيت بالبخور وتزيينها، ورشّ ماء الورد على عتبات المنازل طوال أيام رمضان، وحتى تكليف الجدات بإعداد أول سحور.
وتشير اغلب عادات الأتراك إلى دفء وحميمية خصوصا العادات التي توارثها الأتراك عن العثمانيين، ولم تزل تمارس حتى اليوم، مثل ما يسمى “حق الملح” الذي يكافئ المرأة ويعترف بجميلها خلال رمضان وقيمة تعب في الطبخ وإعداد الموائد وتنظيم أمور المنزل خلال أيام الشهر. وتختصر هذه العادة في استقبال المرأة زوجها عند عودته من صلاة العيد، وهي في أحسن زينتها بعد أن تكون قد نظفت البيت ورتبته، وفي يدها طبق حلويات وفنجان قهوة، ويشرب الزوج قهوته، لكنه لا يعيد لها الفنجان فارغاً، بل فيه قطعة حلي من ذهب.
كما و قدّر الأتراك عادات رمضان المتوارثة، مثل الإفطار الجماعي، سواء الذي تنظمه البلديات أو رجال أعمال، أو حتى ذلك الذي يقيمه بعض سكان المنطقة، سواء في الساحات العامة أو المساجد بهدف خلق أجواء من المودة والتآلف،كما “تستمر بعض العادات، منها المسحراتي رغم أن وسائل الاستيقاظ تطوّرت عبر منبهات الأجهزة الخليوية مثلاً، لكن طقس المسحراتي يبقى في جميع ولايات تركيا، وهو يضرب على الطبل وينشد أغاني دينية، كما أن تزيين المنازل بأشرطة مضاءة وفوانيس وزخارف رمضانية لا يزال مستمراً في بعض الولايات والريف، في حين تراجع في المدن الكبرى”.
ويلفت إلى أنه “مهما تراجعت العادات يبقى رمضان في تركيا شهر الخير والتسامح، وقد تبدلت طرق العمل الخيري، وباتت جمعيات توزع المساعدات والطعام أو حتى تبييض دفاتر بعض الصيدليات ومحلات البقالة” و تتمثل هذه العادة في حرق دفتر الديون أو تمزيق صفحات منه من دون كشف اسم فاعل الخير، إضافة إلى الأعطية أو ما يسمى يسمى أجرة أسنان المدعوين الذين لبوا الدعوة وأكسبوا صاحبها الثواب”،وهي إعطاء مدعوين من الأغنياء أكياساً مخملية فيها مسابح كهرمان وخواتم فضة و تتضمن نقودا ايضا للفقراء.
من جهة أخرى، تزخر المائدة التركية بالمأكولات مستمرة منذ الإمبراطورية العثمانية، وفي مقدمها خبز رمضان “البيدا”، وحساء العدس بالجزر والبطاطا، أو شوربة الطماطم، و”المانتي” الذي يشبه طبق شيش برك في المنطقة العربية، وطبق رئيسي من لحوم كفتة داوود أو الكباب أو “إسكندر باشا”.
وللحلويات التركية حصة يومية في موائد رمضان، مثل المهلبية بالقطايف والكلاج بالقشطة والبسبوسة بالقشطة، لكن في مقدمة حلويات رمضان البقلاوة والكنافة التي يقدمها الأتراك إلى جانب الشاي التي لا تغيب كأسه عن يد الأتراك طوال ليالي رمضان.
في النهاية، رغم مظاهر الحداثة التي طرأت على المجتمع التركي، يظل رمضان مناسبة خاصة تجمع بين البعد الروحي والهوية الثقافية، في توليفة نادرة تعكس موروثًا عثمانيًا لا يزال حاضرًا بقوة، ليؤكد أن الشهر الكريم في تركيا ليس مجرد صيام، بل تجربة مجتمعية متكاملة تتداخل فيها القيم، والعادات، والتقاليد، في لوحة نابضة بالحياة والدفء الإنساني.
في النهاية، رغم مظاهر الحداثة التي طرأت على المجتمع التركي، يظل رمضان مناسبة خاصة تجمع بين البعد الروحي والهوية الثقافية، في توليفة نادرة تعكس موروثًا عثمانيًا لا يزال حاضرًا بقوة، ليؤكد أن الشهر الكريم في تركيا ليس مجرد صيام، بل تجربة مجتمعية متكاملة تتداخل فيها القيم، والعادات، والتقاليد، في لوحة نابضة بالحياة والدفء الإنساني.