الرئسيةسياسة

الهدر المدرسي بالمغرب: أرقام صادمة ووعود فارغة

تحرير: جيهان مشكور

تواجه المنظومة التعليمية في المغرب أزمة عميقة تزداد سوءاً عاماً بعد عام، فكل سنة، يغادر حوالي 280 ألف تلميذ مقاعد الدراسة، منهم 160 ألف في مرحلة الإعدادي، ما يعكس واقعاً مريراً يهدد مستقبل الشباب المغربي.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات باردة، بل هي بمثابة جرس إنذار يفضح الفشل الكبير الذي تعاني منه المدارس في توفير تعليم حقيقي وملائم للطلاب،وفي ظل هذا الواقع المرير، تبدو الوعود الحكومية بحلول جذرية مجرد مساعٍ فارغة، إذ تقتصر على محاولات غير مجدية لتغطية عجز النظام التعليمي، دون أن تؤدي إلى أي تغيير فعلي أو ملموس.

في هذا السياق، أعلن وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، محمد سعد برادة في تصريح متأخر، عن نية الدولة تقليص هذا الرقم إلى النصف في أفق سنة 2026.

لكن هل تكفي النوايا؟ وهل تكفي مسكنات من قبيل “مدارس الفرصة الثانية” لإصلاح منظومة تبدو وكأنها تُنتج الإقصاء بدل التعليم؟

الخطاب الرسمي يزف “حلولاً” تبدو في ظاهرها طموحة، مثل إدماج التلاميذ المنقطعين في التكوين المهني أو الأنشطة الفنية والموسيقية، لكن الواقع الميداني يؤكد أن هذه المبادرات غالباً ما تظل حبيسة المخططات المركزية ولا تجد طريقها إلى التنفيذ الفعلي، خاصة في المناطق النائية وحتى ان عُبِّد الطريق لتنفيذها ،يبقى السؤال: هل ستساهم هذه الحلول في تغيير واقع التعليم المغربي المريض؟ أم أن هذه البرامج ستكون مجرد مسكنات مؤقتة تهدف إلى تهدئة الرأي العام دون معالجة الجذور الحقيقية للمشكلة؟

ففي الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون عن إحداث مسارات بديلة مثل “مدارس الفرصة الثانية” لتوجيه التلاميذ المتعثرين نحو التكوين المهني، تطفو إلى السطح مفارقة من العيار التقيل و تكمن في كون برامج الدعم الحكومية التي تركز على توجيه التلاميذ إلى مجالات مهنية، “مدارس الفرصة الثانية” هي حل غير واقعي في مجتمع يعاني من بطالة مزمنة وفقر مستشري، فمثل هذه البرامج لا توفر حلاً حقيقياً لتشغيل هؤلاء التلاميذ بل تسهم في تخريج دفعات جديدة من الشباب الذين لا يملكون سوى مهارات سطحية لن تساعدهم في ظل سوق عمل مشبع بالأزمات.

من جهة أخرى يطل برنامج “إعداديات الريادة” الذي يفترض به تقديم دعم بيداغوجي وأنشطة موازية، و الذي لا يغيّر شيئاً من واقع الاكتظاظ داخل الأقسام، أو غياب الأطر التربوية المؤهلة، أو الانفصال العميق بين المناهج التعليمية وحاجيات المتعلمين.. إنه تجميل لوجه مدرسة منهكة، تسير بخطى متثاقلة في بيئة لا تحتضن المتعلمين بل تدفعهم دفعاً نحو الهروب،
الأنشطة التي تتحدث عنها الوزارة، من موسيقى ومسرح ورياضة، ليست سوى ترف نظري في مؤسسات يفتقر كثير منها حتى للكراسي والإنارة.

المعالجة النفسية التي تعد بها الوزارة عبر خلايا للتتبع النفسي والتربوي تبدو بعيدة عن الواقع، خاصة في ظل غياب أخصائيين تربويين ونفسيين في معظم المؤسسات، وما يُبنى على منصة “مسار” من بيانات، غالباً ما يبقى أداة للرقابة الإدارية أكثر منه وسيلة تدخل إنساني فعال، فالخلل في العمق لا في التفاصيل، والمقاربة الرقمية لن تحل أزمات ناتجة عن الإهمال الاجتماعي والسياسات الترقيعية.

و من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الفجوة الكبيرة التي تفصل بين المدينة والقرية…. ففي القرى والمناطق الجبلية، تستمر مأساة أخرى: تلاميذ يقطعون الكيلومترات مشياً للوصول إلى مدارس لا يتوفر فيها الحد الأدنى من مقومات العيش والتعلم، مشاريع النقل المدرسي ودور الإيواء والمطاعم ليست سوى وعود تُكرر في كل موسم دراسي دون أثر فعلي على الأرض، وفوق ذلك، تظل الأسر الفقيرة مضطرة لمقاطعة تعليم أبنائها لتوجيههم نحو العمل أو الزواج المبكر، هرباً من كلفة تعليم لا يضمن أي مستقبل.

الرقم الذي تتعهد به الحكومة – تقليص عدد المنقطعين إلى 200 ألف بحلول 2026 – لا يمثل إنجازاً بقدر ما يعكس اعترافاً ضمنياً بفشل المنظومة. فأن يظل مئات الآلاف من الأطفال خارج المدرسة، في القرن الحادي والعشرين، وفي دولة تدّعي أنها تراهن على الرأسمال البشري، ليس سوى دليل على أن التعليم لم يعد أولوية، بل مجرد واجهة تُستخدم لتجميل السياسات العامة أمام المؤسسات الدولية والمانحين.

منظومة التعليم في المغرب لم تعد فقط تعاني، بل تنزف. وكل مؤشرات الهدر المدرسي، مهما غلّفت بلغة الأرقام وخطط الإصلاح، ليست سوى أعراض لمرض بنيوي أعمق: غياب الإرادة الحقيقية في إنقاذ المدرسة العمومية، وإعادة الاعتبار لدورها كمصعد اجتماعي، لا كمصيدة زمنية تبتلع سنوات الطفولة ثم تلفظ أصحابها خارج أسوار الأمل.

إن المعركة ضد الهدر المدرسي في المغرب لا يمكن أن تنتهي بتقليص الأرقام أو ببرامج سطحية، ما يحتاجه التعليم المغربي هو إصلاح جذري يبدأ من مستوى المنهج الدراسي مروراً بتأهيل المعلمين وتوفير البنية التحتية الضرورية، أما إذا استمر الوضع كما هو عليه، فسيظل هذا الهدر المدرسي مجرد نتيجة طبيعية لفشل النظام التربوي في توفير تعليم حقيقي للأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى