بونيت يكتب: حسن المنيعي.. أبجديات متخفية… مثل شبح شكسبيري…
حسن المنيعي، ذلك المتماهي المطلق مع المسرح حد الانمحاء في لوحته، مثل أشباح شيكسبير الطرية دائما والقصية باستمرار..
أبجدية الإنسان:
لحسن المنيعي هالة ضوء هارب في لوحة الزمان.
هو ذا يخطو خفيفا مثل حفيف النسائم على أوراق الخريف.. مبتسما يوزع التحيات، يتذكر كل الوجوه وكل الوقائع بدقة متناهية؛ حاملا جديد النكتة وجديد المسرح وجديد المشهد الثقافي الذي لا حدود له عنده. هكذا تلتقي بحسن المنيعي في كل مرة…
لا خانة تسعه إلا خانة المحبة الصافية. ليس بوسع أحد أن يتخيله عدوا أو خصما أو منافسا في جبهات الدنيا واليومي والرهانات التي تحرك، في العادة، نوازعنا… لذلك يصعب أن تجد من ينعته بسوء…
في كل منا شيء من المنيعي : نكتة، ابتسامة، قبلة، وعد، حلم.. هكذا كان المنيعي يجدد رسم أخلاطه باستمرار.
أبجدية الأستاذ:
لحسن المنيعي هالة العالم الواسع المدارك، الذي يزين علمه بالتواضع الصادق..
احتل المنيعي بشكل مفعم كلمة الأستاذ منذ أقدم معانيها إلى اليوم. كان المعلم المربي الملقن القدوة الحامي لتلاميذه من مخاطر الانزلاق في متاهات التعلم الخرافية. لكنه أيضا كان رجلا دائم التعلم.. لم يكن يخجل أبدا من الإقرار بأنه لا يعرف كل شيء. كنت ترى في عينيه ألق الطفولة حين يسمع معلومة أو اقتراحا فكريا جديدين من أحد تلاميذه.
أبجدية المؤسس:
كان لحسن المنيعي وميض الشاب الثمانيني المقبل دوما على الحياة..
انتمى إلى جيل ورثة المغرب المستقل.. كان محكوما عليه بأن يكون من المؤسسين؛ فقام بالمهمة على وجهها الأكمل، في سياق لا يحتفي إلا على سبيل البهرجة والتقليد الأعمى للمستعمر القديم، بالثقافة وتجلياتها الفعلية (من مسرح وموسيقى وفن تشكيلي..). وحيث انكب مجايلوه على ترميم المعمار الأدبي التقليدي، بالانفتاح على جديد التجربة الشعرية المشرقية، اتجه المنيعي عكس التيار، وشرع في ارتياد باب أكاديمي عصي على الانفتاح في وجه المسرح والرواية والفن التشكيلي. فكان مؤسسا مناضلا ضد التقليدانية في كل أبعادها ووجوهها، بما فيها ذلك الوجه المتقنع بقناع التجديد.
كان مشاركا في الحركية الثقافية بفعالية منذ بداية الستينيات، وانخرط في كل جبهات التحديث الثقافي، عبر المشاركة في تحرير وإصدار المجلات، وتنظيم المهرجانات والتظاهرات الثقافية، والانخراط في حركية هيكلة المشهد الثقافي من خلال الانضمام إلى اتحاد كتاب المغرب، وجمعية البعث الثقافي بمكناس، حتى قبل انضمامه إلى هيأة التدريس الجامعية..
وحين التحق بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس في بداية السبعينيات، قيض له مرة أخرى أن يكون من بين مؤسسي أحد صروح التعليم العالي والبحث العلمي بالمغرب، ثاني أقدم جامعة مغربية حديثة، بعد جامعة محمد الخامس. فكان من أعمدتها المؤسسة. تخرج على يديه عدد من الأساتذة الباحثين المبرزين في مختلف مناحي البحث في مجالات الثقافة المختلفة.
يمكن ان يقال عنه بحق إنه مؤسس الدراسات المسرحية في الجامعة المغربية. صحيح أن شعب اللغات والآداب الأجنبية كانت منذ تأسيسها تدرس لطلبتها دروسا في الأدب المسرحي، لكن شعبة اللغة والآداب العربية، التي تشكل الخلفية الفعلية للحياة الثقافية الوطنية خارج الجامعة، لم تعرف الدرس المسرحي إلا مع المنيعي. ولم تكن دروسه تقتصر على تدريس الأدب المسرحي الأجنبي أو العربي الذي لم يكن قد تكرس بعد بشكل حاسم، بل كان ينفتح على القضايا الثقافية الكبرى التي تحبل بها الساحة المسرحية المغربية ونظيرتها العربية. وقد كان من الناحية الأكاديمية سباقا إلى طرح قضية التأصيل في المسرح المغربي، عندما كرس رسالته الجامعية الأولى للأشكال ما قبل المسرحية في الثقافة المغربية.
أبجدية المثقف:
كانت لحسن المنيعي سطوة الرائد في مناحي النقد الثقافي المختلفة…
صحيح أن اسمه مرتبط بالبحث والدرس والنقد في مجال المسرح، لكن المنيعي أيضا ناقد تشكيلي وروائي مكرس، بل إنه كان من المؤسسين للنقد التشكيلي والروائي المغربيين. هو متابع يقظ لمجريات الحركة التشكيلية المغربية، وصديق لعدد كبير من التشكيليين، وعارف بالاتجاهات الإبداعية لأهم المدارس التشكيلية المغربية.
وهو مؤسس درس النقد الروائي في جامعة فاس. ودروسه في النقد الروائي كانت وما تزال تشكل مرجعا لعدد من الباحثين والطلبة في هذا المجال.
أبجدية المتفرج العاشق للمسرح:
كانت لحسن المنيعي قوة القابض على الوقت الممعن في الحضور..
فكنت لا تراه إلا محاطا بشباب من محبي المسرح ومبدعيه. وهو متفرج ذواق؛ مثال المتفرج الأول. يشاهد المسرح بهمة واجتهاد ونهم. تخاله يؤدي واجبا يوميا من واجباته المدرسية. لا يفتر حيث تفتر الهمم، ولا يعطيك أدنى انطباع بأنه يشاهد المسرح من باب الواجب أو المسؤولية. بل كان دائما مستمتعا متذوقا لجمال الفعل المسرحي ومغامرته، قادرا على أن يلتفت إلى أعمق القيم الفنية والجمالية التي يحبل بها. خبرناه طوال مهرجانات وملتقيات مسرحية كثيرة، لا يفوته عرض مسرحي واحد. وجيرانه المكناسيون يشهدون أنه لا يكاد يضيع عرضا مسرحيا واحدا يعرض في مكناس. كان يحضر ويعلق على العرض من منطلقات تاريخه وخبرته الغنيين في المشاهدة والتتبع النقدي. وحيث لم يكن الآخرون يرون سوى أعمال غير جديرة بالثناء، كان المنيعي يحملنا من خلال تعليقاته على اكتشاف مواطن للجهد الجمالي جديرة بالتقدير. كان ذاكرة حية للمشاهدة المسرحية المغربية.
كثيرون منا لا يعرفون أن حسن المنيعي، لا يضيع عرضا مسرحيا واحدا في متناوله، سواء حين يكون في مكناس، أو حين كان يشارك في مهرجانات وملتقيات داخل المغرب وخارجه. لم يتخلف أبدا عن أي عرض مسرحي مبرمج، ولم يتقاعس عن إكمال كل العروض مهما كان مستواها. لا يمكنه أن ينهي أمسيته، بعد العرض، دون أن يفتح نقاشا مطولا حوله، إما مع الفريق الذي أنجزه، وإما مع طلبته من الباحثين أو الجمهور الذي يكون قد شاهد العرض. وشخصيا، لم يسبق لي أن سمعت منه حكما مبرما حول عرض ما دون أن يسبقه نقاش. ولم يسبق أن سمعت منه تحقيرا لعرض مسرحي، أو تسرعا في الحكم، كما يميل إليه أغلبنا. كان بحق المتفرج المغربي الأول. لا يستطيع أحد أن ينافسه على هذا اللقب لا في المغرب ولا خارجه. كان صوت كل مسرح لم يكن له صوت.
نشيد الأناشيد:
يا حسن.. في أن تكون جسرا، نقول: الجسر: رجل قُدَّ عالمه من الكلمات والظلال والرؤى والمشاهدات والشهادة.
يا حسن.. في أن تكون عمود الملكوت، نقول: كنت الطريق وكنت الخطى، يتكئ عليها تلاميذك ومحبوك حين تعوزهم الأعمدة والمتكآت… من لها اليوم دونك
يا حسن.. في أن تكون سحر الخفوت والهمس، ضاحكا مجلجلا، نافذا إلى العتمة في يسر من لا ظل له. كأني بالشاعر عبد الكريم الطبال يقصدك وهو يكتب:
مدمنٌ عشقاً
“يكسرُ الكأسَ
قبل الشرابِ”
راحلٌ مدلجٌ بليلٍ
“يدقٌّ على البابِ
بعد الدخول”ِ
مغرمٌ مولهٌ بليلى
“يخط رسالةَ حبٍّ
على ورقٍ من دخان”
شاعرٌ ظلَّ يكتب
في الصفحة الأولى
” في كتاب الرمادِ”
يا حسن.. في أن تكون الشاهد الذي لا يناء به، نقول:
حفروا في الصخر
وجدوا أفكارا
لحنا جوفيا منسربا في أعماق البحر،
حفروا في الصخر
وجدوا رجلا يحفر في الصخر.
حسن المنيعي… يا أبانا الذي في سماء العنفوان.