
أسيدون يرحل عنا ويسكننا حجراً حجرا
المعطي الذي رحل "عنا ليسكن يافا وغزة وجبال الأطلس الكبير وقلوبنا التي يعرفها حَجَراً حجراً ولا شيء يشبِههُ والأغاني تُقَلِّدُهُ...."[ بتصرف، من مرثية كتبها محمود درويش] تقلد موعده وكوفيته وطربوشه الأحمر...
بقلم: المصطفى مفتاح
هذه المساهمة مهداة إلى كمال لحبيب الذي حمل هذا العبء الكبير من أول أخبار السقوط والغيبوبة حتى آخر التراب ينهال على قبر رفيقنا الفقيد الكبير، حمل العبء آناء الليل وأطراف النهار يُنصتُ، يسنِدُ، يفَسِّرُ، يفاوض، ويتحمل في صبر جميل، كل أطراف الموضوع من الرفاق إلى البوليس، من الدوائر إلى آخر البلاغات، يسند بجسمه النحيل المنهك، تحاليل هذا، ويقين تلك، ورموز ذا البلاغ وذا البلاغ، وبرودة الأجوبة الرسمية، وشبه الرسمية، واتصالات العائلة البعيدة، والمشاكل العملية القريبة، و ما سيأتي بعد أن تتفرق الشعارات والكوفيات وتقطيب الحاجبين، والعناق الشيخ يتلو العناق الذي تفرضه المناسبة والمصورون وأماكن الوقوف خلف اللافتة، والخلاصات العليمة ودموع المتواضعات والمتواضعين من يتامى رفيقنا الراحل، المتعلقة صباحاتهم الذابلة ومساءاتهم، بلوعة الغياب، في الزيارة وبهو المستشفى والهاتف الذي لا يكف عن الرنين، بكلامه الهادئ المُهْتَدّ، وما يبثه من ثبات.
إليك هذا الكلام البسيط، الرفيق الصديق، المتطلع لبلاغةٍ لا لزومَ لها، إلا قلبي المحزون. تحياتي كمال.
دورميسُّون: اليسار يحسن تكريم موتاه”، ربما قال: يحسن تحنيط رموزه
في تأبين “لويس آراغون”[ Louis Aragon شاعر فرنسي كاتب من مؤسسي الحركة السوريالية ] الشاعر الفرنسي، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي، قال الكاتب اليميني “جان دورميسُّون”[Jean d’Ormesson كاتب فرنسي مشهور] في عموده بجريدة “الفيغارو”: -رحل أعظم شاعر فرنسي، فلنتركه لحزبه، لأن اليسار يحسن تكريم موتاه”، ربما قال، يحسن تحنيط رموزه.
وفعلا فاليسار لا يسقط، دائماً، في تقليد تعداد مناقب الراحلين، بمنطق الذكر بالخير في ساعة الوداع.
لكنني سأحاول كلاماً آخر، وليس في هذا الكلام، غير محاولة للحديث عن المعطي بطريقة مفارقة، تتطلع للتعليق الساخر المستَحِبِّ أو للتجاهل.
منذ أول الأخبار حتى الجنازة، كان المعزون السائلون الملتاعون الواقفون الجالسون الماشون، مثنى أو ثلاثة أو فرادى، يستفرد كل واحد منا بأسيدون أو المعطي الذي يعرف، ذلك أن الفقيد على ما نعرف له كلنا من فرادة، كان متعدداً، المؤسسون يذكرون رفيق الأنوية الأولى نهاية الستينيات، والمصطفون حول “وثيقة الأطر”[وثيقة مشهورة لمنظمة “ب” التي ستصبح “23 مارس”] يستحضرون، قائدا لفصيلٍ سيكتشفه الرفاق والبوليس، كان يخدم مع الشعب، والباقون من “مجموعة 48″[مجموعة معتقلين سياسيين في السجن المدني ثم المركزي كان أسيدون من بينهم]، برفيق الأنوية والاعتقالات الأولى، وهم أيضا شِيَع. والناجون من “جيم” و”ألف”، لا ينسون الموسيقيَ والرياضيَ اللطيف، الذي يتخلف عن السجالات المتخاصمة، ليخلد لدفء النقاش المتكرر في “لالا شافية”…..و أبعاده الكثيرة الودودة الصامدة، أبعادٌ تمتنع عن الاجتماع في مقالتي هذه.
سأختار لمن سيقرأ هذه الجمل المتنافرة، ثلاث مسارات للمعطي الذي أعرفه، والتي قد لا يتذكرها الكثير:
الأول هو المعطي الذي أعاتبه، المعطي المؤسس، لحلقة من الحلقات وواحد من المتحلقين، ذات 23 مارس 1970، حول تأسيس المنظمة الماركسية-اللينينية الأولى حسب عقد الازدياد، منظمة “ب”.
ألومه لأنه رحل ورحلتْ معه أسرار كبيرة ومتعدة من هذه اللحظة التأسيسية المهمة، بعفويتها، و”أطرها المنغمسين” ذات بيان وذات وثيقة شهيرة!
كنت أريد أن أسأله، عن سر الخلافات الصغيرة التي انتهت كبيرة قبل أن تعاود الصغر.
كنت أريده أن ينيرني حول الوثيقة التي قدمتها الحلقة التي كان من قادتها، صداقاً في التوحيد، أن يبسط لي ما كان وراء “وثيقة الأطر” وبيان “انغمس بعض الرفاق”[ وثيقة مفقودة لجزء من قيادة منظمة “ب” ينتقدون سلوك رفاق لهم] ثم تأسيس فصيل سري[ فصيل انشق عن “ب” وسيصبح فيما بعد يسمى “لنخدم الشعب من رموزه الراحلون أسيدون وحرزني والدرقاوي] عن الرفاق الآخرين في المنظمة السرية الأم أو البنت.

سيون أسيدون الثاني الذي سأذكره اليوم هو مؤسس “الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة” بابتعادها، فكريا و”طبقياً” عن العنوان اليساري الأصلي للفقيد وبعض مؤسسي الجمعية، وفلسفتها التنظيمية، بما في ذلك، من خصوصيات تَحَمُّلِ المسؤوليات داخلها والتداول حولها، والتوازن الذي استطاعت، وكانت له مسؤولية كبرى في إرسائه، بين الاندماج في صف حقوقي “يساري جداًّ” والانفتاح على صفوف أخرى، وعلى قدر كبير من تحصين الاستقلالية والجرأة على العمل في ديناميكيات “إدارية” والربط بين الترافع العادي وتقديم المشورة والحضور الأكاديمي….في إطار ثقافة استمدتها “ترانسبارنسي الدولية الأم” ،من ثقافة المؤسسين القادمين من البنك الدولي!
وارتباطا، أذكر سيون أسيدون الثالث، كعضو فاعل في “نقابة” الباطرونا أي الاتحاد العام لمقاولات المغرب، وفي نفس السياق، وقفته ذات جمعٍ عام لنفس الهيأة، ليخاطب رئيسها مطالبا بتأسيس إطار متخصص في محاربة الرشوة، فكان له ذلك، وتأسست لجنة لترسيم اهتمام وانخراط “الاتحاد العام لمقاولات المغرب” في محاربة الفساد.
يمكن أيضاً أن أحكي عن أسيدون “رب العمل” البروليتاري بمعنى ما أصيل، المستقل المعتمد على نفسه، أحد رواد تعميم استعمال المعلوميات، في مكاتب المحامين، مثلاً….
ربما أن “المعطي” يجسد في مساره النضالي قدرةً أصيلةً مترددةً، لموجة سياسية ثقافية مناضلة، عرفت الجمع بين التشدد السياسي والفكري والانفتاح العملي في النضال والانفتاح والتكيف مع المعطيات الفعلية والوقائع. وليست هذه إلا إحدى أبعاد أهمية الحركة التي ساهم أسيدون في تأسيسها وأدى ضريبة المساهمة.

وتبقى كوفيته وطربوشه وألمه من سقوط البلاد في مستنقع التطبيع مع الإبادة، نبراسا.
وقدرته على إدراك جبهات مغايرة للنضال من أجل الأحلام التي دفعت جيلاً من الشباب، في المغرب، إلى الانتماء المقاتل من أجل تقدم الإنسان ومواجهة الاستغلال والظلم والتخلف الجاهل، والتقاليد.
يمكن تسجيل الكثير من الأخطاء التي قامت بها الحركة التي كان سيون أسيدون من مؤسسيها، لكنها استطاعت، أن تفتح الأمل الواقعي باستمرار جذوة الجرأة على “خمش سرة الأفق” واتترك أثراً عميقا في التاريخ وسيكون لها شأن في المستقبل، لأنها في حالة “المعطي” أعطت الدليل على القدرة على صنع التاريخ، والإبداع في فتح أوراش غير تقليدية في عملية الصنع هذه.
سلاما رفيقنا المعطي، ناضلت واشتغلت وأبدعت بكل بساطة المتفردين، فسكنت قلوبنا.
بقلم: المصطفى مفتاح




