رأي/ كرونيك

قلق أهل الفلسفة من إصلاحها

بأي معنى يمكن للفلسفة أن تكون مادة للتدريس والبحث؟
من اللافت أن الفلسفة تجد امتداداتها لدى الأدباء والفنانين والعلماء والمفكرين، وحتى الساسة الذين يستحسنونها، في حين أن أهلها يبدون القلق عليها. فكل إصلاح لها، يثير حنق أهلها وقلقهم ويؤدي إلى الرفض جراء تخوفاتهم من مآلها ومستقبلها، لكنهم يقبلون الأمر في النهاية. كيف نفسر ذلك؟
وهكذا، وجد تدريس الفلسفة نفسه، عرضة هذا الفصل الفظ والمشؤوم المفروض تدريجيًا في التعليم الثانوي والعالي بين الآداب والعلوم، وضحية له، حتى صارت الفلسفة متعبة جراء اعتبارها تخصصًا أدبيًا: تقليد النموذج الفرنسي. غير أن هذا الفصل يعود، في الحقيقة، إلى عصر كانط الذي خاض صراعًا مريرًا عبر عنه في كتابه «صراع الكليات»، حين صرخ أمام تهميش كلية الفلسفة مقابل الإعلاء من شأن كليات الحقوق والطب لأنها تخدم الآيديولوجيا السائدة، وتتقن عملية إعادة الإنتاج. فهل نستطيع أن نتجاوز تقليد إرث التدريس بالنصوص؟ إن هذا العمل التكراري، في الحقيقة، بقدر ما هو مفيد فهو أيضًا مضر بالفلسفة.
أين نحن اليوم؟ إننا لا نزال عند حدود الحفاظ على التراث الفلسفي وعلى الأدوات الأكثر عراقة: التوليد والتساؤل والترداد الممل. لكن الحقيقة هي أن إرثنا التاريخي للخطاب الحجاجي، لا يزال ضعيفًا جدًا، وعلينا أن نتجه صوب إعادة الربط بين الفلسفة وباقي المجالات العلمية والقانونية: الاتجاه صوب التفكير العلمي، والقانوني، والسياسي، والتقني، والأخلاقي، والانثربولوجي، والمنطقي. إذا اعتبرنا أن الفلسفة هي فن طرح السؤال في كل مجالات المعرفة، أي هي نمط من الحجاج يسمح للناس بأن يفكروا فيما يؤرقهم، موجهًا بمنظور كوني وغايات إنسانية.
تجديد الخطاب الفلسفي
يستند الإقرار بالحاجة إلى تجديد الخطاب الفلسفي المدرسي، على الواقع المزري الذي آل إليه وضع تدريس الفلسفة، وهو ما يمكن إجماله فيما يلي:
– غياب المناقشة داخل الفصول الدراسية، بحيث تحول الدرس الفلسفي إلى مجرد تدريس للنصوص بشكل ميكانيكي لا يسمح للمتعلم بالخوض في النقاش الحر.
– طغيان المقاربة الديداكتيكية، والتسليم بمجموع الوصفات الجاهزة وكأنها قدر لا مجال للشك في نجاعتها.
– إكراهات لا تتعلق لا بالمدرس ولا بالمتعلم، وإنما بالمنظومة التعليمية ككل: إيقاعات الزمن المدرسي، توزيع الحصص، عقم بعض المذكرات المنظمة للشأن الداخلي، وعدم مراعاتها للبعد التربوي في سير العملية التعليمية.
– ضعف التكوين الذاتي لدى المتعلمين، وغياب تحفيزهم على القراءة والمناقشة والتحليل.
تضاف إلى هذه العوامل، تمظهرات جمّة لا تخفى على الممارسين في واقعهم اليومي. لكن رغم كل ذلك، فإننا مفعمون بالأمل (كل الأمل) في تجاوز هذه الوضعية.
وقبل أن نتلمس بعض الخيوط التي يمكن أن تنير الدرب نتساءل: ماذا نقصد بالخطاب الفلسفي؟
يتضمن الخطاب الفلسفي (كأي خطاب: أدبي، علمي، سياسي، فني إلخ)، رسائل موجهة لجمهور محدد في سياق خاص لغايات معينة، يسعى إلى الإجابة عن جملة إشكالات معلنة أو غير معلنة، أو على الأقل، إعادة طرحها من جديد، بغية تحفيز التساؤلات وفتح المناقشة في صفوف المعنيين. ويرتكز إلى حجج وبراهين تسير في اتجاه بيان المفارقات القائمة وراء الإشكالات المطروحة، لصياغة أطروحة متماسكة بهذا القدر أو ذاك، بغرض عرضها أمام جمهور معين. غير أن نظام الحجج يفترض نزع الطابع الوثوقي عن الخطاب الفلسفي، لجعله خطابًا محفزًا للنقاش وتبادل الرأي.
ينتج المدرس بشكل مستمر ويومي، خطابًا فلسفيًا موجهًا للمتعلمين. وقد يكون خطابًا خاصًا به كفرد يدلي بدلوه حول القضايا التي يعالجها. وقد يكون خطابًا مستوحى من متون فلسفيّة، حسب زاده المعرفي وتكوينه النظري الذي تسلح به في مراحل معينة من حياته. إلا أنه في كلتا الحالتين يتخذ لبوسات عدة: أخلاقية، ايديولوجية، سياسية، دينية، ثقافية وغيرها.
لا ينفصل الخطاب المنتج داخل الفصل، عن مجموع الشروط السياقية التي تحيط به، والتي عادة ما ترتبط باليومي، وبما يدور في المجتمع من قضايا وإشكالات متداولة في الإعلام العمومي، ويعجز النقاش العمومي الرسمي عن مقاربتها بشكل موضوعي. غير أن هذا الخطاب، لا يتحاشى الدخول في المناقشة الحرة، لأن الهوة ساحقة جدًا بين المتعلمين والمدرس. ولا يراعي هذه الخصوصيّة إلا عند المربي الذي يتقن فن إدارة الخطاب. وهنا نثير الانتباه إلى هذا التمايز الصارخ بين المدرسين: لماذا يجد بعضهم الطريق نحو مقاربة الإشكالات والقضايا الراهنة، من دون أن يفرض بعض الوصاية على مريديه، في الوقت الذي يمارس البعض الآخر الوصاية الكلية على المتعلمين؟ هل نستطيع أن نترك الخطاب الوثوقي بعيدًا لصالح خطاب حجاجي، يحترم الآراء ويعطي للمتعلم حقه في صوغ رأيه بكل حرية؟ كيف السبيل نحو خطاب فلسفي حجاجي يرتكز إلى الممارسة ومتحرر من سلطة النصوص؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى