الرئسيةسياسةشواهد على التاريخ

في وداع “النبـيّ المجهـول” ليســار صامد ومكابر، لن يقتـله سوى جُنـونــه !..الحلقة الثانية: في جلائل أعمال إبراهيم ياسين

° بقلم: زكري عبدالرحمن

لم يسبق لي أن تعرفت على رفيقنا الغالي الراحل إبراهيم ياسين، قبل ذلك اللقاء الذي أتيحت لي فيه لأول مرة، فرصة رؤيته رؤية العين، في بداية الثمانينات من القرن الماضي. حصل ذلك بالرباط، سنة 1982، بمنزل أحد من الرفيقين الأخوين البنشقرونين، السي محمد رحمة الله عليه، أو السي عبد العالي أطال الله في عمره، وذلك، قبيل انتزاع منظمة “23 مارس” لحقها في العمل الشرعي بقليـل.

إبراهيم ياسين

في جلائل أعمال إبراهيم ياسين

أما جلائل أعمال الفقيد إبراهيم ياسين، في الأخلاق كما في السياسة، التي لا يبلغها العدّ والإحصاء، فذلك ما يمكن أن يستفيــض في القول فيه وحوله، كل من عرفه أبـاً وإنساناً، أو جاراً أو رفيقاً، أو مناضلا سياسيا وجمعوياً، أو زميلا باحثا أكاديميا…

كان هذا الرفيق أباً راعياً يحمّل نفسه تلقائيا أوزار كل الواجبات، صغيرها وكبيرها…إزاء الأقربين والأبعدين…
أكثر ما كان يحرجه، وقد يجعله يتأفف، أن يقال عنه في حضوره حكيم أو زعيم، وهو الزعيم حقا والحكيم حقا الذي انتزع اعتراف وتقدير كل زعماء الطيف السياسي الوطني التقدمي واليساري…

نعم، يقال بأن أشد من قد يتحسس المرءُ منه هو القرين، الشبيه في المهنة أو النشاط…مثلما يتحسس الجزار من الجزار، والإعلامي من الإعلامي، والفنان من الفنان… والزعماء: هل يشذون في علاقات بعضهم ببعض، عن هذه القاعدة؟

قد نميـل إلى أن نجيب بلا مستقيمة وواثقـة…خصوصا وأن زعيما آخر بالنسبة لأي زعيم هو دائما كائن مزدوج الوجه: فهو شبيهه، وقريبه، المنتمي والمشارك معه في الزعامة، كمقولة وكَمجتمع، ولكن وجـوده بالذات من ناحية أخرى، كمنافس وكمزاحم، هو على نحو ما – وهنا مربط الفرس- النفيُ المباشر لكل زعامة مخصوصة، زعامة هذا الزعيم أو ذاك…

إنما، هاهو هذا الرفيق، مرة أخرى، يكسر القاعدة، وهو الذي يدرك بطبعه، وبحدسه، وبمعرفته، كم هو مرٌّ ومُسمّمٌ طعمُ زعامات تُبنى في أتون منافسات وحروب طاحنة بين الإخوة وإخوتهم وبين الرفاق ورفاقهم… ويعرف كم هي زائفة وبدون مجــد، وبأنها لاتدوم أكثر من وقت دوام “ميزان القوى” الذي أتى بها إلى “الموقع”…

و يعرف أن العواقب بعد الخروج من “الموقع”، لا تكون في الغالب إلا أسقاما وأحـزانا وإقامات دائمة في غيتوهات من العزلة، جذريّة…وهو الذي يعرف أيضا وأيضا، كيف تعجز أغلب “زعامات” اليـــوم حتى عن أن تحافظ على وحــدة إطــارات نضالٍ، هي مؤتمنةعليها، بُنيت بتضحيات أجيال من التقدميين ومن اليساريين سواء بسواء…

بنسعيد ايت إيدر مصطفى مسداد و إبراهيم ياسين وسمهاري عمر

وكيف يستسهل بعضهم زيــــادة مزق تلك الإطارات تمزيقا… ويعـرف كيــف يصبـــح سجلّ تنطيطات ومغامرات بعضٍ منهم، أقوى حجة يستعملها الماسكون بالسلطة، لتسفيه وتتفيـه الزعامـة كقيمة، وضرب معنى وضرورة أن يكون للشعب زعمـــاء وقــــــادة حين يقولون وهم يفركون أيديهم من البهجة والشماتة: “ألم نقل لكم بأن “أولاد عبد الواحد كلهم واحد”؟! انظروا كيف أن الواحد منهم “ينسى ربّه بمجرد أن تخاطب بطنـه، أو حتى بمجرد أن توهمه بذلك”!…

بل نحن عشنا، حتى رأينا كيف تجرأت الأيادي العابثة والأثيمة إياها، على أن تلطخ بالقذارة قبر قائـــد وزعيـــم وطني… هو فوق ذلك رجل دولة…!

إنما، هاهم اليوم زعماء كثرٌ، يُجمعون كلهم على الاعتراف للفقيد الراحل، حبّاً وطواعية، بأنه زعيم، وبأنه نموذج لزعيم جمع أطراف الزعامة، مؤهلات وكفاءاتٍ وأخلاقاً… ومع ذلك رغِب عنها، و لم يرغب فيها…لأن الحكيمَ فيه، يحكُم الزعيمَ ويضبطـه …
فيا أيها الحكيم… هوّن عليكك قليلا… فما ذنبك أنت، الذي ما رغبت في زعامة، إذا كانت الزعامة هي التي تسعى إليك، طالبة راغبــة؟…

نزاهتك الفكرية، معدنك الإنساني الأصيل النادر، تواضعك الجمّ، رؤيتك البعيدة الثاقبة، وقدرتك على توليف ما لا يتصور فيه جمع أو توليف، حتى عندما تكون المواد البشرية التي تحمل مشروع هذا اليسار، مستعصية على التوحيد بفعل ذكريات ماضي المواجهات المؤلمة بين جماعاتها واضطهاد بعضها لبعض حتى في السجن، وبسبب التواريخ الشخصية لأفرادها وتكويناتهم النفسية… وخصوصا، عندما تفشل تلك الأطراف، محاولة إثر محاولة، في الإقناع بأفعالها، على أنها حقا وفعلا صاحبة مشروع وحدوي، فترتد بعد كل خطوة تخطوها في اتجاه الوحدة خطوات إلى الوراء، تولّد دائما من الغصص والخيبات، ما يأكل الأحشاء ويسمم ماتبقى من حياة…هذا غيض فقط، من فيض جليل خصالك وأعمالك.

إبراهيم ياسين الثاني على يمين الصورة في حديث مع الإعلامي عبدالرحيم تفنوت

ثم من منا يستطيع أن يزعم بأنه ضبطك مرة واحدة متلبسا وأنت تفرض أو تحاول أن تقرض”أناك”، أنت الذي لا يعثر الواحد منا وهو يفتش في أعماقك سوى على ما يشبه روحا خفيفة مخَلّصة ومطهّرة من أي أثر لهوى أو لنزوة، أو لسطوة قوة من قوى النفس الصـمّاء والعمـياء، التي متى تمكنت من اختـــراق دفاعات كيـــان نفـسيّ ما إلا وعاثت فيه مسخاً حتى يستحيل هو نفسه، بعد أن يكون باع روحه للشيطان، وعاء شيطانياً تُعاد فيه رعاية وتفريخ كل الاستلابات والعبوديات الجديدة “الإرادية”، من كل نوع وما أكثرها… هذه التي تُغِير على الأذهان والأبدان، متنكرة كل مرة في زيّ صيحة من صيحات “سعــــادات” موهومة وتافهـــة، وصور جديـــدة ل “ذكــــاءات” و”نجاحات”، ول”رساميل رمزية” أتفه وبالغة الكلبيــة، “سعادات” تبشّر بها ديانات وإيديولوجيات غرائز وخَلاصات فردية، لا يكلّ الغرب الاستعماري العنصري المجـرم من محاولات تسييـــدها على نطاق كوكبي عبر الإرشـــاء والحرب الإعلامية وشتى الشعوذات “الحداثية”، وهو يرمي فتات الفتات لأذنابه الصغار على امتداد كل هذا الجنوب العالمي من باعة أصوات وأقلام وذمم، ومن باعة مصائر أقوام وأوطان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى