فيلم “صمت الحملان”: الوحش كمفكر والأنثى كصوت للحقيقة
20/07/2025
0
بقلم الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس
يستدعي هذا المقال تحليلًا تأويليًا لفيلم “صمت الحملان“ The Silence of the Lambsبوصفه عملاً سينمائيًا يُعيد صياغة العلاقة بين الرعب النفسي والهوية، بين السلطة والمعرفة، من خلال لعبة سردية وبصرية تتجاوز ثنائية القاتل والضحية. إذ يُسائل الفيلم –عبر رمزيته المكثفة– حدود الأنثوي والذكوري، الطبيعي والمتوحش، ويعيد ترتيب العلاقة بين الجريمة والفكر، عبر شخصية الدكتور هانيبال ليكتر المثقف القاتل، وعبر البطلة كلاريس ستارلينغ التي تمثل في الآن ذاته الضحية والمُخلِّصة. نقارب الفيلم كمرآة ثقافية سوداء تعكس أسئلة الذات والعنف والهشاشة الأخلاقية للحداثة الغربية.
أُنتج فيلم “صمت الحملان” عام 1991 من بطولة أنتوني هوبكنز الذي قام بدور “هانيبال ليكتير” وحصل بفضل أدائه على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن دوره والنجمة الأمريكية جودي فوستر في دور “كلاريس ستارلينغ” التي حصلت بدورها على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة..
الفيلم للمخرج الأميركي جوناثان ديم، الذي فاز عنه بأوسكار أفضل مخرج، وسيناريو تيد تالي الفائز عنه أيضا بأوسكار أحسن سيناريو، وهو مقتبس عن رواية صدرت بنفس الاسم عام 1988 للكاتب الأميركي توماس هاريس، الذي تتميز كتاباته بالغموض، التشويق والتحليل النفسي العميق لشخصياته، خاصة في إطار الجريمة والتحقيقات البوليسية.
عندما ينصت الرعب إلى ذاته
ليس فيلم “صمت الحملان” مجرد عمل ينتمي إلى صنف “الإثارة النفسية” بل هو نص سينمائي معقّد، يتقاطع فيه الرعب بالتحليل النفسي، الجريمة بالفلسفة، والعنف بالبحث عن الخلاص. إنه مرآة سوداء تدفع المشاهد للتفكير في ظلال النفس البشرية، في هشاشتها، وفي قدرتها على خلق الوحوش ثم التماهي معها.
“صمت الحملان” مبهج وملغز، لكنه فيلم شرير أيضا يعكس قمة العنف النفسي تكون فيه المرأة بطلة وليست ضحية، مطارِدة
يحتوي الفيلم على شخصيتين معقدتين: الطبيب النفسي الدكتور هانيبال ليكتر والعميلة المتدربة الشابة في مكتب التحقيقات الفيدرالي كلاريس ستارلينج التي تم اختيارها من طرف رئيسها جاك كروفورد (سكوت جلين) لمهمة خاصة: العثور على قاتل متسلسل معروف بميله لتعذيب وقتل الشابات السمراوات الضخمات ويفعل شيئا فظيعا بجلدهن يُدعى “بافالو بيل”.
كلاهما يعيش ظروفا قاسية: ليكتر منبوذ لأنه قاتل متسلسل وآكل لحوم البشر؛ وكلاريس منبوذة وسط مهنة إنفاذ القانون لأنها امرأة. وكلاهما يشعر بالعجز.. ليكتر لأنه محبوس ومقيد ومكمم في سجن شديد الحراسة، وكلاريس لأنها محاطة برجال ينظرون إليها باستصغار ويحومون حولها ويخترقونها بأعينهم.
كلاهما أيضا يشتركان في طفولة جريحة؛ فقدت كلاريس والديها في سن مبكر، لتصبح يتيمة، فقيرة ومحرومة، كابدت للوصول إلى مكانتها، ولديها ثقة بالنفس أقل مما تحاول أن تتظاهر به.
كما كان ليكتر نفسه ضحية لإساءة المعاملة في طفولته. طموح كلاريس لفرض نفسها سيدفعها إلى عقد اتفاق ملغز مع ليكتر، يقضي بأن تكشف له معلوماتها الشخصية في مقابل ما اعتقدته استغلال خبراته الإجرامية للوصول إلى القاتل..
لم تكن العميلة المتدربة تعلم أنها ستقع في الفخ، حيث نجح الطبيب النفسي في اختراقها من خلف القضبان الفولاذية والزجاج المضاد للرصاص؛ وسط أجواء من الصمت الساحر، لتتغلب براعة ليكتر الشيطانية في النهاية؛ وذلك بدعم من الجراحة السينمائية الرائعة التي صورت جمجمته ملتوية، وبتثبيت الكاميرا بإحكام على المنطقة الصغيرة من حاجبيه إلى ذقنه المدببة وآذانه المنتفخة، ثم اللقطات المقرّبة لوجهه المسطح الأملس كأفعى أكثر سما من زواحف الصحراء، مما جعل أداء هوبكنز يبدو مخيفا بشكل مذهل.
يشك المحقق الفدرالي كروفورد أن الطبيب النفسي المختل عقليا ليكتر، الذي ساعد في حبسه مدى الحياة في مستشفى للمجانين، سيكون مهتمًا كثيرًا بمساعدته. فقرر استخدام المتدربة الشابة كطعم وكإغراء وإرسالها إلى ليكتر معتقدا أن الدكتور الذي يشك في كونه القاتل إذا فتن بكلاريس فلن يكون قادرًا على مقاومة لعب دور المحلل كلي العلم، وإذا كانت كلاريس محظوظة حقًا، فقد يخبرها ليكتر بما يجب أن تفعله.
يجعل الفيلم كلاريس أكثر مركزية وأكثر عزلة مما هي عليه في الرواية. بينما تلعب فوستر دورها، فهي بعيدة بطريقة تشير إلى شيء أكثر تعقيدًا من محاولة المبتدئ اتخاذ موقف احترافي، يبرز من خلال التوتر الذي يبرز في وجه كلاريس، معاناتها المركزة ليس فقط للحصول على المعلومات التي تحتاجها من ليكتر، ولكن أيضا لتجنب غوايته وسحره للحفاظ على انفصالها عنه.
اللاوعي الجمعي في “صمت الحملان“
عنوان الفيلم ذاته “صمت الحملان” هو استعارة بالغة الدقة، تستدعي فكرة اللاوعي الجمعي: الحملان هم الضحايا والصرخة التي لم يسمعها أحد. كلاريس تحاول طوال الفيلم إسكات هذا الصراخ الداخلي، صراخ الذكرى، صراخ العجز وصراخ الفقد. ولا تنقذ في النهاية، فتاة فقط بل تنقذ “الطفلة التي كانتها”، وتسدّ ثغرة الخوف التي ما انفكت تطاردها. هنا يتجاوز الفيلم حبكة الجريمة ليصبح فعلًا وجوديًا: كيف يمكن إسكات الماضي؟ كيف أن نتحرر من ذنب لم نرتكبه ولكن نحمله؟ ومتى يكفّ صراخ الضحايا عن تمزيق وعينا الأخلاقي؟
يقدم فيلم “صمت الحملان” الجريمة كأداء رمزي يستبطن دلالات أعمق من الجريمة، تتصل بالتحول، بالهوية وبالهروب من الذات. يقتل القاتل “بوفالو بيل” ليُعيد إنتاج نفسه: يسعى إلى التحول الجنسي عبر خلق “جلد جديد”، بما يجعل من فعل السلخ رمزًا فلسفيًا لمحاولة خلق هوية بديلة أو بالأحرى: قتل الذات القديمة جسديًا.
يوظف الفيلم هذه الرؤية بطريقة شديدة الإيحاء، ليعيد طرح سؤال: هل نحن مجرد ألبسة نرتديها؟ هل الهوية ثابتة أم هي قناع متبدل تُخيطه صدماتنا ورغباتنا المعطوبة؟
كلاريس ستارلينغ: الأنثى التي تصغي للحملان
منذ المشهد الافتتاحي، تصوَّر البطلة كلاريس وهي تركض في غابة الضباب، كأنها في اختبار وجودي. فهي تمثّل الجسد الأنثوي داخل نظام مؤسسي ذكوري (مكتب التحقيقات الفيدرالي) حيث تُحاصر بنظرات الرجال، بأبواب مغلقة وبسلطة الشك. ومع ذلك لا تقدَّم بوصفها أنثى خارقة بل بوصفها ذاتًا تنصت، تحاور وتثق بحدسها.
ليست العلاقة بينها وبين هانيبال ليكتر علاقة تحقيق بل مواجهة وجودية. هو يستنطقها، وهي تحاول إقناعه، ومع ذلك تخرج هي أقوى، لأنها الوحيدة التي تجرؤ على كشف ذاتها دون أقنعة. ليست كلاريس فقط محققة بل هي من يسمع “صوت الحملان” داخله، وهي الوحيدة القادرة على إسكات صراخهم.
هانيبال ليكتر: الوحش الذي يفكر
يعتبر هانيبال المفارقة الأكبر في الفيلم: هو القاتل الأكثر تهذيبًا، الأكثر ذكاءً والأكثر ثقافة. يمثل – على نحو مرعب- الوحش المثقف أو ما يمكن تسميته بـ”البربرية المؤدبة”. إنه يقرأ شكسبير، يحلل النفس الإنسانية، لكنه أيضًا يأكل الناس. في هذا السياق، يبدو الفيلم وكأنه يسائل الفرضية الحداثية التي ترى في الثقافة درعًا ضد العنف: ينسف ليكتر هذه الفرضية ويؤكد أن الثقافة قد تكون مجرد قناع، وأن الفكر قد يُسخَّر لتبرير الوحشية. إنه لا يقتل كالمهووس بل كالمحلل والمتذوق.
ليكتر، في جوهره، تجسيد لانفصال الأخلاق عن الذكاء. وهو مرآة مخيفة لحقبة ما بعد الحداثة، حيث التفكيك لم يعد أداة تحرر بل وسيلة تبرير للعبث.
الجماليات البصرية: التعبير عن الداخل عبر اللغة البصرية
اشتغل المخرج جوناثان ديم على لغة سينمائية حذرة، تنبع من داخل الشخصيات. تم تصوير كثير من الحوارات، خاصة بين كلاريس وليكتر، بزاوية النظر المباشر، كأن الكاميرا تدفع المشاهد إلى احتلال موقع المواجهة. وهو ما يشي بأن الحقيقة لا تسكن النور، بل الظل. حتى تصميم الزنزانة الزجاجية لهانيبال، يوحي بأنه دائمًا “يرى”، “يراقب”، “يعكس”، رغم سجنه… كأنه عين كلّية الرؤية داخل عالم بلا يقين.
يستخدم الفيلم الضوء أيضًا بطريقة تعبيرية: الإضاءة الخافتة، الظلال، الزنزانات، الأطر الضيقة والمونتاج المتوتر ليخلق إحساسًا مستمرًا بالحصار. تُصوَّر المشاهد غالبًا مع هانيبال بزووم بطيء على وجهه، كأننا نغوص معه في طبقات النفس، فيما كلاريس تُصوَّر غالبًا بزاوية “العيون المواجهة”، ما يخلق شعورًا بالانكشاف. أما موسيقى هوارد شور، فهي ترافق المشاهد كظل داخلي يضخّم توتر المشاعر.
صمت الحملان كتحليل نفسي للثقافة
The Silence of the Lambs أحد أعظم أفلام التشويق، هو نص ثقافي/تحليلي يمارس نقدًا مزدوجًا: للسلطة الذكورية وللحداثة العاجزة عن احتواء الوحش الكامن داخلها. إنه عمل يَعبُر من الرعب إلى الفلسفة، من الجريمة إلى الأخلاق ومن الصمت إلى سؤال جوهري: من هو الوحش الحقيقي؟ من يقتل بالجسد أم من يُشرعن القتل بالعقل؟
ثنائية Clarice / Hannibal: تواطؤ الحاجة والخطر
ليس المحور الرئيس للفيلم هو السفاح بوفالو بيل، بل العلاقة الفريدة بين الطالبة في مكتب التحقيقات الفيدرالي كلاريس ستارلينغ والدكتور هانيبال ليكتر، آكل لحوم البشر والمثقف الرفيع. هانيبال ليكتر هو المفكر المجرم الذي يرمز لمرايا الثقافة، فهو ليس فقط قاتلاً بل هو نموذج للـ”وحش الحضاري”: يعزف باخ، يقرأ دانتي، يتأمل فرويد… ويقتل دون ندم. وهو ما يعكس سؤالاً فلسفيًا قاسيًا: هل يمكن للثقافة أن تحصّن الإنسان من التوحش؟
ليكتر يثبت العكس. إنه البرهان على أن الوحشية قد ترتدي بدلة أنيقة. إنه قناع التهذيب الذي يخفي الرغبة البدائية. وبذلك، فهو شخصية تُرينا هشاشة الحدود بين العقل والجنون، بين القيم والأهواء، بين التحليل والتلذذ بالعنف.
تمثل كلاريس البراءة التي تتعلم كيف تقترب من الهاوية دون أن تسقط فيها، في حين يمثل ليكتر الهاوية ذاتها: الذكاء القاتل، العنف المغلف بالأدب والماضي الذي لا يُنسى. ليست علاقتهما مواجهة بقدر ما هي مقايضة: هي تبحث عن الحقيقة وهو يبحث عن الكسر النفسي فيها. ومع ذلك، تنشأ بينهما علاقة أشبه بالإفتتان المزدوج أو ما يسميه لاكان ب”المرآة المتصدعة”: كل منهما يرى نفسه في الآخر، لكن مقلوبًا، ومع ذلك لا يستطيع أن يشيح ببصره.
يصور الفيلم عالمًا ذكوريًا قاسيًا تخترقه أنثى صغيرة (كلاريس)، تتعلم كيف تفرض حضورها بالحدس، بالعقل وبقدرتها على المواجهة. كثيرًا ما تضعها الكاميرا في مواقف بصرية توحي بمحاصرتها (رجال يحدقون فيها، أبواب مغلقة، ممرات ضيقة)، كأنها دائمًا في اختبار وجودي أمام سلطة الجنس والخبرة والشك. ومع ذلك، تنجح لا لأن الفيلم يقدمها كبطلة خارقة بل لأنها تنصت للحكايات، للصمت ولداخلها. إنها نقيض بوفالو بيل، الذي لا يصغي إلا لهوسه. بهذا يصبح “صمت الحملان” صرخة رمزية للضحايا، وكلاريس هي من يسمعها أخيرًا.
الوحش في الداخل: الرمزية النفسية للقاتل والضحية
يبني الفيلم حبكته على ملاحقة قاتل متسلسل يسلخ جلود ضحاياه ويرغب في “التحول” إلى امرأة من خلال صنع بدلة من جلدهن. هذه الحبكة الظاهرية تخفي تحتها طبقات رمزية:
التحول: (Transformation) ليس فقط بوفالو بيل هو من يرغب في التحول بل أيضًا كلاريس، التي تريد أن تتحول من الطفلة اليتيمة إلى المحققة القادرة على إسكات “صوت الحملان”. أما هانيبال فهو كائن متحول بطبعه: طبيب/قاتل، مثقف/وحش، محب/مفترس.
الجلد كرمز للهُوية: لا يعني سلخ الجلد فقط القتل بل نزع الهوية، هتك الذات. يريد بوفالو بيل أن يصنع هوية جديدة عبر أجساد ضحاياه، كأنه يقول: “أنا لا أوجد إلا من خلال الآخر”.
متى يصمت الحملان؟
توده كلاريس، في نهاية الفيلم، سؤالاً رمزيًا لهانيبال: “هل توقفت الحملان عن الصراخ؟”. يُسائل هذا السؤال ليس فقط ذاكرتها الطفولية بل المجتمع كله: متى تصمت ضحايانا؟ هل نصمت عندما ننتصر أم عندما نتحول إلى جلادين دون أن ندري؟
نحس أننا في رحلة في دهاليز النفس، حيث الوحوش لا تأتي من الخارج بل من داخلنا. إنه درس سينمائي وأخلاقي في كيفية الإصغاء إلى الصمت، بغرض فهمه، وربما لإنقاذ من يسكنون صراخه.
يتحول فيلم “صمت الحملان” بشكل مثير للدهشة، ذهابًا وإيابًا من الخيال الروائي والدراما البوليسية. كما في عثور كلاريس على علمين مخفيين بجانب البنادق الصدئة، ودمى صانعي الملابس، والرأس المقطوع الذي تم الاحتفاظ به في جرة… تقوم كل من القصص البوليسية والتحليل النفسي بالتحقيق في صدمات الماضي. يتم في فيلم “صمت الحملان” خلط الاثنين (بحث كلاريس عن بافالو بيل وتحليل ليكتر غير التقليدي لنفسية كلاريس)، مع خلفية من المباني الحكومية ومزارع الدجاج والمطارات المنعزلة حيث يتجول الجميع في حيرة من أمرهم كما لو أنهم لاحظوا للتو أنهم خسروا كل شيء.
يبدو هوبكنز في مشاهد مروعة وهو يأكل لحم البشر مثل كانيبال ولعل اسمه قريبا منه، إنه يفعل ذلك بقسوة ووحشية، وانغمس الممثل في المشهد بشكل مروع وبارع جدا لكن ذلك كان سببا في تدمير حياة الممثل الشهير، فقد كشفت مارثا ستيوارت سبب انفصالها عن النجم البريطاني أنتوني هوبكنز، قائلة: “تركته لأنني لم أستطع الفصل بينه وبين هانيبال ليكتر الذي يأكل البشر في الفيلم” وأضافت سيدة الأعمال والإعلامية الأميركية الشهيرة، البالغة من العمر 82 عاما: “أسكن في منزل كبير ومخيف، يقف وحيدا على مساحة 100 فدان في غابات ولاية ماين، ولم أستطع أن أتخيل نفسي هناك بمفردي بصحبة هوبكنز بعد أن أصبحت أفكر فيه كرجل يأكل لحوم البشر”.. ليس هذا فقط فقد كشفت النجمة جودي فوستر التي قامت بدور البطولة معه أنها توقفت تماما عن التحدث إليه، بعد أن أصبحت “مرعوبة منه”.