اقتصادالرئسيةسياسة

حصيلة محبطة..نجيب أقصبي: الاقتصاد المغربي تحت سقف من زجاج (من البدايات إلى أزمة كوفيد 19)

بقلم الباحث والخبير الاقتصادي: نجيب أقصبي

ملخص تحليلي
تعود فكرة هذا الكتاب إلى ما قبل أزمة كوفيد-19 بفترة طويلة، ولكن عندما اقتحمت هذه الجائحة حياتنا، خلال الربع الأول من عام 2020، فرضت ذاتها، وبدت أمرا بديهيا، منذ الفصل الأول، حيث أنها، فضلا عن الصدمة التي أحدثتها في الاقتصاد والمجتمع، قدمت لنا دروسا بدت وكأنها تتجاوب تمامًا مع تلك الدروس التي علمنا إياها أي تحليل نزيه واقعي للاقتصاد المغربي منذ فترة طويلة … لذلك تحولت الجائحة إلى لحظة حقيقة، الأمر الذي أجبر الجميع على التفكير بعمق، في توسيع النقاش ليشمل مستوى تجربة الاقتصاد المغربي ككل، وسياسة اقتصاد البلاد لمدة خمسة أو ستة عقود. علاوة على ذلك، فإن الحرب الروسية الأوكرانية، التي اندلعت منتصف شتاء عام 2022، وما وراء آثارها المباشرة (ارتفاع أسعار المواد الخام والمواد الغذائية، مخاطر انعدام الأمن الغذائي والطاقي، إلخ)، تؤكد من وجهة النظر هذه، الاتجاهات الوازنة التي كنا نترقبها: عودة مفاجئة للجغرافيا السياسية، وبالتالي للجغرافيا الاقتصادية، وتعثر “العولمة السعيدة”، وبروز تيارات سيادية ومناهضة للعولمة فرضت وجودها تدريجيا…

تَمَّ تخصيص الفصل الأول للجائحة وحقائقها، وجاء الفصلان الثاني والثالث بتوضيحات حول الخيارات وقدما السياسات التي تم اعتمادها على مدار العقود الستة الماضية، مع مناقشتها، بينما ركز الفصلان الرابع والخامس على تقديم حصيلتها وتقييم نتائجها.

فجأة، ظهرت جائحة كاشفة!

كان من المنطقي، أن نكرس الفصل الأول لأزمة كوفيد-19 في المغرب، بـ “حقائقها”، بوقعها، بل أكثر من هذا بدروسها. تمثلت خاصيتها الأولى في أنها كانت أزمة عرض وأزمة طلب في آن واحد: انهيار للإنتاج والتشغيل من جهة، وانخفاض في القدرة الشرائية بشكل حاد وغير متكافئ، مصحوب بانخفاض قوي في الاستهلاك والاستثمار، من جهة أخرى. وبالتالي، فإن الحقيقة الأولى التي كشفتها الأزمة هي مدى الهشاشة التي يعيش فيها جزء كبير من السكان، ومدى تعرض المواطنين بشكل غير متساوٍ لانعكاسات هذه الأزمة. وبما أن الأمر يتعلق بجائحة، فإن الحقيقة الأخرى التي سرعان ما اضطر كل واحد منا إلى الإقرار بها، هي واقع الصحة العمومية، وبالتالي الخدمات العمومية. وأخيرًا، عندما أُغلقت الحدود، كان على كل واحد أن يدرك حجم التبعية التي أصبحت البلاد تقبع فيها، وما يمثل ذلك من مخاطر على سيادتها. وهكذا أبانت هذه المحنة الجماعية عن حاجة مزدوجة للخدمات العمومية من جهة، والأمن الاجتماعي والوطني من جهة أخرى.

هكذا، بدا أن هناك توافقًا واسع النطاق في الآراء حول درسين يمكن استخلاصهما من هذه التجربة. يتعلق الدرس الأول بضرورة إعادة تأهيل الخدمات العمومية، وتزويدها بالموارد المناسبة لتمكينها من تلبية الحاجيات المشروعة للسكان. ويهم الدرس الثاني العلاقات مع الخارج، وتجسد حول مفهوم السيادة الوطنية، التي تم تفريعها إلى الأمن الصحي والغذائي والطاقي…، كما تم تفعيلها بشكل ملموس في تدابير “الأفضلية الوطنية”، والدعوات إلى تشجيع “استهلاك المنتوج المغربي”، بل ذهبت إلى حد الميول إلى طرح مراجعة اتفاقيات التبادل الحر.

 

إلا أن طيور “السنونو” هذه، للأسف، لم تأتي بالربيع… وبشكل سريع، شعرنا بخيبة الأمل، عندما استعاد الحكام بحزم تشبثهم بالتوجهات العريقة للدولة، وانتهى الأمر عند هذا الحد. بينما هذه التوجهات “الدائمة” هي التي كانت، على أي حال، ستشكل المدخل إلى تحليلنا النقدي لتجربة الاقتصاد المغربي في نصف القرن الماضي. فبعد استيعاب دروس أزمة كوفيد-19 جيدا، انتقلنا في الفصل الثاني إلى جوهر ما سيُطلق عليه لاحقًا “النموذج التنموي” بالمغرب، بدءًا بالخيارات التأسيسية والتوجهات الرئيسية.

خيارات دائمة، مع بعض التطورات

يُظهر لنا الفحص الدقيق للتاريخ الاقتصادي بعد الاستقلال أن “الملكية التنفيذية”، خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، اتّبعت خيارات قوية، بتعاون وثيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ظلت على جدول الأعمال إلى يومنا هذا. وهما خياران: تمثل الأول في خيار اقتصاد السوق مع القطاع الخاص كفاعل رئيسي، بينما تجلى الثاني في النمو “الذي تقوده الصادرات والاندماج في الاقتصاد العالمي”. ويعتبر هذا الخيار المزدوج أيضا رهانا مزدوجا، حيث يتعلق الأول بقدرة القطاع الخاص على أن يكون المحرك الحقيقي للتنمية، من خلال قدرته على الإنتاج والاستثمار وخلق فرص الشغل، بينما يعتمد الثاني على فضائل اندماج جيد في سلاسل القيمة الدولية، وعلى قدرته على الارتقاء بمعدلات النمو. وكانت هذه الرؤية أيضا مدعومة بما يسمى “نظرية التدفق” التي لن يكون ادعائها سوى تفسير مبسط مفاده أن إثراء الأغنياء سينتهي به الأمر ” للسيلان نحو الأسفل” ويعود بالنفع على الفقراء أيضًا …

قامت الدولة، خدمة لاختياراتها الإستراتيجية، خلال العقود الخمسة الماضية بتعبئة موارد كبيرة ونهج سياسات عمومية متعددة ومتنوعة. ومع مرور الوقت والظروف، تطورت هذه السياسات، رغم استمرارها في السعي لتحقيق نفس الأهداف.

ويمكن التذكير بعناوين الفصول المعنية: المغربة، ثم الخوصصة و “الشراكة بين القطاعين العام والخاص”، والاستثمارات العمومية في البنيات التحتية، وقوانين الاستثمار ثم ميثاق الاستثمار، وسياسة التقويم الهيكلي، مع انسحاب الدولة وتحرير الأسعار والأسواق، والسياسات القطاعية. والسياسات الجبائية، والميزانيات النقدية، واتفاقيات التبادل الحر.., و يمكن تحليل كل هذه السياسات على ضوء الاختيار الاستراتيجي المزدوج السلف الذكر: فبعضها يعمل من أجل تحرير الأسواق وتقوية القطاع الخاص، والبعض الآخر من أجل انفتاح أكبر من أي وقت مضى لاقتصاد البلاد ، ومعظمها يعمل لصالح الاثنين معا.

لا يمثل عهد محمد السادس قطيعة، بل منعطفا في مسار توجهات خمسينية، بمعنى أنه يتم الحفاظ على الاختيارات الأساسية، وسيتم اتخاذ مبادرات جديدة لتسريع أو إبراز دينامية معينة، وإعادة تركيب إطار عمل استراتيجي قائم، أو بالأحرى إقحام حكامة جديدة أكثر انسجامًا مع روح العصر. لتعزيز السياسات المميزة للعقدين الماضيين، لقد كان من الضروري تحديد محاور خطط العمل الإستراتيجية الرئيسة التي مازالت تهيكل الاقتصاد المغربي اليوم: الخطط القطاعية؛ و “الأوراش الكبرى” للبنيات التحتية؛ واتفاقيات التبادل الحر الدولية ، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية (في طور التجاوز من قبل “الدولة الاجتماعية” …). وهكذا تمكنا، في الفصل الثالث، من إجراء تحليل يقظ ولكن حاسم لهذه “الأوراش الهيكلية” بمحاولة تسليط الضوء في كل مرة على “وفائها” للاختيارات التي تكمن وراءها، وترسيخها في الاقتصاد السياسي، والعجز الديمقراطي الذي يميز حكامتها ومن هنا ثغراتها وإخفاقاتها.
بعد مراجعة السياسات، سيليها تقويم نتائجها الإجمالية على المدى الطويل. يمكن أن يتم تقويم تجربة الاقتصاد المغربي باعتماد منهجية “عبر الأهداف”، وهي منهجية تتمسك بالمواجهة الباردة للوقائع، وتضع وجهاً لوجه الأهداف مثلما خَطَّط لها “النموذج” نفسه من جهة ، كما تضع إنجازاته من جهة أخرى ، وذلك على مستويين. يتعلق المستوى الأول بالأهداف العملية، والثاني بالأهداف الوظيفية، وهما المستويان اللذان تطرقنا إليهما على التوالي في الفصلين الرابع والخامس. وبطريقة ما، جاء التقييم “خارجيا” في الحالة الأولى، و”داخليا” في الثانية.

حصيلة محبطة واقتصاد “تحت سقف من زجاج”

تطرقنا لتحليل الحصيلة العامة للتجربة الاقتصادية للمغرب، طوال العقدين أو حتى الأربعة عقود الماضية، من خلال أربعة محاور هي الإنتاج والتوزيع والانفتاح والتمويل. و صار من الممكن فهم لماذا وكيف يظل الاقتصاد المغربي اقتصادًا “تحت سقف زجاجي “: نمو ضعيف ومتقلب مازال يعتمد بشكل مفرط على تقلبات الطقس ؛و إنتاجية منخفضة ، وهياكل قطاعية راكدة وأقل اندماجا ، ناهيك عن وجود تراجعات ، مثلما يتضح من تراجع التصنيع ؛ وارتفاع البطالة الحقيقية أو المقنعة والنمو القوي للقطاع غير المهيكل ، وتفاقم الفوارق الاجتماعية و المجالية (المحينة ببيانات جديدة وغير مسبوقة)؛ والتبعية المستمرة التي راكمت عجزًا مزمنًا ، وزادت من تبعية البلاد مع استمرار زيادة معدل تغلغل المنتجات الأجنبية المستوردة ؛ والتنويع غير الكافي للمنتجات وأسواق التصدير، و خطة للمناولة الدولية غير مُرضية من حيث معدلات اندماجها وآثارها على الاقتصاد الوطني؛ ونظام تمويل يُنهك تعبئة الموارد الداخلية ، لا سيما من خلال نظام ضريبي غير فعال بقدر ما هو غير عادل، لا يؤدي إلا إلى عجز مزمن في الميزانية، مصحوب بمديونية مقلقة بشكل متزايد …

بعد مستوى التحليل “العملي”، سمح لنا المستوى الثاني، الذي وصفناه بالوظيفي، بتقييم النتائج المحصل عليها، ليس في حد ذاتها، ولكن بالنظر إلى الأهداف التي حددها صانعو القرار بأنفسهم لإستراتيجيتهم. وتمثل ذلك في اختبار “وظيفية” النموذج وقدرته على الانخراط في الرؤية العامة لمصمميه. ولمتطلبات التحليل، تم تحديد ثلاثة مستويات من الأهداف، التي تعود في الواقع إلى ثلاث رهانات تعهدنا برفعها: اقتصاد سوق منفتح وشفاف، وقطاع خاص فعال وجريء، واندماج في الاقتصاد العالمي من شأنه أن يؤدي إلى الحرية والازدهار. واستنادا إلى الحقائق والأرقام والشهادات، استطاع تحليلنا تسليط الضوء على هذا الاستنتاج المؤسف والذي لا مفر منه: إجمالا، خسرنا الرهانات…

أولاً، أوضحنا كيف أن الاقتصاد المغربي، نظرًا لأهمية وامتداد القطاعات التي ما تزال “تُدار” عن طريق الريع و\أو التوافق بين مجموعات المصالح المهيمنة، ظل بعيدًا عن اقتصادٍ السوق يستحق هذا الاسم.

وقد فحصنا حالات بارزة، في قطاعات الصناعة والبنوك وتكنولوجيا المعلومات الجديدة والمحروقات، وفي كل مرة، عاينَّا الكلفة الاقتصادية الباهظة الناتجة عن هذا الوضع والتي تساهم بقوة في تعطيل الاقتصاد المغربي. بعد ذلك، بينّا، بالدلائل والأرقام، أننا لم نجد غير الدولة وأدوات عملها العديدة، عوض انبثاق وتطور قطاع خاص، كما كان متوقعا، بل وحتى “طبقة برجوازية” حاملة لمشروع لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل يشمل الجانب المجتمعي أيضًا. هكذا، استمرت الدولة على الخصوص في ضمان الحصة الأكبر من الاستثمار، وبالتالي السيطرة على الدعامات الرئيسية للتنمية.

بطبيعة الحال، لهذا الأداء المعكوس كلفته أيضًا، من حيث جودة التراكم، وحجم ظاهرة “الأفيال البيضاء”، والأثر على وتيرة النمو، ومستوى وطبيعة مناصب الشغل التي تم خلقها …

أخيرًا، أشرنا إلى كيف أن انفتاحا مفروضا ودوغمائيا وغير مدروس، لم يفرز سوى تأثيرات ضارة “على جميع المستويات”: توسيع اقتصاد الاستيراد “قاتل” للمنتجين المحليين ومُنزف للعملة الصعبة، ونموذج للمناولة يخلق علاقات تبعية جديدة وغير متكافئة، وتأثير سلبي على النمو والشغل، ومخيب للآمال فيما يتعلق بالتدفقات السياحية والاستثمارات الأجنبية…

في ختام هذا الجزء، حرصنا أيضًا على إبراز مسؤولية “الفاعلين المحليين”، هؤلاء المقاولين والمصدرين الذين كان عليهم أن يشكلوا رأس الرمح في غزو الأسواق الأجنبية، والذين تبينت محدوديتهم في ما يخص المبادرة وغزو الأسواق، ما جعلنا نستنتج أنه إذا خُسرت “المعركة”، فذلك أيضا بسبب قصور المحاربين…

في النهاية، نجد الحصيلة مخيبة للأمل: لقد أردنا السوق، فحصلنا على الريع والتوافق والاحتكار؛ وفتحنا ذراعينا للقطاع الخاص فاحتضنا القطاع العام، ثم حلمنا بـ “تنينات” التصدير، فإذا بنا أصبحنا “قاعدة” لاستقبال كل الواردات!

“الحكامة” التي تعيق الإقلاع

 

و بقيت محاولة التأمل في سبب وكيفية حدوث مثل هذه النكسة، والتي هي موضوع “خاتمة عامة” إذ تُمثل في الواقع فصلا إضافيا – من حوالي ثلاثين صفحة – تظهر فيه مقاربة المؤلف أكثر تجذرًا في الاقتصاد السياسي، مع الطموح إلى تقديم إجابات متكاملة للأسئلة الأساسية، مثل : لماذا هذا العناد في الحفاظ على نفس الاختيارات التي أدت إلى نفس الانتكاسات؟ كيف أدت نفس الأسباب إلى نفس العواقب؟ لماذا فشلت الدولة؟ لماذا أفضى “القطاع الخاص” إلى خيبة أمل؟ لماذا لم تكن “البرجوازية” “برجوازية” فعلا؟ ما مسؤولية الفاعلين الرئيسيين في هذه “الحكاية” المؤسفة؟ ما مسؤولية المؤسسات المالية الدولية التي “رافقت” هذه التجربة المغربية الطويلة بشكل دائم؟ كيف ارتبط الاقتصادي بالسياسي ليفضي إلى اقتصاد أصبحت “حكامته” عائقا أمام إقلاعه وارتقائه”؟ وبشكل أكثر تحديدا: ما مسؤولية النظام السياسي، أي نظام اتخاذ القرار، الذي حدد الاختيارات ونفَّذ السياسات التي أدت إلى النتائج التي نعرفها؟ ومجمل القول وبكل بساطة: ما مسؤولية النظام السياسي في تعثر المسار التنموي للبلاد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى