في مشهد يعيد إلى الواجهة واقع الصحة النفسية بالمغرب، اهتز مستشفى الأمراض العقلية بإنزكان، نهاية الأسبوع المنصرم، على وقع حادث مأساوي أقدم خلاله نزيل ثلاثيني على الانتحار شنقًا داخل غرفته، في جناح يفترض أن يكون مخصصا للعلاج والرعاية.
الحادث الذي وثقته السلطات المحلية وأجهزة الأمن تحت إشراف النيابة العامة، ليس مجرد مأساة فردية، بل مؤشر صارخ على هشاشة البنية النفسية والحقوقية للمؤسسات المخصصة لاحتضان من يعانون من اضطرابات عقلية وسلوكية.
حين تتحول أماكن العلاج إلى ساحات إهمال
بحسب المعطيات الأولية، لم تكن هناك مؤشرات تدل على احتمال إقدام النزيل على الانتحار. لكنه في النهاية فعلها، بهدوء ويأس، وكأنه يعلن بصمته المدوي أن لا جدوى من البقاء في مؤسسة لا تصغي، ولا تؤمّن، ولا ترافق.
الأسئلة الحارقة التي يطرحها الحادث عديدة: كيف لموظفي المستشفى أن يغفلوا علامات الخطر؟ أين كانت الحراسة واليقظة النفسية؟ هل الجناح محصّن بما يكفي للوقاية من هذا النوع من المآسي؟ أم أن الأمر أعمق من الإهمال، وأقرب إلى سياسة ترك المرضى لمصيرهم؟
الصحة النفسية.. الهامش المنسي
الواقع أن الصحة النفسية ما زالت، في المغرب، تُدار بعقلية الخوف والوصم، لا بمنهج الوقاية والرعاية، وتبقى الميزانيات المخصصة لها ضئيلة مقارنة بالحاجيات المتزايدة، في ظل تصاعد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
حيث وبلغة الأرقام، لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في المغرب 450 طبيبا، أي طبيب واحد لكل 100 ألف نسمة، وهي نسبة مخجلة أمام ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار وتعاطي المخدرات واضطرابات ما بعد الصدمة.
عزلة داخل العزلة
حادث الانتحار هذا لا يمكن قراءته فقط من زاوية الاضطراب النفسي، بل يجب وضعه في سياق أكبر من التهميش الاجتماعي، فالنزيل الذي أنهى حياته لم يكن يطلب فقط الدواء، بل كان يبحث، عن شيء من الكرامة والإنصات، المؤسسات النفسية اليوم، بدل أن تعالج “الجنون” كما يُوصف شعبيا تتحول في كثير من الأحيان إلى مراقد صامتة للإيداع القسري، بلا مواكبة، بلا أنسنة، وبلا أفق للعودة إلى المجتمع.
وبمنظور سوسيولوجي الانتحار اعتبر دوركايم في دراسته الكلاسيكية، الانتحار يرتبط بدرجة اندماج الفرد داخل النسيج الاجتماعي، إذ تزداد نسبته حين يضعف هذا الاندماج أو حين يفرض على الفرد ضغط قيمي يفوق قدرته على التكيف.
حيث في المجتمعات التي تتآكل فيها شبكات الدعم الاجتماعي، وتضعف فيها مؤسسات الحماية، يصبح الانتحار صرخة صامتة ضد العزلة، والتهميش، وانعدام الأفق، هو في النهاية، عرض لمرض اجتماعي أعمق، يعكس فشل السياسات العمومية في توفير بيئة حامية وآمنة نفسيا واقتصاديا، خاصة للفئات الأكثر هشاشة
أين الدولة من هذا كله؟
السياسات العمومية، بدلاً من أن تدمج الصحة النفسية في خطط الإنقاذ الاجتماعي، تُسقطها من الحساب. ففي كل خطاب حكومي عن الصحة، نادرا ما يُذكر المريض النفسي أو شروط تعافيه أو آليات حمايته من نفسه ومن الآخرين.
وما حادث مستشفى إنزكان إلا وجه من وجوه هذه السياسة، التي تكتفي بـ”التطبيب بالمهدئات”، وتهمل البعد الإنساني والنفسي والاجتماعي للتأهيل.
ما العمل؟
إذا كانت الدولة فعلا تعتبر أن “الإنسان هو رأسمالها الأكبر”، فإن أول خطوة هي الاعتراف بأن الصحة النفسية ليست ترفا، بل حاجة أساسية مثل الماء والكهرباء، وأن حياة النزيل في مستشفى للأمراض العقلية لا تقل قيمة عن أي مواطن سليم.
وللاشارة لابد من إعادة تأهيل البنيات التحتية النفسية، والتكوين المستمر للأطر الطبية، كذلك إدماج المقاربة النفسية في السياسات العمومية للتعليم، والتشغيل، والعدالة الاجتماعية، وخلق مراكز متابعة مجتمعية تُقرب الرعاية من البيوت بدل ترك المرضى في مؤسسات مغلقة، كأنهم خطيئة نخفيها خلف الأسوار.