الرئسيةثقافة وفنون

فيلم أسماك حمراء : واقع مغربي دون تزييف

تعيد “دابا بريس” باتفاق معه نشر هذا المقال لكاتبه صاحب صفحة “سينما فقط” سليمان الحقيوي، وهو المقال الذي نشر في 18 أكتوبر 2022

بقلم سليمان الحقيوي الكاتب ولبناقد السينمائي

عندما أبدى “أندري بازان” إعجابه الشّديد بأفلام “فيتوريو دي سيكا” -وغيره من رواد الواقعية الإيطالية – كان يثني كثيراً على قدرة هؤلاء على السّماح للواقع بالنفاذ إلى الفيلم، وأنّ هذا الواقع كان يمرّ دون تزييف أو تلفيق، إنها إحدى الميزات العظيمة للسّينما الواقعية، التي تلائم في لغتها ما تلتقطه الكاميرا من حيوات على الطرف المنسي للمجتمعات وتخومها المهمّشة، عبر لغة سينمائية متقشّفة تناسب هذا الواقع.

في فيلم أسماك حمراء (2022)، آخر أفلام المخرج المغربي “عبد السلام الكلاعي”، (1969)، لا يتأخر إدراكنا للمرجعيات الذي تلتفّ فيها القصّة، وتحيط الشّكل قبل المضمون، يختار المخرج لغة سينمائية في غاية الاقتصاد، كاميرا صغيرة محمولة في أغلب الفترات، إضاءة طبيعية في غالبيّة المشاهد، فضاءات حقيقة…

إنها لغة سينمائية تناسب تماماً حكاية الفيلم. نتابع قصّة لسيدّة تدعى “حياة” (تمثيل جليلة التلمسي)، تخرج من السّجن بعد قضاء مدّة طويلة خلف قضبانه، تريد استعادة جزء من عمرها الباقي، لكن المجتمع من حولها يعاندها في هذا المطلب الصغير! أخّ يدفعها بعيداً عنه مخافة العار وتسلّط الزّوجة، أو ضيق الحال! ابن يرفض النظر في عين أمّه وسماع جانبها من رواية القصّة التي سمعها مرارا عن أمّ قاتلة.

المخرج المغربي “عبد السلام الكلاعي”

تبحث حياة عن عمل دون جدوى، وبعد مساعدة أخيها أداء (أمين ناجي) تجد عملاً في مصنع للسّمك، قبل أن يلفظها المكان وناسه بسرعة، لحسن حظها تخرج من هناك بعلاقة متينة بـ”أمل” (أداء فريدة بوعزّاوي)، رابط علاقتهما يبدأ بسرعة، وتنتهي علاقتهما بالمصنع أسرع، ثم تجرّبان معاً، حظّهما في العمل وسط حقول جني الخضار والفاكهة، وليس هناك غير جحيم آخر ينتظر، فمشغلهما يتحّرش بكل امرأة تلفت نظره، ومن سوء حظ حياة أنّ بعضاً من جمالها الذي لم تكسره الظروف وضعها أمام خيارين؛ أن تسلّم جسدها له أو أن تغادر، لكنها ستختار حلاً آخر ! أن ترهب هذا الرجل المتسلط، الذي لم يخطر على باله أن ترفع امرأة منكسرة سكينا في وجهه وتخيّره بأن يبتعد عنها أو سيكون مصيره مشابه لزوجها الذي قضت 15 سنة سجنا بسبب قتله، وهي المناسبة الوحيدة التي ستبوح بقصّتها لأحدهم بشكل مباشر، تنتقل حياة إلى العيش مع أمل في بيتها وترعيان معا أختها هدى التي تعاني إعاقة جسدية. تجتمع ثلاث حيوات جار عليها الزّمن، وتجدن السلوى في هذا المشترك بينهما، حب وعاطفة تلف البيت الصغير الذي يكفيهن بالكاد.

الممثلة المغربية جليلة التلمسي

تنويع الفيلم بين فضاءاته المغلقة والمفتوحة (مصنع، بيت، فندق، حقل…) لم يحجب عنا استمرار الاحساس بالضيق، ضيق السّجن تحديداً، فرغم انقضاء مدّة سجن حياة، تتحوّل إلى سجينة في ظروف أخرى، الأمر يُذكِّر (بمسار “سعيد مهران” في فيلم اللص والكلاب (1969) لحسين كمال، لم يخرج من سجن إلا إلى سجن أكبر، مجتمع، شرطة، ظلم…وصراع من أجل استدراك ما فات)، وحتّى الفتاتان اللتان وضعهما القدر في طريقها لا تختلفان عنها في شيء، فأمل تعيش سجنها الخاص؛ عقوبتها أن توازن بين العمل ورعاية أختها في معاناة سيزيفية، حلمها بالهجرة/الهروب من واقعها يتأجّل يوما بعد يوما، وفرصتها في علاقة حب معدومة، أمّا هدى فعقوبتها الإعاقة؛ حياتها مرهونة بآخرين؛ حركة، أكل، استحمام…) إنهن ضحايا مجتمع، قوانين، ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهكذا ترتفع نبرة الاحتجاج في الفيلم، يتردّد صوت المحتجين وتكثر الأسئلة، أين هي عائلة الاختان أمل وهدى؟ هل اختيار أمل هجرة أختها صائب؟ ثم ما نفع وجود عائلة إذا كانت ستؤول إلى مصير حياة، كم هو عدد النساء ممّن يعانين نفس المصائر؟ يتبدّد جزء من ذلك بين إحساس بالحنق والاستسلام، لكن بقناعة أكيدة بأن الحياة صعبة في هذه البقعة من الأرض، وأصعب بالنسبة للأضعف.

مصائر من شاهدناهن لا تختلف كثير عن الأسماك الموجودة في حوض صغير التي اتخذ الفيلم عنوانه من دلالتها، وللمفارقة فحياة اشترت حوض زينة صغير، بدافع العطف بعد إصرار طفل يبيعها، أخبرته أن السمكة ستموت بسرعة.. هفّ له قلبها فاقتنتها رغم ضائقتها المالية، بينما هدى الأكثر معاناة وإنسانية أيضا، كادت أن تموت لأنها أرادت تغيير ماء الحوض، ستقترح عليهن تحرير السّمكة واعادتها إلى البحر، ورمزية ربط الحل بأقلهن حيلة وقدرة، واكثرهن إحساسا بمعاناة السمكة، نقل مستوى الفعل في الفيلم، إلى المبادرة التي بدأت بتحرير السمكة.

الممثلة المغربية جليلة التلمسي في لقطة من الفيلم

 

ففي لحظة تعيد القصّة قائمة الاختيارات إلى شخوصها، لكنها اختيارات مصحوبة بالألم والمرارة، تحيي أمل حلم الهجرة، وتفارق أختها وصديقتها، وتضطر حياة أن تأخذ هدى إلى دار رعاية، يجرّنا الأمر إلى مرارة أخرى لأنّنا نعرف ظروف دور الرعاية. وبعد إصرار حياة وتكرار زيارة ابنها يحنو له قلبه في النهاية.

يهتمّ الفيلم بقصّة تحدث الآن، يُدين واقعاً نعيشه ويستمر في التدفق وحصد الضحايا، ضحايا نساء تحديداً، دون أن تتدخل يد بيضاء لتوقف عبثه، بل يتواطؤ الجميع في استمراره وتفشيه، تتردّد أصوات هنا، أفلام كثيرة ” واقعيّة تحديداً ليس من جانب القصّة بل أدوات إيصالها، في شريط الصورة مثلا، يبدو شريط الصورة -خصوصاً في الفضاءات المفتوحة، دي جودة مختلفة/أقل جودة، ويجب ألا تُفزعنا الكلمة لأنها جمالية حرص الفيلم على التعبير من خلالها في مشاهد كثيرة، إنّها صورة تناسب الواقع الذي تحكيه؛ واقع قاسي، يعذب الناس، ويضعهم أمام خيارات قليلة، لا بد إذن، من التعبير عن ذلك دون تزيف، وإلاّ فهناك خيانة لهذا الواقع، ويجب أن نستحضر هنا مرجعيات الفيلم التي تعلي من قيمة وسائلها، نذكر مثلا ما واجهه روبيرتو روسيليني من مشاكل في تمويل فيلم “روما، مدينة مفتوحة” (1945) كصعوبة الحصول على خام الفيلم، ما اضطرّه لاستخدم شريطا ذو جودة رديئة، الأمر الذي انعكس على الصورة التي بدت وثائقية، تميل إلى الرمادي أكثر، لكن هذا الاختيار أعطى تأثيرا جماليا عن الواقع والحياة، لم يكن ليحصل -حتى- مع تمويل جيّد، وهي ملاحظة يمكن تعميمها عن الكثير من السينما الإيطالية الواقعية. وهكذا تصير الصورة في “أسماك حمراء” وثائقية، تضع الفيلم كما موضوعه في منطقة “البين بين” الوثائقي- الروائي، وهي وجهة متداخلة تصبو إليها كلّ الأفلام الكبيرة كما صرّح بذلك “جون لوك غودار”.

قساوة الفضاء تتضح أكثر في الأمكنة التي تتحرّك فيها الشخصيات، معامل تغييب فيها كرامة العاملات وحقوقهن، وهو فضاء سبق أن ظهر بنفس القسوة، في الفيلم الطويل الأول للمخرج “ملاك”، فضاء المصنع هو مدخل لمآسي كثيرة، في المغرب قصص هي عنوان لتتراكم المآسي. والتقابل المضمر الحاصل بين والسجن والحرّية يتعمّم في دلالاته على حلم العبور والهجرة، التي وإن اقترب منها الفيلم بنعومة فهي من قضاياه الأولى، كيف يصير المرء مدفوعاً إلى المغادرة، في غياب كلي لأي خيار آخر !

تظهر إدارة الممثل لطاقمه، في اختياره الأداء الهادئ في شخصية حياة تحديداً، الأداء المعتمد على الصدق أولاً، تنجح “جليلة التلمسي” في التماهي مع الدّور و التعبير عن الألم والقسوة والظلم وتمرّ من امتحان تصديق المشاهد لها، ولا داعي للتذكير هنا بأنّ المخرج قد يحرم الممثل من مصادر التأثير المعتادة في التلفزيون؛ دموع مجانية، صراخ، انفعالات…ليس أمامها غير الذاكرة والمشاعر الحقيقة والخيالية كسند، نفس الأمر يمكن قوله بالنسبة لشخصية “أمل”فريدة بوعزاوي، أمّا شخصية “هدى” فجعلت نسرين الراضي تختبر أرضاً جديدة عليها كلياً، فتاة معاقة جسديا، بالكاد تصدر أصوتاً للتعبير عما تريده، تنجح كثيرا في هذا التحدي ولو أنّ نصف مدّة ظهورها أمام الكاميرا، لم تكن لتغيّر من جمال أدائها.

لا يمنحنا فيلم أسماك حمراء” أملاً كثيرا، لكنه يترك بابه موارباً، يفتح نافذة على الواقع، ويستلّ قصّة حقيقية، تتأمل الناس في مغرب مُتغّير باستمرار (وكم نحتاج لأفلام شاهدة على هذا التغيير)، ومع تغيّره تضغط عجلة الرحى على الفقراء لوحدهم، استمرار المعاناة في الفيلم، يعني استمرارها في الواقع، وسعي السينما يجب أن يظلّ دائما نقل معاناة المهمّشين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى