بكاري يكتب: حوار مع النبيل (المعتقل السياسي نبيل أحمجيق)
يتصل بك النبيل أحمجيق،، هكذا أناديه بالتعريف، ليس لأنه غير نكرة، ولكن لأنه المعادل الموضوعي للنبل،،
يتصل بك، فينتشلك من الحروب المتصاغرة، ومن بذاءات الوقت المتصحر،، باختصار من ضريبة الوضاعة المعروضة علينا يوميا على شكل ذباب وفئران تقتات من موت “النفس”.
وفي حكاية النبل، لم يتغير الرجل مذ عرفته زمن الاعتقالات اللامعقولة، حين تسأله عن أحواله، يجيبك بأحوال رفاقه،، هو لا يعرف التشكي،،ولو أن الشكوى ليست بالضرورة مذلة، فأحيانا تكون تعبيرا عن هشاشتنا المرافقة لشرطنا الإنساني.
سألته عن ظروفه بعكاشة (حين أحضروه للدار البيضاء من أجل اجتياز الامتحانات كان مضربا عن الطعام، ولم يكن وضعه الصحي يسمح بإعادتة لسجن فاس، ولما أنهى إضرابه بقي في عكاشة بسبب حالة الطوارئ الصحية)، فأجابني: ” لقد تآلفت مع السجن، ولكن في رمضان أفكر في ناصر الذي تركته في فاس، الوضعية هناك أقسى من هنا، إنهم لا يناولونه سوى وجبة في اليوم مع الثالثة زوالا، ومنها يجب أن يخزن وجبات الإفطار والعشاء والسحور، أما هنا فعلى الأقل نتسلم وجبة قبل الإفطار، وأخرى في العاشرة ليلا”.
استرجعت الأيام الأولى لاعتقاله، حين كان يطلب منا ألا ننسى معتقلي الحراك في سجون الحسيمة وعين عيشة وتاوريرت وغيرها، ويقول إنهم يعانون أكثر، أو حين كنا نحاول تسجيله في كلية الحقوق، فيقدم لنا لائحة بأسماء معتقلين في سجون أخرى، ويطلب منا بذل ما يمكن بذله من أجل الدفاع عن حقهم في التسجيل بالكليات.
رجل لم يتوقف عن التفكير في المعتقلين الآخرين، وهو في ظروف قاسية،،،
تحدثنا عن سبب اختياره التسجيل في شعبة علم الاجتماع بجامعة فاس، ولمن لا يعرف، فالنبيل كان طالبا في شعبة التاريخ بجامعة محمد الأول (وجدة) قبل اعتقاله، ثم تسجل في شعبة القانون الخاص (فرنسية) بجامعة الحسن الثاني (المحمدية) بعد اعتقاله، واجتاز بعدها بنجاح بكالوريا حرة، ليتسجل في شعبة علم الاجتماع (جامعة محمد بن عبد الله)، وهكذا يزاوج اليوم بين دراسة الحقوق وعلم الاجتماع.
قال لي : قبل وأثناء دراستي في شعبة التاريخ، كنت أومن أن مشكلة منطقة الريف مع المركز هي مشكلة سياسية، ولكن بعقدة تاريخية، وأن دراسة التاريخ بمثابة مفتاح لفهم وضعنا وآفاقنا المستقبلية، ما زلت أومن بهذا، ولكن أثناء الحراك بدأت أكتشف أهمية التمكن من القانون ومن الأدبيات الحقوقية في أي عمل ميداني، وازداد هذا اليقين أثناء المحاكمات، فكان حافزا لدراسة القانون أكاديميا، وخلال أيام وليالي السجن، كنت أقرأ ما يسمح به من تغطيات ومقالات وكتب حول الحراك، فكنت ألاحظ نقصا في فهم سوسيولوجيا الريف، ليس من طرف من هم خارج الريف فقط،بل حتى ممن يقطنونه، وأن كثيرا من حالات الصراع ومن سوء الفهم ومن الأخطاء تجد إجاباتها في السوسبولوجيا، ففهمت أن فهم التاريخ والتمكن من القانون وتحليل الواقع من منطلقات سوسيولوجية سيساعد في فهم الكثير من الأشياء.
قلت له، وهل تجد الوقت لكل هذا؟، فضحك ورد: “ما طلبتي غير الموجود، عندنا نقص في التغذية وفائض في الوقت، إنني أعيش لسجني كأنني سأخلد فيه، وأعيش لحريتي كأني سأخرج غدا”
ختمنا بالحديث عن السجن زمن كورونا، ومرة ثانية يهرب النبيل من الحديث عنه للحديث عن من يحبهم، قال لي: اليوم أحس بما قالته لي أمي في لحظة ضعف، كانت دائما تحاول أن تظهر قوية أمامي، وتخبرني بأن كل أحوال العائلة بخير، حتى اليوم الذي عرفت مرضها بفعل ضغط الأعصاب، فقد كانت لا تأكل جيدا لأنها مع كل لقمة تعاف الأكل، لأنها تتوهم أني جائع، وقس على ذلك النوم والأعياد،، اليوم مع كورونا أعيش ما كانت تعيشه أمي، ففي كل وقت أخاف من أن تصيب العدوى عائلتي وكل أحبابي خارج السجن، أخبار العدوى توترني، ما يخفف عني أن إخواني منعوا أمي من الخروج نهائيا،، ”
ولأول مرة أسمع النبيل يتحدث بنبرة خافتة، وأحس بدمعته التي لم يستطع التحكم فيها : تمنيت في هذه اللحظات العصيبة أن أكون بجنب أمي”
هو النبيل، وأمه العالية،، والعالية اسمها في دفتر الحالة المدنية، وفي دفتر التضحية.