الرئسيةرأي/ كرونيك

الجامعات الخاصة وعملية التصحر المعرفي

محمد حمزة أستاذ التعليم العالي – كلية العلوم ابن امسيك الدار البيضاء
لا يمكن نكران أن التعليم الجامعي العمومي أعطى للمغرب أغلب أطره الحالية وساهم في تحرير البلاد، رغم عدم اندماج هذا التحرير داخل تصور متكامل واختيارات هادفة و أولويات محددة داخل الزمان والمكان وداخل مجتمع ديمقراطي المؤسسات والممارسة.

إن الإصلاح القطاعي أو العام هو أولا و قبل كل شيء, يقول الأستاد عبد الله العروي، ثورة ثقافية/سياسية على العقلية المحافظة وعلى طرق تسييرها وتدبيرها .إذ لا إصلاح بدون إحداث قطيعة مع ماض أضحى يشكل عائقا امام تقدم المغرب وتطوره نحو مجتمع العلم والمواطنة ومغرب الديمقراطية والحرية والمساواة.

فإذا كان ولا زال الإصلاح ضرورة و طنية من أجل ولوج مجتمع المعرفة لتجاوز تأخرنا التاريخي بالبحث العلمي وجعل الجامعة قاطرة للتنمية و مجالا للتكوين والتأطير الديمقراطي والمواطناتي، فإن الكوابح أساسها الترددات السياسية التي تعيق ربط إصلاح التعليم العالي بالمشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي العادل و المتضامن.

إن الإصلاح الأخير للتعليم الجامعي أو إصلاح الإصلاح ,الذي سمي بـ”البرنامج الاستعجالي” لم يساهم إلا في تعميق الأزمة ,لأنه لم يساءل لا البرامج و لا المضامين ولا شروط التكوين (التي لم تتحسن بالعكس تدهورت) ولا بنيات البحث العلمي (التي لم تتعزز) ولا الهياكل المؤسساتية (التي لم تتدمقرط).

فبعد سنوات من التجريب نحن أمام تغيير لنظام الامتحانات وتمديد شكلي للسنة الجامعية.

لذلك لم يكن من قبيل المفاجئة أن تحتل الجامعات المغربية مراتب متدنية في تصنيف الجامعات في العالم: الرتبة 5026 عالميا لجامعة القاضي عياض “مراكش” و31 إفريقيا، والرتبة 5434 عالميا للمدرسة المحمدية للمهندسين “الرباط” و37 إفريقيا، والرتبة 6053 عالميا لجامعة الأخوين “إفران” و57 إفريقيا، وأخيرا الرتبة 7036 عالميا لجامعة محمد الأول بوجدة و83 إفريقيا.

إن الرهان على التعليم العالي الخاص لحل أزمة التعليم العالي ببلادنا هو رهان فاشل . لان فلسفة الجامعات الخاصة فلسفة سلبية تضر بالمجتمع, إذ تقوم على الربح كهدف رئيسى ولا تخدم إلا الأثرياء فقط وتعمل على تمكينهم من التمتع بامتيازات خاصة مقابل جني الأرباح الطائلة.

وإن الهدف الحقيقى من إقامة هذه الجامعات هو التخلص من مبدأ تكافؤ الفرص وذلك بعكس الجامعات الخاصة فى الدول الرأسمالية والتى برغم كونها ملكية خاصة إلا أنها تقدم خدمة عامة للمجتمع ولا تهدف للربح.

التعليم العالي الخاص سيكرس التفاوت الاجتماعي والثقافى داخل بنية المجتمع ويشكل خطرا على فكرة الولاء والانتماء للوطن. فمن المسلم به أن تحقيق السلام الاجتماعي بين أفراد المجتمع يتوقف بدرجة كبيرة على شعور أفراده بأنهم متساوون أمام الفرص المتاحة في المجتمع، وأن التمييز يتم على الأقل بالنسبة للخدمات الأساسية، لا على أساس من الإمكانيات المادية.

فمن واجب الدولة إزاء مواطنيها أن توفر لهم الخدمات الأساسية ومن بينها بطبيعة الحال التعليم.

إن بروز ظاهرة التنامي الغير المراقب و غير الموجه لقطاع التعليم العالي الخصوصي ببلادنا يطرح العديد من التساؤلات المشروعة حول جودة وأدوار ووظائف هذا التعليم: ما هي اسباب و مبررات الكلفة الباهضة لبعض انماط هذا التعليم؟ كيف يتم تحديد برامجه و مناهجه؟ ما هي آليات المراقبة المعتمدة فيه؟ ما هي شروط و اوضاع البحث العلمي والأطر الباحثة فيه؟ ما هو المصير المهني لخريجيه؟ ما هي الحاجات الفعلية و المفترضة أو المطلوبة والمتوقعة لشعبه وتخصصاته التكوينية والمهنية؟ هل يستجيب لطلب تربوي و اجتماعي حقيقي أم لطلب افتراضي أو وهمي؟ وبالتالي ما حدود و إمكانات ومصاعب مساهمته في التنمية البشرية والاجتماعية و تكوين المواطن بشكل عام؟.

إن سياسة فتح الباب على مصراعيه للجامعات الخاصة ببلادنا تحت دعوى “عولمة التعليم العالي” يعتبر مدخلا لعملية التصحر المعرفي بتجريف التربة الأكاديمية بالمغرب عبر استغلال الظروف المادية لأغلب أعضاء هيئة التدريس “على شاكلة المدارس الخصوصية في الابتدائي و الثانوي”.

فالجامعات الخاصة ستقوم بجذب خبرة الكفاءات العلمية الوطنية، ولا يهم هذه الجامعات الرامية إلى الربح أساسا إلا المرحلة الجامعية الأولى حيث أعداد الطلاب الغفيرة وضخامة الرسوم التي تحصل منهم , وهو الأمر الذي أحال الخدمة التعليمية إلى عمل تجاري محض هدفه الأول هو تحقيق أقصى عائد استثماري.

في ظل هذا الوضع علينا أن لا نتوقع أن تنشغل هذه الجامعات الخاصة بالدراسات العليا و البحث العلمي الجاد، نظراإلى ارتفاع الكلفة وقلة العائد على المدى القصير.

وبتحالف تجريف التربة الأكاديمية من طرف الجامعات الخاصة مع تجفيف المنابع، بفعل هجرة الأدمغة بتنامي حركة العولمة، و ما صاحبها من استبداد شراهة الدول المتقدمة على التهام نخب عقول الدول النامية و مع تصاعد عمليتي التجريف و الاستنزاف، سوف يصيب وباء التصحر المعرفي، إن آجلا أم عاجلا، جامعاتنا ومراكز بحوثنا.

إن المطلوب الآن بعد الوعي بالأزمة و تحليلها تحليلا موضوعيا هو تبني سياسة وطنية ديمقراطية لانقاد التعليم الجامعي العمومي قبل فوات الأوان , وعندها فتصدع البنية الأكاديمية الوطنية لن يجدي علاجه باستيراد الجامعات الخاصة.

إن الجامعات لا تستورد، فهي قبل كل شيء كيان اجتماعي لا يكتب له النمو إلا من خلال الارتباط الوثيق بمجتمعه، والتفاعل الحي مع مشكلاته وتلبية طموحاته.

إن تجاوز تأخرنا التاريخي بواسطة المعرفة ورفع تحديات الثورة المعرفية و التكنولوجية وتحديات العولمة يحتاج إلى جامعة وطنية حيوية ومنتجة وإلى وسط جامعي يلعب كل أدواره الأكاديمية بدقة وصرامة، ليقود من جهة إلى انخراط البلاد في الثورة المعرفية الكونية المنشودة وليمارس من جهة ثانية وظيفته النبيلة كضمير نقدي للبلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى