في جبال أزيلال الشاهقة، حيث تنتهي الطرق وتبدأ الرحمة، وُلدت مأساة جديدة بطريقة مغربية خالصة: مأساة لا يكفي أنها حدثت، بل وجب أيضاً محاكمة من كشفها.
هناك حيث تنتهي خرائط التنمية وتبدأ فصول البؤس المتوارث، حيث لا تصل الطرق المعبدة، ولا تسمع نداءات المخاض إلا الجبال، اضطُر سكان دوار تكوخت، في جماعة أيت تمليل، إلى ابتكار وسيلة “نقل إسعافي” من وحي الواقع: نعش.. نعم، نعش، ولكن هذه المرة ليس لنقل الموتى، بل لإنقاذ الحياة.. نعش حمل سيدة باغتها المخاض، وطريق مقطوعة بسبب الأشغال(هذه المرة بسبب الأشغال و قد تعددت المرات…)، وسيارة إسعاف تنتظر في دوار مجاور، لكن لا وسيلة للوصل سوى أكتاف الجيران ونعش الأموات، امتدت مسيرة لساعتين، عبر طريق جبلية وعرة، حمل فيها الرجال سيدة على وشك الولادة فوق لوح خشبي مخصص للمغادرة الأبدية.
مقاطع فيديو تنتشر كالنار في الهشيم
فيديو الواقعة انتشر كالنار في هشيم الوطن الرقمي، وانفجرت مواقع التواصل الاجتماعي بصور لا تليق ببلد يتحدث في دستور 2011 عن العدالة الاجتماعية و المجالية والكرامة الإنسانية.
لكن، وكما يحدث غالباً في المغرب العميق، لم تستفز الفضيحة أحداً من المسؤولين عن الصحة أو البنية التحتية أو حتى وزارة “اللحاق بالركب التنموي”، بل تحركت السلطة في اتجاه مغاير تماماً: معاقبة من فضح، لا من تسبب.
هكذا، وبدون كثير من العناء، أدانت المحكمة الابتدائية بأزيلال أربعة أشخاص، لا لأنهم تهاونوا في أداء واجبهم، ولا لأنهم سرقوا ميزانية الطرق أو تهربوا من مسؤولية الصحة العمومية، بل لأنهم… نشروا فيديو يوثق الحادث.
نعم، حُوكموا بتهمة “بث وتوزيع ادعاءات ووقائع كاذبة للمس بالحياة الخاصة والتشهير”، استناداً إلى الفصل 447 من القانون الجنائي، في مشهد قانوني سريالي يعجز كافكا نفسه عن تخيله.
لأنهم مواطنون أزعجوا اللامبالاة أدينو
الحكم: شهر حبسا موقوف التنفيذ وغرامة 500 درهم لكل واحد منهم، مع تصفية الكفالة وتحميلهم الصائر، كل هذا، لأن أحدهم” فقط واحد من الأربعة” كان فعلياً في عين المكان، أما الآخرون، فقد أدينوا بناء على ما التقطته هواتفهم، التي خضعت لخبرة تقنية دقيقة، كأننا أمام شبكة دولية لزعزعة استقرار البلاد، لا مجرد مواطنين أزعجوا سكون اللامبالاة.
في مفارقة لاذعة، تحوّل النعش من وسيلة إنقاذ إلى أداة إدانة، وتحول المكلومون إلى متهمين، أما الدولة، التي عجزت عن مد طريق أو توفير سيارة إسعاف تقطع مسافة عشر دقائق، فكانت حاضرة بكل آلياتها القضائية لإسكات من التقط صورة للمأساة.
والسؤال الفاضح هنا: هل كان من الأفضل ترك السيدة تموت بصمت؟ أم أن الفضيحة تصبح جريمة فقط حين تخرج للعلن؟ وهل صار واجب المواطن، في مغرب 2025، أن يضع يده على عينيه وأخرى على فمه كلما صادف مأساة، خشية أن يُتابَع بتهمة التشهير؟
ما حدث يعكس ما يعيشه المغرب العميق
ما حدث في أيت تمليل http://بين إقليمي بني ملال ومراكش ليس حادثاً معزولاً، بل هو مرآة لما يعيشه المغرب العميق، ذاك المغرب الذي لا يظهر في نشرات الثامنة، ولا في تقارير التنمية، ولا في الحملات الانتخابية التي تنتهي عند أسفلت المدينة.
هناك، حيث الطرق ترابية والحياة معجونة بالصبر، تنمو كرامة الناس في صمت، ويصبح الألم جزءاً من الروتين اليومي.
لكن حين يُجرّم من يحاول إيصال صرخة هذا الألم إلى العالم، فإننا لا نحاكم فقط الأفراد، بل نحاكم الحقيقة نفسها.
فهل تُحاكم الحقيقة؟
في هذازالسياق، اعتبرت زينب العلمي، مستشارة قانونية وحقوقية، أن “الفصل 447 الذي استندت إليه المحكمة يهدف أساسًا لحماية الحياة الخاصة للأفراد، لكن ما حدث هنا هو تجريم لكشف واقع مؤلم وليس افتراءً، الفيديو لم يُفبرك، بل عرّى واقعًا تنموياً مترديًا، فمحاكمة من وثقوا المشهد، بدل من تسببوا فيه، هو قمع ناعم للحقيقة”.
فيما علق المحامي محمد الفاسي، المتخصص في قضايا الحريات العامة، أن “استعمال الخبرة التقنية على هواتف المتهمين في غيابهم عن مسرح الواقعة يثير تساؤلات حول طريقة إثبات الجريمة، لو طُبّق هذا المنطق على الجميع، لما بقي ناشط أو صحفي خارج السجن، هذه محاكمة سياسية بلبوس قانوني”.
أما الناشط الحقوقي عبد الرحيم مولاي، من المنطقة نفسها، فقال بأسى: “نحن في أزيلال نعيش العزلة كل يوم، ونحمل المرضى على الأكتاف كما نحمل أوجاعنا في صمت، الفيديو لم يكن هجومًا على أحد، بل صرخة استغاثة. وبدل أن يسمعونا، حاكمونا”.
في النهاية، قد ينجح القانون في إسكات هاتف، أو حذف فيديو، أو تغريم شاب يحمل النعش بدل السيارة، لكنه لن ينجح أبداً في طمس الخزي الذي تركه هذا المشهد في ضمير أمة.