ثقافة وفنون

الكاتبة السورية يارا عام تكتب: الملهاة السورية في رواية غريق جنة الإغريق

ظهر أدب الحرب السورية كحالة سياسية تعبر عن قناعات الكاتب السياسية وكثيرون من الذّين كتبوا عنها لم يستطيعوا التعبير عن تلك الحرب بالشكل المحايد الذي يصف أزمةً وآلام شعبٍ بعيداً عن التطرف السياسي أو القناعات المعلبة لصالح جهة محددة والتحدث عن تلك الحرب من منظار محايد وأدبي.

الحرب مرة أخرى: رصاص قاتل حبر الكتابة

الرصاصة لا يمكن أن تكون إلاَّ رصاصة وحدهم الكتَّاب يستطيعون تحويلها لقضية أو قصيدة أو لوحة على جدار، والمنفى لا يمكن أن يكون إلا المنفى، ولكن المبدعين بإمكانهم تحويله لنص يؤخذ ثلاث مرات في اليوم، الحرب هي الحرب وهي أسوأ الأطباق التي قدمتها الحضارة للإنسان، ولكنها الأكثر إلهاماً للكتاب على مر العصور،

رواية
بقلم الكاتبة السورية: يارا عام

في الحالة السورية وباعتبار أدب الحرب أدب لا يزال يحدث والقناعات حولها لا تزال متحولة وسائلة ظهر أدب الحرب السورية كحالة سياسية تعبر عن قناعات الكاتب السياسية وكثيرون من الذّين كتبوا عنها لم يستطيعوا التعبير عن تلك الحرب بالشكل المحايد الذي يصف أزمةً وآلام شعبٍ بعيداً عن التطرف السياسي أو القناعات المعلبة لصالح جهة محددة والتحدث عن تلك الحرب من منظار محايد وأدبي.

فمحاولة صبّ معاناة شعب ما على الورق من أكثر الأمور تعقيداً. ومحاولة التوصيف تختلف عن محاولة الاسقاط وكلاهما يختلفان عن البيان العسكري، فالروايات التي تجذبك لتنغمس بين كلماتها وتعيش مع شخصياتها؛ هي روايات في الدرجة الأولى تعبر جمالياً عن الكارثة وتقرأها من منظور وزاوية رؤية عالمة وعميقة بعيداً عن التهييج ورأي الشارع.

خاصة إن كانت تتناول الواقع الجدلي والقناعات غير المحسومة لدى الإنسان السوري حول رؤيته لما يحدث، وقدرتها على جذب القارئ ينم عن حالة الكاتب المعرفية وقدرته على المشي على حبال مبدأ (لا أدري) وعرض خيوط الواقع وتطريزها بلمسات من فنّ خياله دون تبني أي حقيقة.

التناص المكاني الدلالي وخفوت الهوس السياسي

الكاتب (رواد العوّام) الذي استطاع من خلال روايته {غريق جنة الإغريق} أن يحلّق بنا إلى كلّ مكان ذكَره، وضع العمل في خانة القراء المشروطة بالفهم العميق، والمطرزة بلمسة إنسانية بعيداً عن ذكر السياسي سوى كحدث مسبب للحدث الفني، وابتداءً من المقاهي إلى الميناء والسفينة وحتّى بيت أم حنا الكائن في حيّ عشوائيّ يصخب بصراخِ أطفال النازحين، ورائحة الجور الفنيّة، وتسوده النفوس البائسة للعمال والنازحين السوريين والفلسطينيين في لبنان.

سوريا

ليس فقط الأماكن، بل حتّى الأشخاص؛ ستظن أنك قادر على الاتصال بهم لتعرف مصيرهم بعد الانتهاء من القراءة التي لم تترك لك سوى نافذة مفتوحة على الخيال، إنّك قادر على تصورهم أمام ناظرك وسماع أصواتهم حيث يبدأ المشهد من إحدى المقاهي البحرية في لبنان على طاولة تجمع ثلاثة أصدقاء سوريين_ نديم وعماد وصفوان _قذفتْ بهم ظروف البلاد إلى لبنان ليكون محطة مؤقتة لهم.

مرة أخرى: لبنان العبور والحلم المؤجل

لبنان المنفى الدافئ لجميع المنفيين سيكون ساحة الحدث الأساسي للرواية حيث سيعملون ويصادقون بشكل مؤقت ريثما يحالفهم الحظ ليعبروا من بلاد الجحيم كما سماها نديم إلى الجنة. وهنا يبدأ الكاتب رحلته داخل الشخصيات ويقطع أعماقاً في جغرافيا الأبطال في روايته وتتعقد الأحداث والعلاقات الشخصية لكل منهم، فيتعامل مع نماذج بشرية مستقلة ومتفردة ويضعها تحت مجهر الحدث لتعبر عن نفسها، ففي هذه الرواية سنعيش قصة كاملة مع كل شخصياتها المتنوعة من النذل إلى البخيل إلى المقدام والشجاع إلى المنتمي إلى اللا منتمي إلى العجوز في أواخر العمر

بحبكة أحداث شيقة للغاية وأسلوب بعيد عن التعقيد والمبالغة سنرى كيف قضى الشبان الثلاثة (أبطال العمل الرئيسيين) فترة إقامتهم في لبنان وكيف تعاملَ كلٌّ منهم مع من حوله بناءً على جوهر أخلاقه وطباعه..

في هذا الجزء من العمل يطرح العوام أسئلة عميقة جداً عن الوطن والانتماء والحرب والهجرة والحب والخذلان والجنس وكأنه يعمر لوحة فسيفساء يظهر لنا في آخرها هويتنا الواضحة، فالنص لا يسحب شخصياته من المريخ، إنهم نحن بكل بؤسنا وعقدنا وأزماتنا النفسية وعدم انتمائنا للخبز والملح والأرض التي حرمنا الآخرون الانتماء لها، فهل يُعقل لمَن استغلّ شخصاً أحبه وائتمنه فترك به ندبة عميقة وعقيمة الشفاء؛ أن يكون أكثر إخلاصاً لأقرب أصدقائه في درب السفر؟؟

هل يعوض الحب المال، وهل حقاً هناك قيم بقيت في مجتمعاتنا أم أن الحرب حولتنا لمشردين بلا وطن ولا أرض ولا مبادئ؟؟ وهنا تصل الرواية للذروة الأولى التي تكاد تكون علو شاهق جداً ويضع الكاتب القارئ أمام جملة مفتاحية ولا يمكن أن يكون لها مجرد جواب واحد فهل لجوئنا عبودية بربطات عنق؟

أم أنّه فعلاً ملجأ لبلاد تحقيق الأحلام والعيش بسلام؟؟ وهل فعلاً حيطان برلين ببرودتها أحنُّ علينا من جدران أبنيتنا التي تدفئها أصوات جيراننا وأهلنا؟ ولكن أيضاً تلطخها الدماء ورائحة البارود؟؟ ويحترف الكاتب أكثر بطرح السؤال فما الذي دفع آلاف الناس للزج بأرواحهم في مزاجيّة أمواج البحر المتقلبة، والتعامل مع النصابين وتجار البشر أمثال أبا طارق والبرغوث؟

القارب المطاطي: جنازات البحر والحبر

لا، ليس القتل والرصاص هو الدافع الوحيد فمن خلال الرواية سنجد أنَّ ليس لجميعنا أهدافاً نبيلة في البحث عن حياة أفضل ومِن خلالها أيضاً سنعبر تركيا ومقدونيا وصربيا فتارةً سيعلو بنا خيالنا مع القارب المطاطي حتى نلامس السماء، وتارة سينخفض بنا لنلامس قاع البحر، وبين السماء والبحر سنبكي ونشعر بالاختناق ونعيش جزءاً من أتعس وأكثر اللحظات التي عاشها اللاجئون رعباً.

تُرى من اختارت الأمواج من بين أبطالنا الثلاثة قرباناً لها؟؟
وهل نحنُ فعلاً مجرد سلع وأرقام لفظتها بلاد الجهل والنار؟

أم مبدعون ومفكرون وجدوا فرصة للجوء إلى بلاد الحبّ والحريّة، فشقوا طريق رحلتهم بأرواحهم ودمائهم؟

رواية

كثيرةٌ التساؤلات، وكثيرة المشاعر التي ستتقد داخلنا بعد قراءة هذه الرواية. والمثير للإعجاب هو قدرة الروائي على وصف محطات العبور لجنة الإغريق بدّقة، ووصف مشاعر العابرين التّي امتزجت مع ملوحة البحر واصطدمت بقسوة وتجهم أمواجه؛ دون أن يلمس تلك التخبطات وألسنة النار بنفسه.

الحزن باق… رغم الوصل: هل وصلنا…؟

لم تكن الرواية مجرد قصة وبناء فني، لكن العمل يوظف الكوميديا السوداء لتلافي وقوع القارئ بالسوداوية، لتصل إلى ثلث العمل الثاني وأنت تقرأ وتضحك رغم كل المآسي في النص قبل أن ينقلب النص على نفسه وعلى القارئ لبدأ في الثلث الأخير باختبار قدرة قلوبنا الضعيفة على التعامل مع الحزن الاستثنائي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى