ذاكرة

محمد فكري يروي يوميات معنقل سياسي بمعتقل التعذيب درب مولاي الشريف (الحلقة 13)

كل نهر، وله نبع ومجرى وحياة!
يا صديقي!.. أرضنا ليست بعاقر
كل أرض، ولها ميلادها..
كل فجر وله موعد ثائر.
محمود درويش
……………………………………………………………….
في أحد الليالي، سمعنا حركة غير عادية في السجن وأصوات الحراس تسمع من على بعد أمتار من زنازنا، والذي حل لغز هذه الجلبة التي كنا نسمع، مرة أخرى هو “با دود” ففي الصباح الباكر بدأ ينادي بأعلى صوته باسم محمد البشير الزناكي، والرفيق الزناكي كان من ضمن المجموعة التي بقيت بعدنا في الدرب لشهور أخرى، ولأول مرة أسمع إسمه كاملا.

عبدالله زعزع والمشتري بلعباس والحبيب بنمالك… وأخرين بالسجن المركزي بالقنيطرة

سماعنا اسمه، جعلنا نتأكد أن رفاقنا قد جيء بهم من درب مولاي الشريف للسجن، هم لم يضعوهم في الحي الذي كنا فيه، بل وضعوهم في مكان آخر بعيد عنا. “وبا دودو” ربما كان مارا أو من ضمن المستقبلين، وبقي إسم محمد البشير الزناكي عالقا بذهنه، فأراد أن يوصل لنا هذه الرسالة بطريقته الخاصة دون إثارة انتباه الآخرين، وقد كان يتظاهر أمام الحراس ببعض السذاجة التي كثيرا ما تجلب له سخريتهم، والحقيقة أنه كان يتصرف بذكاء، ولم يكن ساذجا أو مغفلا، بل كان يعرف كيف يستوحذ على ثقة السجناء وعطفهم، وهم بدورهم، يحرسون على تجنب أي شيء يتسبب في ضرره.

بعد حضور رفاقنا للسجن بدأ العد العكسي لإحالتنا على المحاكمة، نحن كنا في عزلة شبه تامة في زنزانتنا، والأصح أنني كنت في عزلة تامة، لا أعرف كيف سيتم التحضير للمحاكمة، وأجهل كيف سأتصرف وأجيب عن الأسئلة التي ستطرح علي. فالمحامي الذي تطوع للدفاع عني، الأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي، زارني مرة واحدة فقط في الأيام الأولى لوضعنا بغبيلة. ولم يكن لدي أي اتصال بالخارج، ربما قد أكون الشخص الوحيد الذي لم يزره أي أحد، طيلة المدة التي قضيتها بسجن غبيلة، من غشت 1975 حتى مارس 1977.

صورة جماعية للمعتقلين السياسيين لليسار الراديكالي بالسجن المركزي

المهم بدأت تصلنا الأصداء من الخارج عن طريق العائلات، أو من بعض المحامين، أن محاكمتنا على وشك أن تنطلق، وأن هناك هيئة دفاع قد تكونت قد بدأت الاتصال بالمعتقلين، وخصوصا ممن يعتبرونهم في القيادة، للتنسيق معهم ومناقشة الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه المحاكمة، وعلمت أنهم اقترحوا، هيئة الدفاع، أن تطرح كل القضايا المتعلقة ببرنامج الثورة الوطنية الديقراطية باسثناء قضية الصحراء وما يسمى “الجمهورية العربية الصحراوية”، فرفض الرفاق هذا الطرح وأصروا على عدم استبعاد تأييد البوليازريو وجمهوريتها، مما جعل هيئة الدفاع المقترحة والمكون أغلبها من الاتحاديين، تشعر بالحرج أمام هذا الموقف.

ويجب التنويه هنا أن الشهيد عمر بن جلون كان من بين المتطوعين في هيئة الدفاع عنا، وقد زار أحد الرفاق المعتقلين، لا أعلم من هو، قبل جريمة إغتياله بقليل. ومن عادة الشهيد أن ينكت دائما في أحاديثه، فقال في تلك الزيارة: “بعضنا أعتقل على دراجة هوائية “بشكليط” والبعض على دراجة نارية “موطور””.

كان يقصد بالحالة الأولى المرحوم محمد أطلس الذي أعتقل حاملا حقيبة مملوءة بالسلاح على متن دراجة هوائية، عن طريق الصدفة، بمدينة مراكش، وليس هذا فقط، بل إن هذه الدراجة كانت في ملكية لحسن زغلول المقاوم المشهور المكلف بإدارة مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش، والمسؤول التنظيمي عن أإقليم مراكش؛ وقد كان البوليس يبحث عنه لاعتقاله في ذلك الوقت، والكل كان يعرف أن تلك الدراجة في ملكية المقاوم لحسن زغلول، فبواستطاتها كان يتنقل من مقر الحزب بشارع فاطمة الزهراء، طريق الرميلة، إلى منزله الواقع بسيدي أيوب أو باب أيلان، لم أعد أذكر الحي بالضبط، وخاصة من طرف البوليس السري السياسي.

والحالة الثانية يقصد بها محمد الكرفاتي الذي اعتقل أيضا صدفة، وهو على متن دراجة نارية بدون أوراق. وبقي صامدا في مخفر الشرطة لأكثر من خمسة عشر يوما دون أن يفصح عن اسمه وهويته، ونحن لم نستغل هذا الوقت لنتخذ الاحتياطات اللازمة والوقائية. وحين أرادوا أن يوجهوا للكرفاتي تهمة سرقة دراجة نارية، ويحيلونه على المحكمة، جاءته “النخوة” فأفصح عن هويته، ومن ثم إكتشف البوليس أنه وقع في يديه كنز ثمين جدا.

سجن درب مولاي الشريف

إنها أخطاء وقعت وكان من نتائجها الكارثية، في الحالة الأولى، أدت للحكم على المرحوم محمد أطلس بالإعدام، وقضائه حوالي 18 سنة في حي المحكومين بالإعدام، وتصوروا معي حالة محكوم بالاعدام وهو ينتظر وفي أية لحظة يقول هذه هي النهاية، وقد مر من نفس المكان، ضباط الطيران بقاعدة القنيطرة، المتهمون بمحاولة انقلاب غشت 72، أمقران ومن معه، الذين نفذ فيهم الإعدام، وبعد ذلك شهداء أحداث 3 مارس 73، عمر دهكون ومن معه، الذين أعدموا صباح أحد أيام عيد الأضحى، قبل أن يخفض حكمه إلى عشرين سنة، ويخرج من السجن بعد إتمامها. رحم الله محمد أطلس، ورحم كل شهداء وضحايا محاكمات سنوات الجمر والرصاص، دون استثناء، وفي الحالة الثانية، الكرفاتي، والتي أدت إلى هدم البناية التي حفر لها الأساس وشرع في وضع لبناتها الأولى، ولكن في لحظة، بدأ ردم الأساس وهدم ما شرع في بنائه.
/
حديث السجن لا ينتهي
/
أجمل التحيات للعزيزات والأعزاء، وجزيل الشكر لهن ولهم على ما أبدوه من اهتمام ومتابعة وتفاعل.
محبتي للجميع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى