ثقافة وفنون

طلة سريعة… قراءة في قصة “هناك نكمل السهرة” لعلي بنساعود

يطرح نص “هناك نكمل السهرة” معضلة الحد في القراءة: هل لها حدود يحدها النص وبأية مؤشرات تجعل علاقتهما متداخلة بالضرورة، حيث لا يمكن عزل عملية القراءة عما تقرأه؟
من أوليات القراءة، أن ننصت إلى المعطيات اللغوية للنص، على الأقل عبر تراكيب جملها. نقول على الأقل، لأن أية قراءة، وكيفما كانت، هي آثِمَةٌ، يستحيل أن تكون “محايدة” بإلغاء ما يحرك محفزاتها؛ غير أنها تبغي، وما أمكن، تحصين ذاتها بما يسمح لها النص قوله.

بقلم
بقلم: المصطفى بلعوام

في النص “امرأة ورجل”؛ ينتهي بهما المطاف إلى شيء “غريب”: “بدا لي ذكر فراشة أحب النار،
أغواه لهيبها… تساقط رماد جناحيه… وقعت جثته على اللوحة.”

هل يعني هنا أنها “بائعة الهوى”؟ لا شيء يقوله النص حول إن كان الهوى موضوع خدمة (بيع) يقابله شراء.

فما يقوله هو ما يأتي على لسان الساردة التي لا تقول إنها “بائعة الهوى.” وإحالتها بالقراءة على أنها كذلك هو “حكم أخلاقي” براني عما يتضمنه النص؛ وهو ما أتركه جانبا على الأقل مؤقتا حتى لا أنزلق في قراءته بخطاب وازعي الأخلاقي. غير أن الذي هو مؤكد وبين فيه هو أن من يحمل القصة بضمير المتكلم “امرأة” أي أنها سيدة الحكي؛ تحكي ذاتها انطلاقا من ذاتها عن “تجربة قصصية” بقلم الأستاذ علي بنساعود. ماذا يعني ذلك؟ يبدأ النص بلوحات وينتهي بلوحة؛ تأشيرة على أننا في عالم فني؛ ولا غرابة أن يكون لصاحبة الحكي شيئا تقوله حولها مادامت هي مفتعل الحكاية. لكن هل محتوى ما قالته عنها ذو ثقافة عالية “شاذة وشخصيتها في القصة”؟ ماذا قالت :

“حين تأملتها (..) توقعت أنها (..) كانت تروي (..) تعبر (..) تعرض حياتهم الصعبة (..) —- وبطريقة فنية موحية (..) تحكي قصص (..) لوحة مثيرة شدتني ..” يعني أن الساردة تعطي انطباعاتها حول ما تراه وما تراه يجس نبضها وإلا ما كانت الحكاية من أصلها. لهذا، لا يعني أن تعليقها ينم عن “ثقافة عالية”، فقط الأمر عبارة عن تداعيات لمن هو مهتم بالأمر، ولو في حده الأدنى (“تأملتها/توقعت/تحكي ..). لا يقين فيما تقوله غير انطباعاتها. وانطباعاتها تتوزع على قسمين: انطباع وصفي مبني على ما تبعث به البورتريهات الأولى عبر التقاسيم والوجوه من تعبير عن “حالات ووضعيات”؛ وانطباع تأويلي يقرأ أبعد ما تعطيه الحالات: لوحة لمجهولين يبدوان لها مسكونين بأرواح غربية، وأخرى لمبدعة ماتت منتحرة حسب ما ترى، يبدو لها أنها التقطت لها في لحظة شرود حالم، هربا من واقع غير مسعف، أكيد أنها عجزت عن مواجهته، وأخرى لامرأة لم تتعرف عليها، وما سألته عنها، كانت عيناها ضيقتين، ونظراتها منكسرة، لعلها نظرات حزن وخيبة أحست بها راغبة في الابتعاد عن الاخرين.”. تتحول الانطباعات إلى إسقاطات تعبر عن حالة بطريقة غير مباشرة؛ لأن الذي يهم فيها ليس اللوحة بذاتها، بل ما تسقطه عليها. وما تسقطه هو مكنون “الشخصية” وحالتها .. وبطريقة أخرى، إنه السرد بطريق الوصف الذي يحرك الشخصية بشكل عكسي من خلال إسقاطاتها، عكس ما عودنا عليه أو اعتدنا عليه في التقسيم بين الوصف والسرد الذي انبنى عليه التصور الكلاسيكي.
أبن الحدث؟ أين الحبكة؟ أين السقطة؟ هذا ما يدعونا إليه نص “هنا تكمل السهرة” الذي يختار نهجا آخر في كتابة القصة وفي قراءتها.

وهو يتماشى فيما أعتقد مع حركة أدبية كان همها تقويض “السرد” في الكتابة القصصية.

فلا حدث يحدث في “الحكاية” التي تعتبرها هي ذاتها حدثا، ولا شخصية تنمو معه، وفق تدرج خطاطة: مقدمة وحبكة ونهاية. وعليه، لا يتعلق الأمر بنص موارب يفتقر إلى حكاية – بمعناها السردي- بل بكتابة تقوم على سردية الرصد لحالات تخفي الحدث والشخصية في توهجها الصاخب، معتمدة على لغة لاسردية إن صح التعبير ومتمحورة حول وشاية دلالة العلامات في النص. وشاية بمعنى أنها لا تتبع خط التركيب النحوي الذي يفضي إلى معنى، أو حتى تداعيات الوحدة الصغرى في تصعيد السرد طردا وفق منطق فعل وفاعل، بل على بلاغة العلامات داخل بلاغة النص. (الأستاذ سليمان جمعة). لهذا فإن اللوحات كما قلنا هي علامات تسكنها إسقاطات المرأة وهدف الرجل الذي لا يهمه فيها غير جمالية التعبير الفني، وعيون من فيها باعتبارها نوافذ الروح:

– العيون — نوافذ الروح/ عيون ثابتة في اللوحة- لها روح فاتنة —- وجهها (عيونها) لا يستقر على حال، فهي ليست لوحة وبالتالي يصعب القبض على روحها الفاتنة
– تنخطف نظراته —- لا تصبح عيونه نوافذ الروح ..

فيسقط جثة وليس صورة على اللوحة. ماذا يعنى ذلك؟ ولماذا أحب النار بدل الضوء؟ وما علاقة الغواية بذكر فراشة؟
أعتقد أن الأجوبة عن هذه الأسئلة تدعو إلى قراءة النص من خلالها بشكل رجعي.
والملاحظة الأخيرة، تخمينية لا غير، هي أن الأستاذ علي بنساعود عول في تقسيم النص على كلمة “ما رأيك” كنقلة بين “مشهدين”، إلا أنها جاءت عنوة دون تأشيرة، مما شوش النص.

بارك الله فيك أستاذ علي بنساعود على هذه القصة الجميلة بلغتها المحايثة وتكسيرها لنمطية القص بإبداعية.

_قراءة منشورة بمجموعة فيسبوكية: “واحة القصة القصيرة” بتاريخ 02 يناير 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى