الرئسيةفكر .. تنوير

صمت الفلسفة في زمن الإبادة المباشرة

في السادس والعشرين من ماي تحلّ ذكرى وفاة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889–1976)، لكن استحضار اسمه هذا العام لا يأتي بوصفه تمريناً أكاديمياً بارداً، بل كمرآة مؤلمة لواقع عالمي يعيد إنتاج أكثر لحظات التاريخ ظلاماً… بالصوت، بالصورة، وعلى الهواء مباشرة.

°بقلم بثينة المكودي

العالم اليوم لا يعيش سؤال “الوجود” بقدر ما يعيش سؤال “النجاة”.

لا يتساءل عن معنى الكينونة، بل عن كيف يُكتب الموت جماعياً، وكيف تُمحى المدن من الخريطة، وكيف يتحول الإنسان إلى رقم في نشرة الأخبار.

في غزة، في أوكرانيا، في السودان، في الكونغو، في اليمن…

لا تُرتكب المجازر سرا، بل تُبثّ مباشرة، ويمارس القتل ببارد الدم، وتُنزع الإنسانية على مرأى من العالم

ليس سؤال الفلسفة اليوم عن معنى الوجود، بقدر ما صار سؤالا عن معنى الصمت؛ صمت الفلاسفة أمام المذابح، وصمت المفكرين أمام الخراب الإنساني، وصمت من نذروا حياتهم للتأمل… حين كان العالم يحترق.

في قراءة عابرة  للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، تعود الأسئلة المؤلمة إلى الواجهة كيف لفيلسوف الوجود أن يتعامى عن فظاعة الإبادة؟ كيف لمن فكك معنى الكينونة أن يعجز عن تفكيك آلة الموت؟ وكيف لفكرٍ ادّعى ملامسة جوهر الإنسان أن يتواطأ بالصمت أو التنظير  مع أكثر الحقب ظلاماً في التاريخ؟

هايدغر، الذي بشّر بـ«الوجود الأصيل»، لم يتردّد في الاصطفاف إلى جانب النازية، لا بوصفه مواطن خائف، بل بوصفه فيلسوفا منح النظام العنصري غطاء فكريا وكأن الجرائم تصبح أقل دموية حين تُلفّ بمفردات الفلسفة.

وحين نُسائل إرثه اليوم، لا نفعل ذلك بدافع تصفية حساب فكري، بل من منطلق أخلاقي هل يمكن فصل الفكر عن الجريمة؟ وهل يُعفى الفيلسوف من مسؤوليته التاريخية لأنه كتب نصوصاً عميقة؟

التاريخ لا يحاكم الأفكار المجردة، بل يُحاكم أثرها ماذا فعلت بالناس؟ من حمت؟ ومن برّرت قتلهم؟

لقد علّمنا هايدغر التفكير في «الوجود»، لكنه فشل في الدفاع عن الإنسان تحدث عن القلق الوجودي، لكنه لم يتوقف كثيراً أمام القلق الحقيقي، ذاك الذي يرافق الأمهات في طريقهن إلى المقابر الجماعية، أو الأطفال تحت القصف، أو الشعوب التي تُستباح باسم التفوق والهوية والخلاص القومي.

ونحن اليوم في عالم يتكرر فيه القتل، وتُعاد فيه مأساة الإبادة بأزياء جديدة لا يمكننا الاحتفاء بالفلاسفة دون مساءلتهم. لا يمكننا قراءة النصوص بمعزل عن الدم، ولا تحليل المفاهيم دون استحضار الأجساد التي سُحقت تحتها.

الفلسفة، إن لم تكن في صف الحياة، تصبح مجرد ديكور ثقافي لآلة الموت.

ليس المطلوب طمس أثر هايدغر، ولا شطبه من التاريخ الفكري، بل تحرير الفلسفة من وهم الحياد. مراجعة ذاك الإرث بعين يقظة، تُدرك أن العبقرية لا تبرئ من الخيانة، وأن عمق الفكر لا يُبرر السقوط الأخلاقي.

فالمفكر الحقيقي ليس من يجيد شرح العالم…

بل من يجرؤ على تغييره أو على الأقل، يرفض أن يكون شريكاً في قتله بصمته.

وفي زمن تُقصف فيه المدن، وتُباد فيه الشعوب، وتُزيَّف فيه الضمائر، نحتاج إلى فلاسفة ينحازون للإنسان، لا للفكرة العمياء، ولا للسلطة الغاشمة.

ذكرى هايدغر ليست مناسبة احتفائية…

بل جرس إنذار حين تصمت الفلسفة، يتكلم الرصاص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى