الرئسيةرأي/ كرونيك

المجتمع المدني.. في البحث عن المعنى في زمن اللاَّمعنى والتحكم في المعنى

في إطار الندوة التي نظمها مركز فضاءات الشمال للتنمية والشراكة حول موضوع ” المجتمع المدني بالمغرب: التحديات والرهانات”،  الجمعة 5 يناير 2024 بمدينة المضيق، والتي حضرها الوزير السابق ورئيس الحوار الوطني حول المجتمع المدني بالمغرب،  إسماعيل العلوي، و عبد المالك اصريح، الفاعل المدني، و احمد الدحماني، الفاعل المدني والحقوقي، وكذلك عبد الرحيم شهيد، رئيس الفريق الاشتراكي، قدمت هذه الورقة تحت عنوان: “المجتمع المدني، في البحث عن المعنى في زمن اللاَّمعنى والتحكم في المعنى”، في محاولة لمقاربة أجوبة عن التحديات، القديم منها والجديد، التي على المجتمع المدني رفعها من أجل إيقاف الانحدار الذي يعرفه في مساره التحديثي الديمقراطي ببلادنا، وما هي الروافع التي بإمكانها إعطاء زخم جديد لديناميته حتى يلعب الدور المنوط به في قول “حقيقة” الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية والمؤسساتية بدون حسابات قد تكون شخصية أو فئوية، خدمة للعدالة والإنصاف المجتمعيين، وإيقافا لمسلسل فقدان الثقة الجماهيري في مؤسسات الدولة و المجتمع المدني بمعناه الشامل، وتجنيبا لبلادنا من مستقبل قد يكون مظلما، بكل جرأة ومسؤولية.

بقلم الناشطة حكيمة الناجي

 

من أجل ذلك كان لا بد من استحضار خصوصيات السياق العام الوطني والدولي الذي نعيشه اليوم لما له من تداعيات على أفكارنا أفرادا وجماعات، وعلى تصوراتنا للمستقبل لأن عناصر السياق تصبح ذاتها تحديات للعمل المدني عليه أن يعمل من أجل إيجاد الأجوبة المناسبة لها.

يمكن تلخيص آثار هذا السياق العام الذي نعيش فيه اليوم على الأفراد والشعوب، في حالة القلق والخوف وفقدان الثقة والعجز أمام أزمة مركبة غير مسبوقة. ولكنني أود التنبيه قبل كل شيء، أننا نجتمع اليوم ليس للتباكي عليها، فإن كان الأمر كذلك فلا داعي للاجتماع أصلا، لنحتسي قهوتنا في المقاهي وندردش ونروح لسبيلنا، ولكن مهمة المجتمع المدني الذي يحترم مهامه هو البحث “بالفتيلة والقنديل” كما يقول المغاربة عن الضوء والأمل للخروج مما نحن عليه، وهذه غاية هذه المساهمة المتواضعة.

من بين أهم هذه العناصر منها ما هو خاص بتجربتنا التاريخية ومنها ما نشترك فيه مع أمم أخرى وبالخصوص الإفريقية منها:

العنصر الأول- هناك تماهى عام مع تغول سلطة المخزن وبالمقابل هشاشة مؤسسات الدولة الأخرى، فلا نجاح يكتب إلا للسياسات التي تتولاها بشكل مباشر المؤسسة الملكية في السياسة الخارجية والأمنية، وباقي الفاعلين المؤسساتيين الآخرين مختبئون خلفها يرددون خطابا أصبح ممل ومنفر يجعل من المؤسسات مجرد موظفين منفذين، وليس مسؤولين سياسيين محاسبين أمام الشعب.

هذه القوة وهذه الهشاشة تتزامنان مع ضعف منظمات الوساطة وهزالها وبلقنتها. هذه ملاحظة موضوعية لا تحتاج لإعطاء أمثلة لأنها بطبيعة الحال وكيفما كانت الأسباب (هشاشة الديمقراطية-بلقنة المشهد الحزبي والنقابي والمدني-سيادة الفكر الوحيد فعليا وليس خطابا على المستوى السياسي والاقتصادي…)، فالمسؤولية نتحملها جميعا كل حسب موقعه ودوره بطبيعة الحال. معظم الأحزاب التي ندعوها سياسية، تحولت إلى ورشات للصباغة، ولكن هذا التمويه لم يعد ينطلي على أحد، فبقي الحزب، وغابت السياسة. وبالنسبة للمجتمع المدني، بقيت الجمعية واختفت المدنية بمضمونها السياسي؛ وبالنسبة للنقابة، بقيت النقابة وغادرت الشغيلة. ليس الوقت سانحا الآن للتفصيل في الأسباب والمسببات، ولكن الموضوع مطروح بحدة علينا اليوم كمجتمع مدني للمساهمة في تصحيح الأمر لأنه يشكل خطرا يهدد بلادنا مستقبلا؛

العنصر الثاني- نعيش نتائج التحولات العميقة التي تعرفها الحداثة التي ننتمي لها كمجتمع مدني، في بلدانها الأصلية، وتطالنا نحن أيضا مع كل التأخر الذي نعرفه في مسارها.

إذ انتقلت من حضارة العمل والتقدم إلى حضارة الاستهلاك والتسلية (جان بودريار Jean Baudrillard). وهو ما يجعل الطبقات المتوسطة، المكون الرئيسي للعمل المدني، تفقد أدوارها السياسية والثقافية التحديثية، لينفرد بها، أي هذه الطبقات، اقتصاد السوق ويحولها إلى أداة استهلاكية خدمة لنموذجه الإنتاجي (الحداثة الأداتية)، مع ما تعرفه السياسات الاجتماعية (التعليم، الصحة، السكن) من هشاشة وسوء الجودة، تحولت معه النخب المعول عليها في العمل المدني إلى كائنات تبحث عن تحسين دخلها وجودة حياتها كأولوية الأولويات، مستعملة العمل المدني في خدمة ذلك ولاستجلاب سلطة تعزز مكانة هذه النخب. إن الوقوف هاهنا على إشكالية النخب المدنية المغربية ليس الغرض منه جلدها وتخوينها، فهناك أسباب موضوعية وراء هذا مضافة لعوامل ذاتية، ولكن الغاية الأساسية هو الوعي بها وما تشكله من معيق اليوم للتقدم؛

العنصر الثالث- نتفرج في انبهار من تمكن التكنولوجيات السيبرانية من حيواتنا من حيث إنها أصبحت أكثر من مجرد تكنولوجيا، بل إنها تشكل بناءً لنظام جديد للرأسمالية النيوليبرالية، تدعوه شوشانا زوبوف برأسمالية المراقبة التي تعمل على أكبر عملية سطو على التجربة البشرية لاستعمالها قصد إحكام المراقبة على الإنسان، كما أنها سوف تعمق بشكل أسي كل أشكال الفجوات داخل القطر الواحد وبين الأقطار. إن هذا المعطى الجديد مع كل التقدمات السريعة التي يعرفها مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، تزداد أزمة الفضاء العام التي بدأت مع توسع وسائل الإعلام الجماهيرية بشكل غير مسبوق، وتتهدد الديمقراطية بالخصوص الهشة منها كحالتنا. إن عنصر السيبرانية ورأسمالية المراقبة يجب أن يأخذ على محمل الجد في النقاش والعمل المدنيين لأهميته ولما يشكله من خطورة على شعبنا وبلدنا، ليس فقط لأن الفضاء العام الذي لا نحيى إلا من خلاله يعرف تحولات جذرية وضربات موجعة منها فقدان استقلاليته وحريته اللتين تميزانه، والأنكى من هذا أنه مقبل على مزيد من التغيرات مع الخوارزميات التوليدية التي لا عهد لنا بها، ولكن وأيضا لأن يتهيأ الفاعل المدني لمقاومة ما قد يتعرض له المجتمع المغربي من استبداد في جيله 4.0؛

العنصر الرابع- لقد بدا جليا مع حرب الإبادة التي تقترفها الصهيونية النازية على الشعب الفلسطيني منذ الثامن من أكتوبر 2023، وقبل ذلك منذ أحداث شتنبر 2001 والحرب على العراق 2003، أن الشرعة الحقوقية الدولية ومؤسساتها تعرف درجة من الاستهتار بل والاحتقار لم تعد تقبلها الشعوب بما فيها الغربية. أصبحنا نعيش في أرض بدون قانون، غابة يحكمها الأقوياء. كما ان العلاقات الدولية أصبحت خلافا للسابق محكومة أكثر بالمصالح وليس بالأيديولوجيات ومتحولة بتحول هذه المصالح، وهو ما ينبئ كما يؤكد على ذلك الجميع، بتحولات سوف يعرفها النظام العالمي، والتي ستكون لها آثار على المجتمع المدني وعلى أدواره الوطنية والإقليمية والدولية؛

العنصر الخامس- لا نزال لا نعير المسألة البيئية الاهتمام الذي تستحقه في عملنا المدني على الرغم من تنامي الوعي بأن نمط استهلاك وإنتاج الإنسان الصناعي الذي لم يعد فقط أبيضا، بل التحقت به ألوان بشرية أخرى صاعدة، في استنزاف البيئة والمخاطر التي تهدد الجميع وبالخصوص الجزء الفقير من الأرض. بل لانزال نتعامل معها على أساس “خضرة فوق الطعام”. إن المسألة البيئية اليوم تشكل أساسا من الأسس الهامة في بناء السياسات العمومية لأي دولة لما لها من تأثير مباشر على الأمن الغذائي والمائي للشعوب. فهي مسألة سياسية ذات أولوية، كما أن الإنتاج الفكري لما بعد الإنسان الذي يشكل الأرضية الفلسفية للمسألة البيئية ولأجندة 2030 سوف ينعش العمل المدني ببلادنا ويمنحه أفقا أرحب. ولقد بدأنا نستشعر مخاطر التدبير السيء لها علينا جميعا، ولذلك فإن الاهتمام المدني بالمسألة البيئية لا يمكن أن يبقى حبيس الجمعيات المتخصصة، بل على المجتمع المدني الديمقراطي مسؤولية العمل من أجل إيقاف النزيف الذي يتعرض له الإنسان والبيئة؛

ثانيا- بحثا عن المعنى لابد من العودة إلى التذكير بمعنى المجتمع المدني: تاريخ مفهوم المجتمع المدني، تاريخ من الغموض والتحول في المعنى

لابد من التأكيد على المقصود بالمجتمع المدني، أو على الأقل كيف أفهمه انطلاقا من الأدبيات التي أنتجت حوله، من قيم محددة له، وغايات موكولة إليه، وبنيات تعمل من أجل القيام بدور الوساطة بين المجتمع والدولة. فالمقصود هاهنا الجمعيات التي تعمل من أجل بناء المجتمع المدني المتحضر. أؤكد على المتحضر وإن بدا في الأمر إطناب، لأن المجتمعات المتحضرة هي تلك التي تحتكم إلى القانون وليس إلى علاقات القوة، والمدنية هي تلك التي تتعاقد على هذه القوانين. فإذن الجمعيات التي تدافع عن هذا المجتمع هي مؤسسات عقلانية، وتحتاج في مهمتها هذه إلى الاستقلالية (عن الدولة، والأحزاب، السوق، والممولين)، والحرية، والابتكار. وقد ارتبط بمواضيع تتعلق بالتقدم والعقل والسلم (François RANGEON).

إن النقاش حول المجتمع المدني عبر التاريخ اكتسى دوما صبغة سياسية. وقد ترسخ مفهوم المجتمع المدني كمجتمع تنظمه تعاقدات، في القرن السابع عشر، بعدما كان يعني في بداية الأمر الدولة، أي كمقابل للحالة الطبيعية غير المنظمة للمجتمعات؛ ومنذ ذلك الحين وهو في يتغير من حيث الدلالة ليصبح نقيضا للدولة عندما أصبحت هذه الأخيرة تمثل السلطة والعنف.

وهو في التداول عندنا عبارة عن اختصار لعبارة “مؤسسات المجتمع المدني”، أي الجمعيات والمنظمات غير الحكومية المهتمة بالشأن العام الواردة في الدستور.

فمن وظائفه الأساسية نقد الدولة والمنظمات الفئوية وعدم الاصطفاف خلفها، بل من مسؤولياته التقدم إلى الأمام بالاجتهاد والابتكار وطرح القضايا الجديدة التي من شأنها التقدم بالبلاد والمجتمع. فليس عبثا ان يختفي المفهوم في الفكر النيولبرالي ويعوضوه بالسوق.

ثالثا- في البحث عن المعنى المدني المفقود في زمن التحكم في المعنى:

ألا نلاحظ أننا أصبحنا جميعا رأسماليين في أكثر نسخ الرأسمالية تشييئا للإنسان والبيئة؟ نعم تحول العقل المدني إلى مقاول مدني غاص في تفاصيل التدبير ونسي مهام التغيير السياسي/مهمته الأولى، ربما تعلقا ببعض القيم الليبرالية التي دعمت الرأسمالية في بداياتها، الحرية والمنافسة والاستحقاق وغيرها. لكن المشكلة أن العقل الرأسمالي لم يبق في مكانه، بل هرب بشكل مبالغ فيه نحو رأسمالية فجرت كل المعاني والدلالات قربانا للسوق ومهما كان الثمن بالنسبة لاستغلال الإنسان والبيئة، جاعلة منهما مجرد أدوات لتقدمها عوض أن يكونا هدفا لها. فالحرية والاستحقاق والمنافسة والتسامح، والمدينة، والدولة، كل شيء … أصبح في خدمة الرأسمال وحده، على حساب الإنسان والبيئة والدولة الوطنية التي أصبحت رأسمالية المراقبة تهددها وفي نفس الوقت شكلت عدة وعتادا لها خصوصا للأنظمة التوتاليتارية.

في هذا السياق الكوني والوطني فَقَدَ كل شيء معناه، الفضاء العام، والدولة الوطنية، والحزب والنقابة والديمقراطية والحداثة …واليسار واليمين، أصبح كل شيء فارغ المحتوى، باهت الدلالة. الجميع يروج لنفس الخطاب. التمكين، التداول، المشاركة المواطنة، المحاسبة…إلخ.

لم يشهد العالم هذه الدرجة من التطابق من قبل من حيث المواقف، الحماية الاجتماعية، ومحاربة الفقر وإصلاح التعليم وما إلى ذلك. لقد أصبح الكلام مجرد حقائب فارغة جراء تمكن الثقافة النيوليبرالية من طرق تفكيرنا.

إننا والحالة هذه، نعيش في زمن مِيزَتُه الرئيسية فقدان المعنى الذي يجعل كل عمل لا يبحث عن المعنى مجرد متاهة. لنسوق مثالا والأمثلة متعددة، برامج التمكين الاقتصادي للنساء الذي تتبناه كل مؤسسات التعاون الدولي والأمم المتحدة وكل المنظمات النسائية بدون استثناء.

يكفي أن ننظر إلى طبيعة النظام الرأسمالي النيوليبرالي ونسخته المنقحة رأسمالية المراقبة المستنزفة للتجربة البشرية في القرن الواحد والعشرين، فنجدها منظومة لا تمكن إلا أقل من 10 بالمائة، وتفقر أزيد من 70 بالمائة، وأن 10 بالمائة عبارة عن رجال، و70 بالمائة تتصدرهم النساء، السؤال المطروح هل يمكن لعاقل أن يثق في برامج التمكين الاقتصادي للنساء في ظل هذا النظام؟ إنها صخرة سيزيف.

وأسوق مثالا ثانيا على استنزاف المعنى، المشاركة المواطنة، ماذا تعني في سياقنا كمجتمع مغربي عربي مسلم متأخر في قضايا جوهرية كالتعليم والنساء؟ لا تعني شيئا على الإطلاق، ما عدا التهرب من المسؤولية السياسية للنخب التي تتقلد “سلطة الحكم”. لأن التعليم والنساء مسائل من صميم السياسة، وليس من مهام المشاركة المواطنة التي لا تتوفر شروطها التاريخية ببلادنا. نستفتي الناس عندما يتعلق الأمر بمشروع تنموي محلي له تداعيات مباشرة عليهم، لكننا مع الأسف في هذا الصنف من المشاريع لا نفعل قربانا للرأسمال، لنأخذ أي مشروع من المشاريع المعروفة، مشروع مدن بلا صفيح الاستئصالي للفقراء، هل استفتينا رأي المواطنات والمواطنين فيها؟ إطلاقا لم نفعل، لأن الغرض كان تعبئة العقار الذي أصبح نادرا في المدن الكبيرة والمتوسطة لتسليمها للرأسمال ورمي الفقراء إلى حواشي المدن دون توفير أدنى مرافق الخدمات الأساسية؛ و في منطقتنا مثلا، مشروع تهيئة وادي مارتيل، هل قمنا بالمشاركة المواطنة؟ وفي كل المشاريع الأخرى، تهيئة وادي بورقراق، مرشيكا…؟ والأمثلة تتعدد…حيث نحتاج للمشاركة المواطنة، لا نقوم بها، وحيث نحتاج للجرأة التاريخية نتهرب باستعمالها. فإذا كان هذا لا يعني فقدان المعنى تهربا من تحمل المسؤولية، فماذا يعني يا ترى؟ وهي الأسئلة نفسها تطرح على الديمقراطية التشاركية برمتها الموضوعة تحت سقف زجاجي يصبح المجتمع المدني غير قادر معه على تخطي ما ترسمه الدولة من حدود لها.

ومن جهة أخرى، نعيش زمن التحكم في تدفق المعنى جراء الخوارزميات المصممة للإدمان على الاستهلاك السيبراني، بغية السيطرة على الإنسان وسرقة خبرته الشخصية والعامة للمزيد من تطوير الذكاء الاصطناعي. الا نتعرض لأكبر سرقة للتجربة البشرية كما تقول بذلك شوشانا زوبوف؟

وثالثا، وعلى المستوى الوطني، يتعرض الشعب المغربي لأكبر عملية لجمع المعلومات باسم الدولة الاجتماعية وما يقتضيه من سجل اجتماعي موحد، للتحكم في المغاربة غدا. باسم الاجتماعي، تحضر الدولة المغربية لعملية مراقبة دقيقة لكل فرد فرد عبر اخذ بصمة القزحية/ بصمة العينEmpreinte ritinale/ Empreinte oculaire، وسوف تصبح مدننا كلها في المستقبل القريب مراقبة بالكاميرات باسم الأمن، فنتحول كلنا إلى مشاريع مجرمين. ما هو دور المجتمع المدني لإيقاف النموذج الصيني المعمم؟ إن هذه المسألة تحتاج منا لعمل ترافعي جديد مبني على تحالفات قوية وطنيا وجهويا ودوليا، لأن مشروع الرقابة يدخل في صميم مهام رأسمالية الرقابة المبنية على التكنولوجيات السيبرانية.

من الممكن أن تكون السيبرانية في خدمة الإنسان والبيئة، لكنها جاءت في سياق أبشع صور للرأسمالية، ولذلك بدون عمل مدني قوي مجدد وواع بالتحديات التي تطرحها في سياقنا، لا يمكنها إلا أن تكون ضدنا.
رابعا-انتقلنا إلى مجتمعات الأزمات، سوف لن نخرج من أزمة إلا لندخل أخرى، فما العمل لتطوير المناعة ضد هذه الأزمات واكتساب مهارات التكيف معها بالسرعة المطلوبة؟
فأي دور للمجتمع المدني في إعادة إعطاء المعنى للحياة المدنية؟ إن أهم معارك المجتمع المدني اليوم هي ركوب رحلة البحث عن المعنى للسياسة بالمعنى اللاتيني للكلمة أي بولتيكس، أي تدبير المدينة في زمن السيولة ( زيكمونت بومان) Zygmunt Bauman والانزلاقات.

رابعا-ما هو دورنا اليوم كمجتمع مدني؟

يدعو للقلق كون جمعيات المجتمع المدني:

1. غير مكترثة بمخاطر السيبرانية وتمكن رأسمالية الرقابة، على الديمقراطية وعلى الحريات؛

2. غير مدركة لتغول الدولة وخطر ذلك على المجتمع ومستقبل البلاد. لقد طبَّعنا مع الحواجز barrages في مداخل ومخارج مدننا، واليوم الجميع يفتش في وسائل النقل العمومي، والمستقبل سوف يكون مدنا يقال عنها ذكية، لكن ليس لها من الذكاء إلا مراقبة الناس؛

3. إن أحد أهم المعارك التي يجب خوضها في هذه المرحلة من أزمة الفعل السياسي هو العمل على ردم الهوة بين القرار الاقتصادي والرأي العام، أي أن تُناقشَ السياسة الاقتصادية في الفضاءات العامة حتى لا تبقى احتكارا تِقْنَويا خِبْراتيا في خدمة السوق والفْيُوداليين الجدد، وهو ما أبعد القضايا الاقتصادية الأساسية عن أي تأثير شعبي (سيدريك دوران).

4. مقاومة تسلل الخطاب النيوليبرالي إلى السياسة والثقافة التي أصبحت بدورها تقاس بمعايير المَاركِتِّين. إن المقاومة اليوم يجب أن تنصب ضد ما سمته وِيندي بْراون ب”الثورة” النيوليبرالية المتخفية التي استولت على كل شيء، للانتصار على تبضيع السياسة والاجتماع والثقافة والبيئة؛

(أسوق أمثلة على ذلك، حلت الحكامة كمجموعة تدابير تقنية محلَّ السياسة، ومعالجة المشاكل محل التداول من أجل العدالة والمصلحة العامة وهلم جرا.) ويقتضي ذلك الانتباه للغتنا وخطابنا لأن السلطة النيوليبرالية تتخفى خلفها. بمعنى آخر أول المقاومة تبدأ ببناء المعنى الجديد، باللغة الجديدة، لغةُ مقاومةِ النيوليبرالية. فخلف كل مفهوم ظاهِرُه “عادل” يَختبِئُ معنى نقيض له (فوكو). فالإِدماج يخفي الإقصاء المنهجي، والمشاركة المواطنة تخفي انعدام الجرأة في الإصلاح، والحكامة الجيدة تخفي قتل السياسة، وتقنين الإضراب يخفي قتل العلاقة الشغلية، الشراكة قطاع عام قطاع خاص / تنصل الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية، الساكنة قتل للشعب… وما شاكل ذلك كثير.)

لأجل ذلك، نحتاج إلى وقفة تقييمية للعمل المدني بعد مرور أزيد من عشر سنوات على دستور 2011، لإعادة النظر في تصوراتنا وطرق تنظيمنا و أولاوياتنا

1. من خصوصيات المجتمع المدني أنه يكون سباقا في طرح القضايا، ويكون سقفه مرتفعا من أجل إثراء النقاش لتعزيز الديمقراطية والحداثة خدمة للإنسان والبيئة، وألا يبقى تحت سقف الدولة. فكل ما يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق النساء وغيرها من قيم الحرية والاستقلالية خرجت من كنف المجتمع المدني الديمقراطي، فلا ننتظر من الدولة أن تكون مقدامة في الحقوق الجديدة التي تفرزها التحولات التي نعيشها اليوم، وعلى رأسها السيبرانية، ومجتمعات الأزمة، والبيئة.

(على سبيل المثال، كيف نجيب عن سؤال ذي أهمية كبرى بالنسبة للديمقراطية في زمن الرقمنة: كيف يجب أن نتعامل مع الديناميات الرقمية ذات الطبيعة السياسية الاجتماعية؟ هل نتركها صيحات في وادٍ على اعتبار أن نزاهتها مشكوك فيها، أم نتعامل معها بكل جدية ونَجلُبها للنقاش العام في الفضاءات العامة المتوفرة على شروط النقاش الحر النزيه على اعتبار أنها مطالب عادلة؟ هي أسئلة من ضمن أخرى تُطرَح علينا اليوم ولم يكن لنا بها سابق عهد، تحتاج منا للمجهود الفكري لحلها لضمان الاستقرار والعدالة والحرية في المجتمع والدولة الرقمية.)

2. العمل المدني ومؤسسات الديمقراطية التشاركية:

انطلاقا من تجربة 10 سنوات في المجلس الاقتصادي، يبدو لي، انطلاقا من تجربتنا المغربية، أن هناك تخمة من المجالس الوثيقة الدستورية، إذا ما فعلت كلها سوف تكون سلبياتها على المجتمع المدني أكثر من إيجابياتها. أعتقد أن لا حاجة لتجربتنا المغربية لمجلس للأسرة ولا للجمعيات ولا للشباب، بل ما نحتاجه هو تعزيز وتوسيع صلاحيات كل من المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان. لماذا؟ لأن من شأن تعدد المجالس أن يساهم في هدر المال العام، ويعطي انطباعا أننا نتمتع بالحرية في التعبير والديمقراطية في أوساط مغلقة غالبا ما يفقد الناس الثقة بها، ولا تساهم حقيقة في بناء الرأي العام لخصوصية طرق عملها، كما أنها تساهم في تشتت الطاقات البشرية التي تحتاجها الجمعيات، وتتكمم أفواه العديد من أعضائها ابتغاء للحفاظ على فتاتها…الخ. علاوة على أن بلادنا اليوم في الحاجة إلى فاعل وفاعلة مدنية ديمقراطية مستقلة بعيدة ما أمكن عن مراكز السلطة وليست في قطيعة تامة معها، لأن الدولة أصبحت تركز بشكل غير متوازن كل السلطات.

3. تغيير براديغم العمل المدني على أساس الجهوية: تقوية العمل المدني البيجهوي: لإعطاء دفعة جديدة للعمل المدني الديمقراطي، نحتاج لقلب طريقة التفكير والاشتغال. تحبل كل جهات المملكة الاثني عشر بإمكان مدني مهم للغاية وبخبرات قادرة على شحذ هذا الإمكان المدني واستدراره في حركة مدنية نزيهة جدية منخرطة في قضايا التقدم. مما سيمكن من توسيع مساحة العمل المدني الديمقراطي بالاقتراب ترابيا من المواطنات والمواطنين قصد تعزيز التنظيم الذاتي، عوض الاستمرار في سياسة المناولة، للعديد من فئات المجتمع التي لا تزال إما تعاني في عزلة أو تعبر بشكل عشوائي عن همومها عبر ما تتيحه وسائل التواصل اليوم. ومن شأن هذا ضخ دماء جديدة في دينامية المجتمع.

وأن يصبح العمل المشترك البيجهوي رافعته الأساس، ونعيد الاعتبار في تعريفنا في العمل المشترك للبعد الوطني، فلا يمكن الاستمرار في اعتبار كل عمل ينطلق من البيضاء او الرباط عملا وطنيا، فالعمل المدني المشترك لا يأخذ صبغة الوطني إلا إذا ضم العديد من الجهات، وإلا يبقى جهويا فحسب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى