رأي/ كرونيك

بنكيران موضوعا للبلاغة…

عزالدين بونيت

سخر كثيرون عند سماعهم بخبر التئام لجنة علمية لمناقشة أطروحة في البلاغة تتخذ موضوعا لها، المنجز الخطابي لرئيس الحكومة السابق والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عبد الاله بنكيران؛ سخروا من البلاغة، ومن بنكيران، ومن البحث العلمي، ومن الجامعة، ومن كل ما طالته مخيلة السخرية عندهم.

هذا امر وارد ومتوقع، بل لعله من الهزات الارتدادية المتأخرة للظاهرة الكيرانية نفسها، ثلاث سنوات بعد إركان الرجل، ومحاولات اسدال الستار على ما تبقى من ظله فوق الخشبة. وهذا وحده ينبغي ان يكون كافيا لإفهامنا ان الموضوع في غاية الجدية والجدارة العلمية وغيرها.

لم يزعجني في هذه الموجة من الاستهجان، إلا أمر واحد: ان يحملها على العاتق عدد من الجامعيين، بل و”المتخصصين” الأقرب الى هذا الميدان البحثي، بنفس ردود فعل “العامة” غير المتخصصة، حتى خيل إلي أنه ربما سيأتي علينا يوم نسمع فيه خبر انبراء الأطباء لفحص السيد بنكيران (أدام الله صحته) ولا نتفاجأ باندلاع حملة سخرية واستهجان لهؤلاء الاطباء الذين يزعمون ان جسد هذا الرجل يستحق الفحص، وان يكون من بين الساخرين المستهجنين أطباء ومختبريون ومتخصصون في الفحص بالأشعة وممرضون، وصيدلانيون…

من المفهوم ان يستغرب غير المتخصصين علاقة بنكيران بالبلاغة أما أهل الميدان من سيميوطيقيين ولغويين وبلاغيين، فليس من حقهم ان ينخرطوا في الجوقة بلا روية ولا حس بالمسؤولية العلمية

من يستهجن تناول المظهر الخطابي لأداء بنكيران السياسي، لا بد أنه لا يدرك ان السياسة تتحقق اولا في الخطابة، وأن هذا الشكل القولي كان اولا وقبل كل شيء ذا وظيفة سياسية قبل ان نحصره نحن في الوعظ الديني ليوم الجمعة. ولعل كثيرين منا ينسون، أو لا يعلمون، ان خطبة الجمعة نفسها كانت فعلا سياسيا صريحا، قبل ان تتحول الى فعل سياسي متخف في ثوب وعظي.

الوجه الاول للخطابة هو السياسة، والوجه الاول للسياسة هو الخطابة، لا سيما حين يكون طريق الوصول الى السلطة هو إقناع الجماهير (الديمقراطية، أو الديماغوجية).

اما البلاغة كعلم فقد نشأت أصلا في علاقتها بالخطابة والحجاج. وعندما كتب أرسطو كتاب الخطابة، كتبه في سياق إشكاليته العامة المتعلقة بقوة اللغة ومجالات تأثيرها في الواقع ومصادر هذا التأثير ومظاهره. وأراد فيه ان يتناول تأثير اللغة من الجانب السياسي. ولذلك ظل كتاب البلاغة (الريطوريقا) وثيق الصلة بكتاب السياسة. وعندما نشأت البلاغة في الثقافة العربية، نشأت في خضم السياسة والجدل الكلامي الذي هو أساسا جدل سياسي قبل ان يكون عقديا. ومبحث الاعجاز، بالذات، الذي كان من المباحث المؤسسة للبلاغة العربية، على الرغم من مظهره الديني هو مبحث ذو ملابسات وامتدادات سياسية عميقة.

لم تتقوقع البلاغة في المجال الأدبي والشعري حصرا إلا في العصور المتأخرة بل إن حصر اهتمامها في التشبيه والتمثيل والاستعارة والصور الشعرية كان وليد بداية القرن العشرين حين تمت استعادتها من غفوتها الطويلة

اليوم تتسع مجالات الدرس البلاغي لتشمل التجارة والإعلام والقانون (القضاء والمحاماة)، فضلا عن السياسة والأدب. وما ينبغي ان يثير الاستغراب حقا، ليس هو ان يدرس باحث خطب بنكيران، بل ان نرى كل هذا التأفف، صادرا عمن يفترض فيهم انهم يعرفون علاقة البلاغة بالسياسة، وان يصل بهم الوثوق الايديولوجي، حد جحود حقيقة لا مفر منها، هي ان خطب بنكيران كان لها تأثير وفعل في المشهد السياسي المغربي، بلا مزايدة ولا تبخيس.

لكل ما سبق، أتمنى على هواة النقد السياسوي ان يتعففوا عندما يتعلق الامر بالبحث العلمي، وان لا يتجاوزوا كل حدود المعقول المقبول في إجهازهم على مصداقية البحث العلمي، حتى قبل ان يتبينوا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى