اقتصادسياسة

في مواجهة المخاطر الاجتماعية والصحية والبيئية دعونا نبني دولة اجتماعية في المغرب

الموت بكورونا أو الموت بالمجاعة ؟

قبل بضعة أسابيع، أعلنت الحكومة المغربية تمديد فترة الحجر الصحي التي انطلقت في التاسع عشر من مارس كمحاولة من أجل مكافحة وباء كوفيد-19. وحتى الآن، فإن تاريخ إلغاء الحجر المتوخى هو 10 يونيو، مما سيرفع المدة الإجمالية إلى ما يقرب 80 يوما من الحجر الصحي وهي فترة لم يسبق لها مثيل ، مع فرض حظر التجول مسير من طرف السلطات المحلية.

وعلى هذا فقد سجل المغرب رقماً قياسياً عالمياً لأطول فترة الحجر الصحي في العالم، فتجاوز حتى العاصمة الصينية ووهان،التي بدأ فيها الوباء. وفي الوقت نفسه، لا يزال عدد ضحايا الوباء محدودا للغاية في مختلف أنحاء البلاد، حيث تقل الوفيات عن 200 في شهرين ونصف.

وعلى الرغم من تقدم العلم و جودته، إلا أن الحكومة تبدو عازمة على القضاء على الفيروس دون علاج أو لقاح. والواقع أن السلطات تسعى بعناد إلى ملاحقة الوهم حتى، وبالرغم من أن السياسة المغربية في تدبير الجائحة لقيت ترحيب وتحية من قبل دول جد متقدمة في العالم، التي تسجل عدد وفيات كبير ا يتجاوز عشرات الألاف في شهرين ونصف.

في نفس الوقت، كل الاستراتيجيات التي لقيت ترحيب من الجميع، اليوم تحولت فقط إلى أداة  لحبس المواطنين بدون أدنى قدر من التمييز، مصحوبة بقمع الشرطة تحت قيادة المخزن، وفي غياب أدنى احتمال ملموس لبدء المرحلة الثانية من تدبير الجائحة وبدء عملية إنهاء التدريجي للحجر الصحي، ما يجعل العديد من المغاربة يخشون التمديد (ولو جزئياً على الأقل) لفترات الحجر الصحي إلى ما بعد العاشر من يونيو.

الجميع يعرف كم مكلف الحجر الصحي بالنسبة للمغاربة. والواقع أن السياق الاجتماعي الاقتصادي الوطني لا يقدم إلا أقل من القليل من هذه التدابير الجذرية، ونظراً للعدد الهائل من العمال الذين يعيشون في ظل عدم الاستقرار المطلق للوظائف الغير الرسمية، والضعف الشديد الذي تعاني منه آليات الدعم المالي للفقراء حيث تتراوح المعاونة المقدمة إلى الأسر بدون ضمان إجتماعي بين 800 و200 1 درهم (75 و110 يورو) شهريا، حسب حجمها، والتي تعتبر غير كافية تماما لتغطية الاحتياجات الأساسية للأسرة. وبالتالي فإن المغاربة مهددون الآن بالجوع، وهو ما قد يجعل الوضع يتفاقم لا يمكن السيطرة عليه

ولكن لماذا تصر الحكومة على هذا النهج القاتل؟ إن الفرضية الأكثر منطقية هي أنها تخشى أو خائفة من احتمالية الانفجار لعدد الحالات الإصابة في ظل منظومة صحية هشة غير قادر تمامًا على تدبير تدفق مماثل من المرضى لتلك التي عاشتها فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا.

وعلى هذا فإن المغرب في مأزق مريع وهو ما يعكس الخيارات السياسية المأساوية التي شهدها في العقود الأخيرة: المجازفة بانهيار نظام صحي محتضر بالفعل ووقوع ضحايا بسبب فيروس أو دفع السكان إلى هوة الفقر المدقع ؟

والغرض من هذا النص ليس اقتراح خطة لبدء عملية إنهاء فترة الحجر الصحي. بل إنها تعتزم تحديد أفق سياسية : والواقع أننا محكوم علينا أولاً بأن نعيش مع الفيروس لعدة أشهر أخرى، ومن المرجح أن يكون ذلك الحدث الأول من سلسلة طويلة من الأحداث المتطرفة التي ستتضاعف في السنوات المقبلة، بسبب الاضطرابات البيئية والمناخية التي سببها نمط الإنتاج الرأسمالي. ولذلك من الملح علينا أن نحدث تحولات عميقة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية للبلد لتوفير استجابات كافية للقضايا الصحية مع ضمان أن الحقوق الاقتصادية لكل شخص محمية من عدم الإستقرار الإقتصادي. مما يحتنا لدعوة المغرب للشروع في نهج مسار آخر معاكس لما بدأه في اتجاه دولة اجتماعية بامتياز.

سياسة صحية عمومية في المستوى

هناك إجماع مغربي على أن وباء كورونا فضح المنظومة الصحية في المغرب فجعل ما لم يكن من أولويات المجتمع أن يصبح من اولوياته والمطالبة بإصلاح شامل للمنظومة وتقوية المستشفى العمومي. فمن حيث الأرقام لا يتوفر المغرب ألا على 2009 طبيب عام، ما يعادل 2.3 لكل 000 10 نسمة. و إن اضفنا لهدا العدد، إجمالي أطباء القطاع الخاص، الذين يبلغ عددهم 24 ألف طبيب، ترتفع النسبة إلى 7,3 طبيب لكل 000 10 نسمة.

وتعتبر هذه الأرقام أقل من المتوسط الإقليمي . أما بالنسبة لكل ما يتعلق بعدد أسر المستشفيات المتاحة لكل عشرة آلاف نسمة فقد أصبح أقل مما كان عليه في عام 1960: من 1,6 إلى 0,9، مقارنة بتونس التي يبلغ معدلها 2,1 . ومع تخصيص 5,5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لهذا القطاع، فإن عدم الاستثمار في الصحة واضح: حيث تصل هذه النسبة أقل ما هو عليه الحال في الجزائر (6,4% )، و تونس (7,1%).

الطبقات الوسطى و ما فوقها في المجال الحضري والتي تمثل أقلية من السكان، لديهم القدرة على استخدام خدمات القطاع الخاص (عيادات طبية وأطباء العاملين لحسابهم الخاص) فيما المواطن العادي والبسيط الذي يتوفر على دخل أقل من المتوسط لديه خيارين ولا تالتة لهم إما تحمل مال طاقة له به واستشارة الأطباء الليبراليين (القطاع الخاص) وام تحمل مأسي الطب العمومي (القطاع العام ) في مستشفيات الدولة، والامتثال إلى زحمة هذه الأخيرة و الانتظارات التي لا تنتهي، كما يجب عليه تحمل فساد القائم بالمنظومة ككل.

بالإضافة إلى صعوبة الرعاية الصحية في القطاع العام، فإن الأدوية أيضا تحظى بنصيبها من صعوبة الحصول عليها وتظل مكلفة حيث يتم استيرادها في كثير من الأحيان، ما يجعل العلاج أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للأشخاص الذين لا يتمتعون بتغطية صحية جيدة ( كما إن مستويات التعويض التي يولها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي غير كافية في الإجمال).

لقد حان الوقت لكي نقول: إننا اليوم في حاجة إلى مخطط طموحة للاستثمار في القطاع الصحة العمومية، والهدف بسيط و نبيل: وهو تمكين كل مواطن من الولوج إلى خدمة صحية في المستوى وبالمجان دون شروط، ووضع صحة المواطن أهم من كل شيء. فمند أشهر ظل آلاف الأطباء يطرقون جرس الاندار، من خلال كل الإضرابات التي شهدها القطاع في جميع أنحاء البلاد بغية الحصول على دعم مهم من الدولة عبر الزيادة في ميزانيته والتي كما أشرنا لها أعلاه تظل ضئيلة ولا تصل معدل المنصوص عليه من المنظمة العالمية للصحة الأمر الذي لا يختلف عليه المغاربة في ظل جائحات كورونا.

كما أنه يجب الاشتغال على البنية التحتية وتعزيزها بمعدات الصحية في المستوى وعلى الصعيد الوطني بدون تمييز عكس ما هو معمول به اليوم، حيث يجب التوفر على مستشفيات جامعية على مستوى كل الجهات و كل المدن الكبرى وان لايتعدى زمن تنقل المواطنين لها أزيد من ساعتين. كما واجب على القطاع الخاص أن يلعب دوره التكميلي لسياسة الدولة في القطاع العام واليس أولوي ومتحكم في إستراتيجية وبرامج الدولة.

ولابد من تحرير الصحة من دكتاتورية الربح، ولابد من وقف امتداد قطاع الخاصة (الذي يمثل أكثر من نصف موظفي القطاع والبنية الأساسية في البلاد). التراجع عن كل القوانين الهادفة لتحرير قطاع الصحة ليصبح فريسة لدى لوبيات و مستثمرين ونذكر مثلا القانون 131-13 الدي يفتح باب الاستثمار أمام المستثمرين الغير الأطباء القانون الذي به ستتفاقم الانعكاسات الوخيمة على القطاع دون أي تدبير أو متابعة من طرف الدولة للقانون عبر وضع خريطة وطنية للأماكن المسموح فيها الإستثمار. فهذا القانون سيحرم المواطنين من خدمة صحية في المستوى وبالمجان، فنعلم جيدا أن مستثمر لن يضع أمواله في مشاريع تخسره الكثير فمثلا لن نجد مستشفيات خاصة في بوادي أو مدن صغيرة نضر للفقر المدقع بها.

يتعين علينا أن نسلك طريقا جديدا ممنهجا نحو التدريب المكثف لموظفي الصحية، من الأطباء إلى الممرضات، والعاملين في مجال الصحية، وأطباء التغذية. يجب الإستفادة من تجاربنا السابقة والمباشرة في تجميع المعارف المتراكمة من حيث البحث والتطوير لخلق قطب عام حقيقي يشتغل على الأدوية، من أجل إتاحة علاج الجديد للمغاربة وبقية العالم، ما يمكن اعتباره أول مخطط لما يمكن أن يكون عليه  المغرب كأفق أخر ممكن، مغرب الخبرة الصحية والبحث العلمي مغرب المنظومة الصحية أولا, مغرب الخدمات الإجتماعية والعامة بمتياز.

في هذه المرحلة بالذات ، يتكون المنعكس البرجوازي الأولي, من إدانة الطابع غير الواقعي لمثل هذا المشروع ، حيث يُزعم أنه لا يمكن تحقيقه في سياق بلد فقير مثل بلدنا. لكن يتناسى البعض من هؤلاء عن ماحققته بلدان أقل تنمية في مجال الصحة وسنرد على هذا الاعتراض ولكن سنبدأ بالإشارة إلى وجود نماذج حققت المستحيل متلا كوبا ، وهي دولة صغيرة يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة تعرضت لحصار قاتل لأكثر من 60 عامًا ، لديها اليوم عرض مذهل من الرعاية الصحية : 5.2 أسرة مستشفى لكل 1000 نسمة ، وأكثر من 8 أطباء لكل 1000 السكان ، المجانية العامة … نتائج متفوقة على نتائج القوى العالمية الأولى ، ثمرة إرادة سياسية حديدية.

تمويل الدولة الاجتماعية: تحد وفرصة

من الواضح أن البرامج السياسية الطموحة تنطوي على إدابة عميقة بشأن العقائد الاقتصادية السارية. عادة ما يميل خبراء الاقتصاد في المؤسسات المالية الدولية الكبرى إلى إغلاق المناقشات على عجلة بالجملة التالية :”يمكننا فقط مشاركة ما انتجنا” وبعبارة أخرى، فإن المناقشات بشأن المسألة الاجتماعية تؤجل إلى أجل غير مسمى، عندما تسمح السوق وأيدها الخفية بزيادة مستوى المعيشة العام. ليس هناك ما هو أبعد من الحقيقة: فالأولويات الاقتصادية والاجتماعية للبلد تبرز من لحظة الإنتاج.

ولأن البرجوازية المغربية لديها مصلحة في جعل العمال المغاربة يعملون بشكل غير رسمي وقانوني ، فإن القطاع غير الرسمي هو المسيطر. كما أن السياسة الضريبية في حد دتها يحددها برلماني برجوازي، وبالتالي تصبح ضريبة غير عادلة والدولة فقيرة وتزداد فقرا. ولأن البرجوازية تستهلك المنتجات المستورد، فقد وقع المغرب على 55 معاهدة للتجارة الحرة، الأمر الذي حكم عليه بالتبعية الزراعية والصناعية. لتظل كل السياسات خاضعة للبرجوازية المغربية

ففي المغرب، كما في أماكن أخرى، يشكل الوجود الشامل للاقتصاد غير الرسمي، وضعف في التغطية الاجتماعية، والفوارق الكبيرة في الدخل، غياب عدالة ضريبية، وفشل الخدمات العامة هم نتيجة لخيارات سياسية، وليس قوانين تخضع لطبيعة. وبتالي حبس أو حجر 35 مليون مغربي في حالة من الهشاشة والضعف واليأس ليس أمرا حتميا ويمكن محاربته. إذا ما اتخذت قرارات سياسية جذرية وقوية.

في أوروبا، تحققت أعظم الإنجازات الاجتماعية على الإطلاق في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية، في بلدان دمرت كليا في مواجهات دامت ست سنوات. من الإنجازات نجد مثلا الضمان الاجتماعي، وضع الخدمة المدنية، الأنظمة الخاصة، والتأميم: حيث تعتبر “معجزة اجتماعية” حقيقية نتيجة مجهودات وقرارات سياسية صائبة منذ عام 1945، من فرنسا إلى إيطاليا، مرورا بألمانيا و بلجيكا التا كان في وضعين أسوأ من كارتي.

ومن ثم، ما الذي يمنع المغرب من جعل العقد الجماعي أولوية وطنية في خدمة المصلحة العامة للبلاد والمواطنين؟ الإجابة بسيطة: أولويات الطبقة الحاكمة. ومنه ندعو إلى ضرورة الاستفادة من صدمة تدبير وباء كوفيد-19 وما عر على المنظومة الصحية والاجتماعية بصفة عامة، من أجل فرض التوجهات السياسية الكبرى التي يحتاج إليها المغاربة.

دعونا نجد الموارد اللازمة لتمويل الدولة الاجتماعية أو الرفاهية المغربية من خلال إعادة هيكلة منظومة العمل في البلاد. فل نعلن حرب شرس لمكافحة العمل غير المعلن، الذي يشكل جريمة ضد العمال وضد الأمة بأسرها. توفير ظروف عمل جيدة تحترم جميع بنود الحقوقية لجميع العمال، من خلال ربطها بقانون العمل والاتفاقات الجماعية التي تضمن لهم الأجور والتغطية الاجتماعية في المستوى. لا ينبغي أن يُسمح للأقوياء باستعباد العمال بالعشرات، في أعمالهم ومنازلهم وليتحملوا دورهم كأصحاب عمل ويدفعون الاشتراكات الاجتماعية والضرائب المستحقة و الاحتكام للعدالة في حالت تجاهلهم أو تلاعبهم ! دعونا لا نقبل بعد الآن أن يعمل أبناؤنا وبناتنا بجد كخادمات أو عمال أو مزارعين موسميين أو بائعين في الشوارع. لكل فرد الحق في الكرامة. عقد العمل والضمان الاجتماعي للجميع!

من خلال RAMED، يمكننا أن ننشئ مؤسسة لضمان اجتماعي عامة حقيقية (sécurité sociale)، تمول هذه الموارد بمساهمة واحدة مشتركة بين المهنيين (cotisation à taux unique interprofessionnel) يديرها العمال، مما سيمكن من التكفل بمصاريف المرضى وحوادث العمال، الآباء والمتقاعدون. فلنتحرر من الخوف من الغد، من أجلنا وأجل أحبائنا.

التخلص من جميع الثغرات الضريبية التي تم خلقها بحجة “القدرة التنافسية” ، والتي هي في الواقع ليست سوى هدايا مجانية لنخبة غنية المغربية الأعيان. العمل على توحيد الأنظمة الضريبية في مختلف أنحاء البلاد وضمان دفع كل الشركات والعمال للضرائب التي تدين بها البلاد. ولنقدم ضريبة حقيقية على الأثرياء وجعل ضريبة الدخل تصاعدية حقا. وقبل كل شيء ، دعونا نتغلب على الخوف المدفون بداخلنا دعونا نقف ضد ابتزازهم بعد الآن: من كان يريد الذهاب فاليدهب! سنقوم بعمل جيد للغاية بدونهم.

فلنطالب، مع جميع البلدان النامية الاخرى، بالغاء الدين بالكامل، ونتحرر من عبء ظالم لا مبرر له يحرمنا من الموارد المالية الثمينة.

…..فلنتحرك!

لا شك أن الطريق سوف يكون طويلاً ومليئاً بالعقبات ولكن هذه المقترحات القليلة، التي من الواضح أنها غير مكتملة، تستحق أن تبدأ في رسم أفق متحرر أدعو كل من يهمه الأمر ويريد حقًا تحسين الحياة اليومية للمغاربة استقبالها بشكل حسن ، ومناقشتها ، وتعميقها وإعطائهم شكلًا سياسيًا ملموسًا. الآن ، لنبدأ العمل ونبني جبهة المواطن التي ستتيح لنا الفوز في معركة دولة اجتماعية أو الرفاهية في المغرب!

Tribune Maroc Covid-19
Yazid ARIFI
ترجمة مروان اديشو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى