
تشهد الأسواق المالية العالمية تحولات جوهرية تعيد رسم خريطة القوة الاقتصادية والنقدية، ويبدو أن الدولار الأميركي، الذي لطالما هيمن على الاقتصاد العالمي كعملة احتياط أولى وملاذ آمن للمستثمرين، بدأ يفقد بريقه في أعين القوى الصاعدة وعلى رأسها الصين، فقد رصد “دويتشه بنك”، أحد أعرق المصارف الأوروبية، توجهاً متسارعاً بين المستثمرين الصينيين نحو تقليص استثماراتهم في سندات الخزانة الأميركية، مفضلين توجيه رؤوس أموالهم نحو أدوات الدين الأوروبية.
هذا التحول لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الجيوسياسي والاقتصادي المتشابك الذي يميز العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التصعيد التجاري الذي قاده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
تمثلت السياسات الحمائية في فرض رسوم جمركية شاملة على الواردات الصينية، قبل أن يتم تعليقها جزئياً، ما خلق مناخاً من التوتر وعدم اليقين، و دفع المستثمرين الصينيين إلى مراجعة استراتيجياتهم الاستثمارية والخروج التدريجي من الأصول المقومة بالدولار، التي فقدت جزءاً كبيراً من جاذبيتها كملاذٍ آمن.
فيما أكدت ليليان تاو، رئيسة قطاع مبيعات اقتصاد الصين الكلي والأسواق الناشئة العالمية في دويتشه بنك، أن الحصة المخصصة للدولار في المحافظ الاستثمارية الصينية قد تراجعت بشكل ملحوظ، مقابل ارتفاع الاهتمام بالأصول المقومة بعملات أخرى. وأشارت إلى أن السندات الأوروبية ذات التصنيف الائتماني المرتفع، والسندات الحكومية اليابانية، وحتى الذهب، أصبحت بدائل مطروحة بقوة على طاولة المستثمرين الصينيين في الأسواق الخارجية.
تمثل هذه الخطوة إعادة تموضع استراتيجية تعكس ليس فقط تغيّراً في منطق العائد والمخاطر، بل أيضاً إعادة تقييم للثقة في السياسات الأميركية.
ومع تصاعد وتيرة الهروب من الدولار، أصبحت الصين، ثاني أكبر مستثمر أجنبي في سندات الخزانة الأميركية، تحت مجهر الأسواق العالمية، وبينما يربط بعض المحللين بين هذا التوجه والانخفاضات التي شهدها سوق السندات الأميركية مؤخراً، رفض وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت أي مزاعم عن قيام حكومات أجنبية ببيع مكثف لهذه السندات، في محاولة لطمأنة الأسواق.
ورغم أن ارتفاع العائدات على سندات الخزانة الأميركية، نتيجة الموجة الأخيرة من البيع، قد يبدو مغرياً من الناحية النظرية، إلا أن الغموض المحيط بسياسات إدارة ترامب الاقتصادية والتجارية خلق بيئة يصعب التنبؤ بها، ما جعل المستثمر الصيني أكثر حذراً، وفي ظل هذه التقلبات، بدأ كثير من المستثمرين الصينيين يتجهون نحو أسواق لم تكن ضمن أولوياتهم سابقاً، مثل ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، التي باتت توفر فرصاً استثمارية أكثر استقراراً نسبياً.
تزامن هذا التحول مع تحسن النظرة المستقبلية للأسواق الأوروبية، مدعوماً بقرارات قوية كإقرار ألمانيا لحزمة إنفاق تاريخية، وفتح الباب أمام المزيد من تخفيضات أسعار الفائدة من طرف البنك المركزي الأوروبي. هذا الزخم أعاد إلى الواجهة جاذبية السوق الأوروبية، التي باتت تُعتبر اليوم أكثر قابلية للاستثمار من قبل الصناديق الصينية الكبرى.
يبرز التحليل العميق لهذا التحول أن ما يحدث ليس مجرد رد فعل على إجراءات اقتصادية ظرفية، بل مؤشر على بداية تغير موازين القوى المالية العالمية، فإذا ما واصلت الصين هذا النهج، وسحبت مزيداً من استثماراتها من السوق الأميركية، فإن ذلك قد يترك أثراً عميقاً على مكانة الدولار كعملة احتياط أولى، ويُسهم في إعادة تشكيل النظام النقدي العالمي، ببطء ولكن بثبات.