اقتصادالرئسية

الكساد الكبير: العاصفة التي أعادت تشكيل العالم

في كل مرة تهب فيها رياح الأزمات الاقتصادية، تعود إلى الواجهة سيرة الكساد الكبير الذي اجتاح الولايات المتحدة مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، واضعاً بصمته العميقة على التاريخ السياسي والاقتصادي للعالم بأسره، ومع تصاعد السياسات الحمائية في السنوات الأخيرة، لا سيما في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، طفا إلى السطح من جديد هذا الشبح القديم، محملاً بذكريات الانهيارات والركود والفقر الجماعي، ومثيراً تساؤلات عن مدى قربنا من تكرار الكارثة.

لم يكن الانهيار وليد لحظة مفاجئة بل كان تتويجاً لمسار اقتصادي مشحون التناقضات، فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، عاشت الولايات المتحدة ما عرف بـ”العشرينيات الهادرة”، وهي فترة ازدهار غير مسبوق من حيث النمو الصناعي والاستهلاك وتوسع الأسواق المالية، و ارتفعت معدلات الإنتاج بشكل حاد، وانتشرت التكنولوجيا الحديثة في كل منزل، من السيارات إلى الراديو، وتوسعت مشاريع البناء، وازدهرت البورصة لتغدو وسيلة استثمارية جاذبة لشرائح واسعة من الشعب، هذا الانتعاش، كما يوضح الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة، كان مدفوعاً بجهود القطاع الخاص، الذي ساهم في تضاعف معدلات الاستهلاك وعدد الطلاب وابتكار منتجات جديدة.

لكن تحت هذا الازدهار السطحي، كانت البنية الاقتصادية تعاني هشاشة عميقة، فقد ترك توزيع الاستثمارات غير المتوازن فجوات واسعة، وأدى إلى تراكم رؤوس أموال في قطاعات غير إنتاجية، في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال تلملم جراحها من الحرب، وتعيش على وقع تعويضات قاسية فرضتها معاهدة فرساي، و مع مرور الوقت، تحوّلت البورصة إلى مسرح للمضاربات الواسعة، وبدأ الناس يستثمرون بأموال مقترضة سعياً وراء أرباح سريعة، فارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وبدأت فقاعة السوق تتضخم إلى أن بدأ كبار المستثمرين بالانسحاب فجأة، ليهوي كل شيء في أكتوبر 1929.

ما حدث بعدها كان أشبه بسلسلة من الدومين، حيث تسارعت وتيرة الانهيار، وبدأت موجة سحب جماعي للودائع من البنوك، مما أدى إلى إفلاس أكثر من 8000 مصرف خلال ثلاث سنوات فقط، آلاف المصانع توقفت عن الإنتاج، وبلغت نسبة البطالة 25% من عدد السكان.
من جهة أخرى، انهارت أسعار المحاصيل في الريف، ووجد المزارعون أنفسهم أمام شبح فقدان أراضيهم، كان المشهد كافياً لولادة ما سُمّيت بـ”مدن الصفيح”، التي انتشرت في ضواحي المدن الكبرى، وحملت اسم “هوفرفيل” في دلالة على الرئيس هربرت هوفر، الذي أخفق في اتخاذ إجراءات ناجعة لاحتواء الأزمة.

كما و تجاوزت تداعيات الكساد حدود الولايات المتحدة لتضرب النظام المالي العالمي برمّته، فألمانيا، التي كانت تعتمد على القروض الأمريكية لتسديد تعويضات الحرب، غرقت في أزمة اقتصادية خانقة، وانتهى بها المطاف إلى انهيار النظام الديمقراطي وصعود الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر عام 1933.

في بريطانيا، فقد الجنيه قيمته عام 1931، وتقلّصت التجارة بشكل حاد، فيما عانت المستعمرات من تراجع حاد في الطلب على صادراتها الزراعية، مما زاد من حدة التهميش الاقتصادي والاجتماعي.

في محاولة يائسة لإنقاذ الاقتصاد، مرر الكونغرس الأمريكي قانون “سموت–هاولي” عام 1930، الذي فرض تعريفات جمركية على أكثر من 20 ألف سلعة أجنبية، تحت ذريعة حماية الإنتاج الوطني، لكن ما حدث هو العكس تماماً؛ إذ ردت الدول الأخرى بإجراءات مماثلة، وانهارت التجارة العالمية بنسبة 65% بين عامي 1929 و1934، وعلى الرغم من التحذيرات التي أطلقها أكثر من ألف خبير اقتصادي، لم يفعّل الرئيس هوفر حق النقض، مما ساهم في تعميق العزلة الاقتصادية للولايات المتحدة.

يصف الخبراء هذه المرحلة بأنها نتيجة لتراكم سوء الإدارة الاقتصادية، وتضارب المصالح، وانفجار الفقاعة المالية، مشيراً إلى أن الكساد لم يكن أزمة مالية عابرة، بل لحظة انكشاف للبنية الاقتصادية العالمية المهترئة، التي عجزت عن امتصاص الصدمات الكبرى الناتجة عن الحرب والمضاربات والحمائية.

حين تولى فرانكلين روزفلت الرئاسة في مارس 1933، أطلق خطة “الصفقة الجديدة” التي أعادت تعريف دور الدولة في الاقتصاد، و قام بإغلاق البنوك الضعيفة، وأطلق مشاريع بنى تحتية ضخمة وفّرت ملايين الوظائف، وفرض قوانين تنظيمية جديدة على الأسواق، ساهم هذا التحول في إعادة الثقة تدريجياً ، لكنه أيضاً مهّد لتحولات سياسية موازية في أوروبا، حيث صعدت الأنظمة الفاشية على أنقاض الديمقراطيات المهزوزة.

ويشير بعض الخبراء إلى تحذيرات الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز خلال مفاوضات معاهدة فرساي، حين نبه إلى أن معاقبة ألمانيا بشروط قاسية سيدفعها إلى رد فعل كارثي، وهو ما تجسد فعلياً في صعود النازية والحرب العالمية الثانية.

في الحاضر، عادت سياسات الحماية الاقتصادية إلى الواجهة. ففي خلال هذه السنة، قرر الرئيس ترامب فرض تعريفات جمركية واسعة طالت حتى الدول الحليفة، مثل بريطانيا، رغم وجود فائض تجاري لصالح الولايات المتحدة، وقد رأى العديد من الخبراء، ومنهم الدكتور حبيقة، أن هذه الإجراءات تُذكّر بما جرى في ثلاثينيات القرن الماضي، محذرين من أنها قد تؤدي إلى ركود اقتصادي جديد يمتد إلى الساحة السياسية.

ومع تغير موازين القوى الاقتصادية العالمية، لم تعد الولايات المتحدة تهيمن كما كانت من قبل، بل أصبحت مجبرة على التعامل مع صعود لاعبين جدد مثل الصين وأوروبا، أما بريطانيا، فقد باتت تواجه صعوبات حقيقية في تأكيد استقلاليتها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

الدرس الذي يبقى حياً من الكساد الكبير هو أن الأزمات الاقتصادية الكبرى لا تُولد فجأة، بل تتراكم عبر سنوات من الخيارات السيئة، وتجاهل المؤشرات التحذيرية، فحين يفوق الطلب العرض، وتتفشى البطالة، وتنهار الثقة في المؤسسات، تصبح الكارثة وشيكة.
الثقة، هي العملة الأهم، فقدانها يهدد بانهيار النظام بأكمله، والكساد الكبير يظل تذكرة مريرة بأن العالم لا يحتمل تكرار الأخطاء، لأن الثمن سيكون فادحاً كما كان في ثلاثينيات القرن الماضي، وربما أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى