جليل طليمات يكتب: بعد طوفان الأقصى أي أفق لمقترح “حل الدولتين”؟ +فيديوهات وصور
طيلة أزيد من خمس وسبعين سنة مرت على اغتصاب الحركة الصهيونية لأرض فلسطين وإقامة كيان قومي يهودي على قاعدة العقيدة الصهيونية التلمودية التي تقول إن أرض فلسطين “وعد إلهي لليهود”، ووفق الترتيبات التجزيئية “السايسبيكونية” “، لم يتوقف الكيان الصهيوني عن ارتكاب المجازر، وعمليات الإبادة و التهجير من أجل خلق واقع ديمغرافي جديد يمحي الشعب الفلسطيني من الوجود، أو يجعل منه، في أحسن الأحوال، أقلية في وطنه المغتصب.
وقد امتدت عدوانيته, ونزعته التوسعية إلى دول المحيط العربي، فخاض حروبا ضد مصر, وسوريا ,ولبنان, والأردن, واحتل, وضم أجزاء من أراضيها منذ عدوان يونيو 1967, مدفوعا, في ذلك, بحلم إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر.
إن استعادة هذه البديهة التاريخية حول طبيعة المشروع الصهيوني مسألة جوهرية في تناول الأسئلة التي ختمت بها مقالي السابق, وهي: هل مقترح” حل الدولتين” الملتبس ,والمعطل منذ أزيد من عشرين سنة, ممكن التحقق بعد جحيم حرب الإبادة الصهيونية في غزة, و بعد الدعم الأمريكي المطلق لها و,الانحياز الغربي الرسمي لها , وفي ظل سلبية النظام الرسمي العربي في مواجهتها, وتواطؤ قسم وازن منه معها ؟ أم أنه دفن نهائيا تحت أنقاض دمارها؟
يجدر التذكير بداية, أنه قبل طوفان الأقصى لم يكن أفق ” حل الدولتين” ممكن التحقق كتسوية تاريخية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني,لأنه, من جهة, يتعارض مع إستراتيجية بناء “إسرائيل الكبرى” التي تشكل جوهر المشروع الصهيوني, وعقيدته المؤسسة له، كما تم الإشارة إليه أعلاه, ومن جهة ثانية, لأن ” أتفاق أوسلو”, كما أبرز عبد الإله بلقزيز في كتابه ” زمن الانتفاضة “: ” لا يتضمن أي تعاقد للمتفاوضين على هذا الحل.., لم يستند إلى مرجعية قانونية شرعية, ولا هو نص على الهدف من المفاوضات! وهما, معا, ثغرتان خطيرتان فيه !.., لم يرد في نص الاتفاق أن هدف المفاوضات هو تحقيق انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 “.
وعليه , فمقترح ” حل الدولتين”,جاء ضمن ما عرف ب “خارطة الطريق” للجنة الرباعية الدولية المشكلة سنة 2002 من الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي في أعقاب انتفاضة الأقصى المجيد, وبعد فشل “مفاوضات الحل النهائي” المنصوص عليها في “اتفاق أوسلو”.
ومنذ ذلك التاريخ , وعلى مدى أزيد من عشرين سنة, أصبح مصطلح ” حل الدولتين” عنوان مختلف مبادرات السلام : تبنته ” المبادرة العربية للسلام” لسنة 2002 , ثم ” صفقة القرن”,و “الاتفاقات الإبراهيمية” في عهد الرئيس الأمريكي ترامب, وهاهي الإدارة الأمريكية, في نهاية عهد بإيدن, وبريطانيا, تدعوان إليه اليوم في غمرة انخراطهما الكلي في العدوان على غزة في مناورة لامتصاص غضب حلفائهما لعرب “المعتدلين” والمطبعين.
هذا , هو, ما جعل ” حل الدولتين”, المتداول بكثافة, محاطا بكثير من الالتباس والاختلاف في تصور شكل ومضمون هتين “الدولتين” : فالكيان الصهيوني, كدولة احتلال قائمة, تزداد توسعا, يرفض قيام أي دولة فلسطينية مستقلة بجواره, ويضع كل العراقيل على ألأرض كي لا تقوم لها قائمة, عبر توسيع الاستيطان وقضم مزيد من أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية, ومن خلال تعطيل المفاوضات حول ” الوضع النهائي” فكل ما يسعى إليه هو قيام حكم ذاتي إداري فلسطيني تحت المراقبة الأمنية الصهيونية, وهو واقع ما يسمى تجاوزا ” بالدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع”, التي ليست في الواقع , غير كيان ممزق الأوصال, لا يتوفر على أدنى مقومات سيادة دولة مستقلة .
أما بخصوص ” المبادرة السلام العربية” لسنة 2002, فقد ربطت “حل الدولتين” بالانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وفق مبدأ ” الأرض مقابل السلام”, إلا أن قسما وازنا من النظام الإقليمي العربي خرقها عندما عقد “سلاما” بلا انسحاب وإنهاء للاحتلال من أراضي 1967, سلام مقابل أوهام التطبيع كما سوقتها إدارة “ترامب”.
إن مبادرة السلام العربية, كما قال الكاتب اللبناني فواز طرابلسي في إحدى حواراته ” قامت على بلاهة أصلية تفترض أن العرب يمتلكون السلام, و أن إسرائيل تحتاج إلى سلام”.
هكذا انتهى اتفاق اوسلو ” إلى الفشل: فبدل أن تنتج منه دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية ( كما في المبادرة العربية), تمددت دولة الاحتلال في مدن وقرى الضفة الغربية, وازدهرت مستوطناتها المحيطة بها، , وقزمت مساحة ” الدولة الفلسطينية “في الضفة , وأحكمت الحصار على غزة, فبات مقترح “حل الدولتين” مجرد سراب, وعبارات مسكوكة في بيانات مؤتمرات العجز والسلبية والانقسام للنظام الإقليمي العربي, خاصة بعد الشروخ التي أضافتها ” صفقة القرن” “الاتفاقات الإبراهيمية” اللتين اشترت بهما أمريكا ودولة الاحتلال “سلاما” رخيصا من سبع دول خارج طوق المواجهة !
لقد بددت ملحمة طوفان الأقصى, المتواصلة, ببطولة وصمود أسطوريين, ما تبقى من أوهام تسووية وفق مقتضيات “اتفاق أوسلو”, وغيرها من الاتفاقات, و وضعت مصداقية وجدية ما سمي ” مبادرة السلام العربية” أمام تحدي ما آلت, وستؤول, إليه أوضاع المنطقة في ظل إصرار حكومة اليمين الصهيوني الديني المتطرف على إبادة سكان غزة, وتصفية مكونات محور المقاومة, وعلى جر حلفائه إلى حرب شاملة تستهدف المشروع النووي الإيراني.
إن عاما من الصمود الفلسطيني أمام آلة التدمير والإبادة لفلسطينيي غزة, ووضعت( الملحمة) دولة الاحتلال أمام تحديات كبرى داخلية وخارجية, ذات طبيعة وجودية.
هكذا, أصبحت الشروط الموضوعية والذاتية, إقليميا وفلسطينيا, وعلى مستوى الرأي العام العالمي مهيأة أكثر من أي وقت مضى لإحداث تغيير نوعي في موازين الصراع ضد المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة يفتح إمكانية أجتراح أفق سياسي بديل “لنفق أوسلو” ونتا ئجه الكارثية على النضال الوطني الفلسطيني التحرري.
في هذا السياق ,للنظام العربي الرسمي مسؤولية تاريخية في بلوغ ذلك ,كما للصف الوطني الفلسطيني الدور الحاسم في تثمير مكاسب ملحمة ” طوفان الأقصى”, وترجمتها إلى فعل سياسي, ومقاوم, موحد ومؤثر في هذه اللحظة الهستيرية من العدوان الصهيوني, و في مرحلة ” ما بعد طوفان الأقصى”:
على المستوى العربي الرسمي: بعد أن كشف ” طوفان الأقصى”, وأكد, مرة أخرى بشكل دموي غير مسبوق ,على رفض الكيان الصهيوني المطلق لقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة, وعلى إصراره إطالة أمد العدوان إلى حين تحقيق حلم اليمين الصهيوني العنصري بالتصفية النهائية للمقاومة, وللقضية الفلسطينية كقضية تحرير وطني, فإن دول النظام العربي مطالبة بوقف المسار التطبيعي مع الكيان الصهيوني, وعدم الرهان الكلي على الوعود الأمريكية بالضغط على حليفها لقبول “حل الدولتين”, كما أنها مطالبة بالتضامن الفعلي, الوقوف بلا تردد إلى جانب المقاومة كخيار مشروع في الدفاع عن الأرض والوجود بدل إسقاطه, والتواطؤ ضده باسم ” المقاومة الشعبية السلمية فقط” تارة, أو بادعاءات مذهبية وطائفية, وتوجسات من حلفاء المقاومة في المنطقة ,تارة أخرى.
إن الدعم العالمي الشعبي العارم لنضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه التاريخية المشروعة, مقابل العزلة الدولية للكيان الصهيوني ككيان دموي, قاتل للأطفال, ومتابع بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من طرف العدالة الدولية, إن ذلك وغيره, يفرض على النظام العربي الرسمي, مبدئيا وأخلاقيا, الاستثمار السياسي والدبلوماسي في ذلك, والانخراط في حملة المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية للكيان الصهيوني, وتجميد اتفاقات التطبيع معه, القديمة منها والجديدة والمتوقعة، مع تسخير مختلف المقدرات العربية لدعم صمود المقاومة في كل فلسطين, وكسر الحصار بشكل فوري على غزة, وتسوية المشكلات العربية -العربية على قاعدة أولوية القضية الفلسطينية كقضية عربية مركزية ومصيرية, فالكيان الصهيوني يستهدف, أيضا, الأوضاع الداخلية للدول العربية بما فيها تلك التي أبرم معها اتفاقات “سلام”, ويهدد سيادتها على ثرواتها, ومصالح شعوبها.
ولاشك في أن للقوى العربية الشعبية, الحزبية والنقابية والثقافية والجمعوية..,دور حيوي في إسناد صمود الشعب الفلسطيني, ما يطرح عليها تعزيز وتأطير الزخم الشعبي العارم الذي أطلقته ملحمة “طوفان الأقصى” وخوض “معركة الوعي ” في مواجهة مختلف النزعات ” الإيديولوجية” والهوياتية العنصرية المضللة, وتفعيل حملات المقاطعة الاقتصادية لدولة الاحتلال, وتجديد وتوطيد العلاقات بينها وبين فصائل حركة التحرر الوطني الفلسطينية .
أما على المستوى الفلسطيني: فلقد قدم الشعب الفلسطيني, بكافة تنظيماته وفصائله نموذجا في التضامن, والانخراط في معركة “طوفان الأقصى”, وأفشل مخطط التهجير ما أنضج الشرط الذاتي لإنهاء الانقسام الداخلي على قاعدة رؤية برنامجية وطنية توافقية, تعيد النظر جذريا في العلاقة بمرجعية “اتفاق أوسلو” ومقتضياته, وتؤسس لأفق سياسي وطني موحد, سياسي وهيكلي تنظيمي لمرحلة ما بعد طوفان الأقصى وفي هذا السياق, فإن استئناف الحوار الوطني بين فصائل العمل الوطني والقوى الشعبية لتفعيل اتفاقات لقاء بكين الأخير بات مسألة مستعجلة للتقدم في صياغة والاتفاق على برنامج وطني موحد, و وفي إعادة بناء مؤسسات العمل الوطني وتأهيلها ,خاصة, إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيعها على قاعدة التوافق الوطني والنظام الداخلي الديمقراطي و ترسيخها, من جديد, كممثل وحيد للشعب الفلسطيني دون منافسة أي لها في ذلك – كما جاء في بيانات ورسائل وجهتها أكثر من جهة عربية سياسية وفكرية إلى القوى الوطنية الفلسطينية – , قبل معركة طوفان الأقصى , وفي غمرتها .
واليوم , وبعد عام من الصمود الفلسطيني في كل فلسطين, فإن أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة الاحتلال وفق مقتضيات مقترح “حل الدولتين” سيبقى مسدودا دون مقاومة: فقد أثبتت دولة إسرائيل باستمرار أنها غير معنية “بحل الدولتين”, وهذا ما يؤكده عدوانها الهمجي على غزة والضفة, تلك الخرائط المستفزة التي رفعها النتن ياهو في وجه العالم من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة . كما أثبتت تجربة أزيد من عقدين من الزمن, أن لوك واجترار مقترح “حل الدولتين” من طرف النظام العربي الرسمي, و “السلطة الوطنية الفلسطينية”, ووضعه في تعارض مع أية مقاومة ميدانية مسلحة لم يزيدا الكيان الصهيوني غير تغول في التنكيل بالشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع, وتوغل في الاستيطان, واخيرا أثبتت مدى بلاهة عقد اتفاقات مع الكيان المحتل على أساس أنها تيسر طريق “السلام” وتحقيق مقترح “حل الدولتين” بينما هي قتلته بالخذلان، و هاهو يدفن إلى الأبد تحت أنقاض دمار غزة .
وعليه, فلا خلاص للشعب الفلسطيني دون مقاومة ,ولا استثمارا, و لا ترصيدا سياسيا في مستوى تطلعاته الوطنية التاريخية المشروعة, وفي مستوى تضحياته الجسيمة دون وحدة كل قواه الوطنية على اختلاف مرجعياتها, فهي الرهان الأكبر والحاسم, لمرحلة ما بعد طوفان الأقصى, وعليها يتوقف تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى للنضال الوطني التحرري الفلسطيني وفي مقدمتها إنهاِء الاحتلال ,وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة, كهدف مرحلي لا يلغي مواصلة النضال بمختلف الأشكال لتحقيق ما سماه الراحل محمد عابد الجابري في مقال له بمناسبة مرور عشر سنوات على اتفاق أوسلو , “بالحل العقلاني الوحيد الممكن و “الحالم” أيضا, وهو قيام دولة فلسطينية اتحادية في فلسطين كلها “.