في هذا السياق، تتوالى التقارير التي تصنف المغرب بين الدول التي تعاني من فساد واسع النطاق، وهو ما أكده محمد البشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، و الذي وصف الوضع بأنه “غير مرضٍ”، مشيرًا إلى أن الفساد يكلف المغرب أكثر من 50 مليار درهم سنويًا ويقف عائقًا أمام التنمية والاستثمار،
ومع ذلك، فإن هذا الواقع يقابله خطاب حكومي متوتر وانتقادات مباشرة لتقارير الهيئة، بل وصل الأمر إلى خفض ميزانيتها بحوالي 60 مليون درهم في مشروع قانون المالية لعام 2025، هذا القرار أثار شكوكًا حول جدية الحكومة في محاربة الفساد، خاصة في ظل مؤشرات واضحة على استفحاله داخل أروقتها، وفي معظم القطاعات، حد الحديث أن الفساد بات بنيويا، ويشبه متحور كورونا، بل إنه امتد عموديا وأفقيا.
فمن جهة، البرلمان المغربي، الذي يُفترض أن يكون رمزًا للرقابة والنزاهة، يشهد ملاحقة أكثر من 40 نائبًا بتهم تتعلق بالفساد واختلاس المال العام، هذا العدد ليس مجرد مؤشر على الفساد، بل يعكس تطبيعًا مع هذه الظاهرة داخل المؤسسة التشريعية، ما يضعف ثقة المواطن في ممثليه وقدرة البرلمان على لعب دوره الرقابي.
و من جهة أخرى، يتضح أن الأزمة لا تتوقف عند البرلمان، فالتعديل الحكومي الأخير كشف عن وجه آخر من الفساد المتمثل في زواج السلطة بالمصالح، فبدلًا من اعتماد الكفاءة والخبرة في اختيار الوزراء، ظهرت التعيينات كأداة لتصفية الحسابات السياسية ومنح المناصب و الحقائب الوزارية، كمجاملات لتحالفات حزبية أو شخصية، أو صفقات ضمنية في عالم الأعمال، هذه الخطوة لم تكتفِ بتعميق أزمة الثقة بين المواطن والحكومة، بل أرسلت رسالة واضحة بأن مبدأ الكفاءة مغيب لصالح منطق الولاءات.
و في ظل هذه المعطيات، جاءت تصريحات الهيئة الوطنية للنزاهة لتزيد المشهد تعقيدا، فتقرير الهيئة وضع قطاع الصحة على رأس القطاعات الأكثر فسادًا بنسبة 68%، تليه الأحزاب السياسية بـ53%، والحكومة بـ49%.
هذه الأرقام قوبلت باستياء واسع من بعض الأطراف الحكومية، حيث اعتبرها فريق التجمع الوطني للأحرار اتهامًا مباشرًا وشاملًا لمؤسسات الدولة، و عبر رئيس الفريق، محمد البكوري،عن رفضه لهذه التقارير بإنسحابه مع فريقه من مناقشة ميزانية الهيئة، مؤكدًا أن هذا الخطاب غير مقبول ويشكل إساءة غير مبررة لصورة المغرب.
من جانبه، طالب وزير العدل عبد اللطيف وهبي بتجاوز مرحلة رصد الأرقام إلى اتخاذ إجراءات ملموسة، هذا الطرح رغم منطقيته يحمل في طياته محاولة لتوجيه النقاش نحو تحميل الهيئة مسؤولية غياب النتائج بدلًا من مواجهة الأسباب البنيوية للفساد، فخفض ميزانية الهيئة يُفسر في هذا السياق كوسيلة لتقليص دورها وتقويض استقلاليتها، خاصة وأن نتائجها المحدودة تُستخدم ذريعة للتشكيك في فعاليتها.
الفساد، كما أشار رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة، ليس مجرد مسألة أخلاقية أو قانونية، بل هو عقبة رئيسية أمام التنمية والاستقرار، فالتكاليف الاقتصادية للفساد باهظة، حيث تؤدي إلى تبديد الموارد، وتعطيل الاستثمار، وتراجع الإنتاجية، كما تكرس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وتعزز الاقتصاد غير المهيكل، ومع ذلك، يبدو أن الإرادة السياسية لتغيير هذا الواقع ما زالت محدودة، إن لم تكن غائبة تمامًا، من جهته اعتبر محمد البشير الراشدي الحديث عن الفساد في مثل هذه الظروف معقدًا للغاية، حيث أن هناك نوعًا من حماية المسؤولين المتورطين في قضايا الفساد من خلال تواطؤ داخل النظام السياسي.
فالأرقام التي كشفتها الهيئة تؤكد أن الفساد لا يزال شائعًا في المغرب، حيث يرى 72% من المواطنين و68% من المقاولات أن الفساد “شائع جدًا”، ما يؤكد أن أزمة الفساد في المغرب ليست مجرد أزمة أرقام وتقارير، بل أزمة بنيوية تتعلق بتوزيع السلطات وضعف الإرادة السياسية للإصلاح.
من جهتها اختارت الحكومة، خفض ميزانية، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة بدلا من دعمها، مما يعكس إشارة ضمنية بأن مكافحة الفساد ليست ضمن أولوياتها الحقيقية، في المقابل، تُطالب الهيئة بموارد أكبر وصلاحيات أوسع للقيام بدورها، لكن هذا الطلب يصطدم بجدار المصالح والنفوس.
خلاصة الموضوع، أن الواقع السياسي في المغرب يظل مرآةً لتفشي الفساد على مختلف الأصعدة، فبينما تشهد الحكومة والبرلمان صراعًا داخليًا حول تقارير الهيئة الوطنية للنزاهة، يبقى المواطن هو الأكثر تضررًا من هذا الفساد المستشري، وفي ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإصلاح النظام وفي الجوهر فيه جعل الية ربط المسؤولية بالمحاسبة ممكنة، يظل الفساد أحد أكبر المعيقات التي تمنع المغرب من تحقيق تنمية شاملة وعادلة، وتبقى المشكلة الحقيقية ليست في التقارير التي تكشف عن الفساد، بل في غياب إرادة حقيقية لمكافحته من قبل السلطات المسؤولة، وهو ما يتطلب إصلاحات عميقة في النظام السياسي، وتحقيقًا حقيقيًا للمسائلة والشفافية على كافة المستويات.